الكاتب الفلسطيني الكبير سلمان ناطور في حوار مع "القدس الثقافي":

تاريخ النشر 12/7/2009 0:35

الذاكرة عندما تغفل ترتكب خيانة وألومها لأنها ترفض مسح ما أريد أن يمسح

*السخرية السوداء هي سلاح المقاومة الذي ألجأ اليه ضد من يحاول اقتلاعي أو يشكك بحقي في البقاء*عندما يصبح جمع التاريخ الشفوي مشروعا وطنيا، فان الجميع سيهتم به*شرط صياغة رواية راقية هو نشؤها في مناخ ديمقراطي يجيز كشف الحقائق دون خوف أو رقابة*رغم سياسة التمييز ومحاولات الاقتلاع وطمس الهوية فقد نجحنا في الحفاظ على ثقافتنا الفلسطينية وتطويرها* 

*بحث عن الانسان من وراء القضية لا عن قضية بلا انسان، منح حياته للكتابة عن الذاكرة الفلسطينية التي يتهددها النسيان، يؤكد ان الضباع ستأكلنا إن بقينا بلا ذاكرة.

يرى الكاتب الفسطيني ابن دالية الكرمل "سلمان ناطور" أن جمع التأريخ الشفوي الفلسطيني يجب أن يصبح مشروعا وطنيا، داعيا مختلف المؤسسات الثقافية للعب دور في ذلك.

لا يبدي تخوفه على الثقافة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، فهو يقول" رغم سياسة التمييز ومحاولات الاقتلاع وطمس الهوية فقد نجحنا في الحفاظ على ثقافتنا الفلسطينية وتطويرها". عن أهمية حفظ الذاكرة الفلسطينية والحفاظ على الهوية الثقافية يتحدث الناطور في هذا الحوار المطول.

**الترجمة إلى "الايطالية"

*لقد تمت ترجمة كتابك"ذاكرة" إلى اللغة الايطالية..لماذا بالتحديد ترجم الكتاب إلى هذه اللغة؟وهل تنوون ترجمته إلى لغات أخرى؟

-بادر الى ترجمة الكتاب للغة لايطالية كل من الجالية الفلسطينية في مدينة بادوفا وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في ايطاليا ودار النشر "اديزيوني كيو" وذلك بعد جولة من الأمسيات في عدد من المدن الايطالية قدمت فيها قراءات من "ذاكرة" أثارت اهتمام الجمهور الايطالي الذي أراد أن يعرف المزيد من الحكايات الفلسطينية وكان لصدور الكتاب لاحقا أصداء بالغة في أوساط ايطالية تؤيد نضال الشعب الفلسطيني وهي تعتمد على الكتاب في مواجهاتها لأوساط شوهت الصهيونية أفكارها ولم تعد تميز بين الضحية والمعتدي. أنجزت ترجمة الكتاب الى اللغة الفرنسية أيضا وهي تخضع للتحرير والتدقيق وآمل أن ينشر هذا العام، كذلك أبدت مؤسسات نشر عبرية اهتماما خاصا بالكتاب وطلبت مني كتابته باللغة العبرية لتتولى نشره وقد باشرت وأرجو أيضا أن يصدر حتى نهاية هذا العام. 

**لوم الذاكرة

*تقول في كتابك آنف الذكر:ألوم الذاكرة لأنها تخونني، وألومها لأنها ترفض أن تخونني ولا أعرف كيف أتعامل معها، هل بكثير من الحب أم بحقد أعمى؟..لماذا تخونك الذاكرة؟ولماذا لا تعرف كيف تتعامل معها؟

-في لغتنا العربية نحن نعبر عن النسيان بخيانة الذاكرة، أي أن الذاكرة ليست مجرد مخزن معلومات بل هي أيضا عامل ادراكي وهي كالساعة المنبهة لا تملك فقط الدليل على الزمن بل توقظنا حين يجب ان نستيقظ والذاكرة عندما تغفل ترتكب خيانة ما لأن عليها أن تكون متيقظة دائما لكي لا نغفل نحن، ولكن ما العمل اذا كان كل منا ينسى وتخونه ذاكرته؟ أنا أيضا كفرد تخونني ذاكرتي وألومها لأنها تخونني، هي لا تعرف رغباتي في التذكر وأنا لا أستطيع أن أحدد لها ما هو المهم وما هو التافه في ما تختزنه من ذكريات، ولذلك فعندما أنسى ما أعتقد أنه مهم فانني ألقي بغضبي عليها، وفي الوقت ذاته هناك ذكريات أتمنى أن تمسح من الذاكرة ولكنني لا أستطيع أن آمر ذاكرتي بأن تمسحها، هذا هو الفرق بين ذاكرتنا وذاكرة الكومبيوتر؛ زر "الديليلت" غير موجود فينا، وربما أن هذا سبب من أسباب تعاستنا في الحياة، وهنا أيضا ألوم الذاكرة لأنها ترفض مسح ما أريد أن يمسح. هذه الحالة محيّرة لأن ذاكرتي هي جزء أصيل من الأنا وبطبيعة الحال فان نزعتي الأنانية تشدني الى السيطرة على هذه الذاكرة والتحكم بها خدمة لرغباتي، ولكن الذاكرة تحظى باستقلال ذاتي، هي تأخذ كل ما تريد أنت أن تعطيها لكنها تعطيك كل ما هي تريد. 

**الإنسان من وراء القضية

*"ذاكرة" يلخص رحلة طويلة لك مع الذاكرة الوطنية والرواية الشفوية تجاوزت ثلاثين عاما ..هل هناك شيء جميل اكتشفته غير الهزيمة والنكبة؟

-إن أجمل ما في هذه الرحلة هو ما اكتشفته غير الهزيمة والنكبة، فأنا لست مؤرخا علميا يبحث عن الحقيقة العلمية ولو كنت كذلك لتوجهت الى الأرشيفات والكتب والتقارير الرسمية والعسكرية. لقد بحثت عن الانسان الذي عايش هذه المرحلة الصعبة والمستحيلة وأردت أن أعرف وقائع ما حدث كما بقيت في ذاكرته، كان يهمني في لقائي مع ذاكرته التفاصيل الصغيرة اليومية وبحثت عن جرحه وألمه وعن فرحه وعاداته اليومية وطقوسه، لقد بحثت عن الانسان من وراء القضية لا عن قضية بلا انسان وقد امتنعت واعيا عن تقديم ذاكرة كئيبة فقط، لأن الذاكرة الكئيبة تؤدي اما الى الانتحار أو الجريمة، وهذا ما لا أريده لشعبي. فالصهيونية صاغت لها وروجت لذاكرة كئيبة فقط من سبي بابل ومسادة والى المحرقة، وها نحن نرى النتيجة؛ الجريمة المتواصلة. في محاولاتي خلال ثلاثين عاما نبش الذاكرة اكتشفت فلسطين الجميلة، الحضارية، المناضلة، الحالمة، وفلسطين العروس التي كانت تتهيأ ليوم زفافها على ابن عمها ولكن جاء غريب واختطفها، وهي فلسطين التي أرهقتها سياسة الـ "فرق تسد" البريطانية، باختلاق صراعات طائفية وحمائلية وبدور ماكر في الصراع ضد الصهيونية، وما النكبة سوى نتيجة حتمية لهذه الحالة.

**قريتي وطني الصغير

*كتابك "سفر على سفر" تكريس للكتابة عن قريتك دالية الكرمل حيث تحمل اجواءها وذاكرتها ..ما الذي تعنيه "دالية الكرمل" بالنسبة لسلمان ناطور؟ ولماذا لجأت إلى السخرية السوداء والهزل الكوميدي في هذا الكتاب بالتحديد؟

-قريتي هي وطني الصغير، وأنا مثل كل الناس احمل هذا الوطن أينما ذهبت، أحمله ذاكرة وذكريات وروائح طيبة وحكايات ووجوها لا تغيب عني وحبا وغضبا وحزنا وفرحا، هناك من يجاهر بهذه العلاقة مع وطنه الصغير وهناك من يخفيها أو يخجل بها أو يهرب منها، ولكنني أحب هذه العلاقة مع قريتي التي لا أفارقها الا لضرورات ملحة وقصيرة. السخرية السوداء هي سلاح المقاومة الذي ألجأ اليه ضد من يحاول اقتلاعي من هذا الوطن أو يشكك بحقي في البقاء على أرضه.

**الترحال يعلم حب الوطن

*أنت دائم السفر والترحال ..ما الذي تعلمته من ترحالك؟

-أنا لا أتمتع بعقلية سائح ولا أسافر في رحلات سياحية وسفري كان ولا يزال لمهمات ثقافية أو سياسية للمشاركة في مؤتمرات أو ندوات، وما يلفت انتباهي في السفر هو اللقاء الثقافي مع الآخرين ومع المكان الجديد، أي علاقة الانسان بالمكان. أبحث دائما عن الاختلاف في رؤية الانسان الآخر لمكان اقامته، ومن ناحية أخر] أدرس علاقتي أنا بهذا المكان الجديد والغريب، وأكثر ما تعلمته من الترحال هو أن حبي للمكان الذي أعيش فيه، أي لوطني، هو عشق غيبي صوفي يلتهب أكثر كلما ابتعدت عنه، تماما كعاشق يبتعد عن عشيقته، ليس فقط لأنه يحبها بل أيضا لأنه يدرك بأنه سيعود اليها.

**نوع جديد من الكتابة

          *تقول في مقدمة كتابك"سفر على سفر": هذا الكتاب ليس سيرة وليس مسيرة وليس رواية وليس أدب الرحلة والترحال ليس وصفًا لعبقرية المكان وليس مرحلة ولا قضية....هو نفي مطلق وهو فكرة مجردة وهو لا شيء تمامًا لا شيء..ما الذي تقصده بذلك؟هل هو نوع جديد من الكتابة؟

         -نعم، ربما يكون نوعا جديدا من الكتابة، الكتابة المحررة من الأشكال التقليدية للكتابة ومن البنى الأدبية المألوفة التي تحشر الكاتب في قوالب جاهزة، وفي سفر على سفر كل عناصر الكتابة غير مكتملة وغير تقليدية ففيها الرواية والخاطرة والجملة الشعرية والمونولوج المسرحي وقد اجتمعت في النص لاحتواء كل الصور التي تخلقها رحلات في الوطن وخارجه، وأنا لم أقرر ذلك مسبقا، تماما كمن يخرج من بيته الى لا مكان محدد، هو يخرج لأنه عاف البقاء في البيت وهدف خروجه هو الخلاص من حالة اكتئاب ألمت به بسبب بقائه اللامجدي في البيت. أنا لا أحمل في هذا الكتاب أية رسالة الى القاريء، ولا أريد أن أعلمه شيئا ولا أعرفه على المكان الذي أكتب عنه، بل أحاول أن أنقل اليه حالة نفسية ، حالتي أنا وحالات الناس الذين ألتقيهم في هذا السفر، مثل فدوى حبيب الفلسطينية الهائمة منذ التشرد والتي تعبر عن تشردها بتنقلها من مكان الى مكان وبأعمالها الفنية التي تتنقل معها.

**تقصير في الكتابة عن الذاكرة

*قلت في مقالة لك: نكتب عن هوشة، وكأننا نكتب عن الكساير. موقع واحد، شعب واحد  ومصير واحد. وبدأنا نبحث في شفا عمرو، في سخنين، في البعنة، ولو كانت مهمتنا البحث عن أحياء لوصلنا إلي بيروت والشام والبحرين..هل تعتقد أن هناك تقصيرا منا نحن الفلسطينيين في الكتابة عن ذاكرتنا لتبقى القضية حية وبكل تفاصيلها؟

-هناك تقصير كبير في الكتابة عن ذاكرتنا، نحن لا نقدر قيمة الذاكرة، أهملناها وانشغلنا بهموم الحياة اليومية وبمشروعنا السياسي الكبير ولم ندرك أن أهم أسس نجاح هذا المشروع هو صيانة الذاكرة وصياغة رواية فلسطينية جماعية، جيل النكبة يرحل يوما بعد يوم ويأخذ معه حكاياته وقد تأخرنا عليه أكثر من خمسين عاما، لم نوثق حكاياته وسيرته وروايته الشفوية، في السنوات العشر الأخيرة حاولنا كشعب التعويض عن هذا التقصير فازداد الاهتمام بالتاريخ الشفوي، وأنا سعيد بذلك.

*قلت في محاضرة لك: ما تزال الناصرة تشهر هويتها العربية، عاصمة الجليل، ما تزال قادرة على الحفاظ على هويتها العربية..وتضيف: المدينة الفلسطينية كانت منارة ثقافية قبل النكبة وتستعيد هذا الاشعاع، ألا تعتقد أن ذلك مبالغا فيه في ظل اعصار التهويد الذي يعاني منه الجليل وسائر المكان الفلسطيني؟

-الناصرة وحيفا وعكا ويافا وقرانا في الجليل والمثلث والنقب، تقاوم التهويد، ويناضل الفلسطينيون فيها من أجل الحفاظ على الأرض وعلى اللغة وعلى التراث والهوية، وهم صامدون ويحققون انجازات كبيرة، فلدينا حركة أدبية نشطة وحركة فنية راسخة ولدينا مؤسساتنا الثقافية والحضارية، وكلها امتداد للحركة الثقافية قبل النكبة والتي كانت فيها هذه المدن منارات حضارية مشعة، ليس فقط عل مستوى فلسطين بل العالم العربي من المحيط الى الخليج والعالم ايضا، ففي الناصرة وحيفا ويافا صدرت عشرات الصحف والكتب الأدبية وترجمت الروايات الروسية والفرنسية ولم يكن مصادفة أن القوات الصهيونية عام 1948 استهدفت في بداية مشروعها التدميري المدينة الفلسطينية، واحتلت المدن قبل القرى ودمرت معالمها الحضارية ومؤسساتها الثقافية، وبعد الاحتلال والتشريد واصلت مشروع طمس الهوية الفلسطينية في وعي الفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم وعلى أرضهم.

**أخشى على ضياع الذاكرة

*جمع التأريخ الشفوي لنكبة فلسطين تقع على مسؤولية من؟

-المسؤولية تقع على عواتقنا جميعا، على المؤسسة وعلى الأفراد، عندما يصبح جمع التاريخ الشفوي مشروعا وطنيا، فان الجميع سيهتم به. في كل بيت انسان تقدم به العمر وفي ذاكرته سيرة مليئة بالحكايات والمعلومات، ويستطيع كل فرد في العائلة من جيل الأبناء والأحفاد أن يسجل ذكريات هذا المسن أو المسنة، وعلى المؤسسة التعليمية والتربوية أن تخصص الحصص لجمع الذاكرة واعادة انتاجها والاعتماد عليها في فعاليات أدبية وفنية، فالتاريخ الشفوي هو أجمل المواد الخام للابداعات الفنية والأدبية، وفي العالم أعظم الروايات المعاصرة اعتمدت التاريخ الشفوي.

*هل تخشى على ضياع الذاكرة الفلسطينية..ما هو أكثر من يخيفك بهذا الشأن؟

-نعم أخشى، لأن مشروعنا لم يكتمل بعد، وأخشى أن يذهب جيل النكبة قبل أن نوثق كل ما عنده من تفاصيل، قلت: ستأكلنا الضباع ان بقينا بلا ذاكرة، وهذا ما يخيفني.  

**الرواية الصهيونية تتفوق

*طالبت سابقا بضرورة أن ترتقي  الرواية الفلسطينية إلى مستوى رفيع يقنع الرأي العام العالمي بها، في مقابل الرواية الصهيونية التي اقتنع الكثيرون في العالم بها، رغم ما تحفل به من ادعاء..ما هي اوجه الضعف في الرواية الفلسطينية؟وكيف يمكن الارتقاء بها؟

-حتى الآن الرواية الصهيونية حول ما حدث في مائة عام في فلسطين هي الرواية السائدة في العالم رغم كل ما فيها من تزييف وتشويه للحقائق التاريخية، وقد عملت الصهيونية بكل ما تملك من طاقات من أجل تعميم هذه الرواية مستفيدة من امكاناتها اللامحدودة ومن غياب رواية فلسطينية موازية. لكي ننسج رواية فلسطينية لا يكفي أن نخاطب أنفسنا ولا يجوز أن تكون أحادية الرؤية بل يجب أن تكون حصيلة اجتهادات عديدة ومتنوعة تشارك في صياغتها المؤسسة الرسمية والمؤسسة الأكاديمية وكذلك الفعاليات الشعبية والجماهيرية والابداعية كالأدب والفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية. ان شرط صياغة رواية راقية هو نشؤها في مناخ ديمقراطي يجيز كشف الحقائق دون خوف أو رقابة وتكون قادرة على النقد الذاتي، هناك العديد من الأخطاء والخطايا الفلسطينية التي ارتكبت خلال قرن من الزمن ولا يمكن أن نصوغ رواية مقنعة اذا لم نتطرق الى هذه الخطايا على مستوى القيادات أو على المستويات الشعبية والاجتماعية، فهل يمكن أن نبني رواية مقنعة حول نهب الأرض دون الحديث عن سماسرة الأرض؟ وهل يمكن أن تقوم رواية تاريخية فلسطينية فقط على تمجيد البطولات والأبطال، ولا تتحدث عن الخيانات والانتكاسات والتجاوزات التي كانت عاملا في ضرب كل الثورات والانتفاضات الفلسطينية؟ الرواية التاريخية توضع للتاريخ أولا واعتمادا على التاريخ والتاريخ تعددي وتنوعي ومن يريد أن يدونه عليه أن يأخذ منه كل ما فيه لا أن ينتقي ما يعجبه ويهمل ما لا يعجبه.

**لا نريد ان ينظر إلينا العرب بعين التخوين

*كيف يمكن تعزيز التواصل بين الداخل الفلسطيني والعالم العربي؟

-المؤسف أن العالم العربي تعامل دائما مع الداخل الفلسطيني باعتباره جزء من الكيان الصهيوني وهذا ما أرادت الصهيونية أن تحققه وعملت على ترسيخه في الوعي العربي، ولم يسعفنا التأكيد دائما على أننا جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ومن الأمة العربية، ولا يمكن تعزيز هذا التواصل الا اذا ذوّت العرب في كل مكان أننا جزء حي وفاعل من الأمة العربية والتواصل معنا ليس تطبيعا مع العدو، بل هو تطبيع للعلاقات بيننا وبين العالم العربي. نحن لا نريد أن ينظر الينا العالم العربي بعين التخوين ولا بعين العطف والشفقة، بل باعتبارنا نشكل جماعة عربية فلسطينية لها خصوصية موقعها ولها تطلعاتها وأيضا قدراتها على الاسهام في بناء الحضارة العربية ولها احساسها بالهم العربي العام.

**الأدب بالوراثة

*كان والدك شاعرا وانت تنتمي إلى عائلة  يسري فيها الادب بالوراثة..أين انت من الشعر؟وما الذي تعلمته من والدك؟

-والدي كان شاعرا شعبيا وكذلك عمه الذي أحمل اسمه، وقد نشأت في بيئة قرأت وكتبت الشعر ومنذ كنت طفلا أردت أن أكون شاعرا متأثرا بأبي وبالشعر العربي الذي درسته في المدرسة، لقد تعلمت من أبي الاصغاء الى ايقاع الشعر والتمييز بين الجملة الشعرية والجملة النثرية ورغم أنني لم أدرس عروض الشعر وبحوره الا أنني أحس بكسر الوزن في بيت الشعر وهذا يعود الى أبي واسلوبه الرائع في القاء الشعر. كنت أكتب الشعر في طفولتي ولكنني توقفت لاحقا ولجأت الى النثر ومنذ ذلك لم أعد الى القصيدة الا يوم توفي والدي فكتبت قصيدة بالعامية اعتبرتها وفاء له وقرأتها في مهرجان تأبينه.

**خيانة الفلسفة

*كان الكتاب الأول الذي ألفته في مجال الفلسفة..، ولكن بعد ذلك تحولت إلى السياسة،لماذا خنت الفلسفة؟

-الكتاب الأول "اراء ودراسات في الفكر والفلسفة" صدر عام 1971 وهو مجموعة مقالات فلسفية كتبتها متأثرا بدراستي الجامعية لموضوع الفلسفة وكنت أتمنى مواصلة الكتابة الفلسفية ولكن انخراطي في العمل السياسي أبعدني عن عالم الفلسفة مع أن الفكر الفلسفي كان بالنسبة لي بوصلة العمل السياسي واعتبر العزوف عن الفلسفة خيانة لأنها الحب الأول وقد عدت اليها مؤخرا، عدت الى الكتب التي كنت قرأتها والى التفكير الفلسفي المجرد لأن أسئلة الفلسفة هي أسئلة الحياة وأشعر مع بلوغي الستين من العمر أن الحياة أكثر جدية مما كنت أتصور من قبل خاصة وأن أسئلة العجز والموت والنهاية أصبحت على الأبواب.

**تجربة الزنزانة تعزز قناعات النضال

*تعرضت لتجربة الاعتقال..هل لك ان تطلعنا اكثر على ذلك؟وما الذي يعنيه السجن لك وماذا تعلمت منه؟

-اعتقلت مرتين وفرضت علي الاقامة الاجبارية في البيت لمدة ستة شهور كذلك منعت لمدة 15 عاما من الدخول الى المناطق المحتلة عام 1967 وكانت هذه وغيرها محاولات قمعية لردعي عن نشاطي السياسي والتعبير عن موقفي الوطني وقد اكتشفت في زنزانة الجلمة قيمة الحرية ومعانيها وهي عمقت في نفسي الاصرار على مواصلة النضال من أجل الحرية، تجربة السجن عززت قناعاتي بما كنت أفكر به، وجعلتني أكثر صلابة وعندما فرضت علي الاقامة الاجبارية في البيت تحول بيتي الى قاعدة نشاط وفيه عقدت الاجتماعات السياسية واللقاءات ونقل مكتب مجلة الجديد التي كنت احررها في ذلك الوقت، وما كتبته لاحقا عن تجربة السجن هو رسالة الى الأحرار لئلا يرهبهم السجن والى سلطات القمع بعدم جدوى سياستهم تجاه الناس الأحرار.

**"ضد" المدينة

*لم توافق على تحوُّل قريتك إلى مدينة..هل تخشى المدنية؟

-لقد أعلنت الحكومة عن دالية الكرمل مدينة بعد دمجها مع القرية الجارة عسفيا. أنا مع وحدة قرانا ولكن ليس بقرار من السلطة هدفه الأول تقليص الميزانيات وخلق صراعات تصب في روافد السياسة السلطوية، ولذلك عارضت هذا الدمج، كذلك أرفض أن تتحول قريتي الى مدينة لأنني اريد العيش في قرية هادئة لها نكهتها ومناخها ولا أخشى المدينة، فحيفا هي مدينتي الأقرب وفيها عملت ودرست وأتناول وجباتي الثقافية وألتقي الأصدقاء ولا أشعر نفسي قرويا في مدينة ومثلما لا يجوز التنازل عن حياة المدينة فلا يجوز التنازل عن حياة القرية.

**نجحنا في الحفاظ على ثقافتنا

*بشكل عام،كيف تقيم الحركة الادبية والثقافية داخل فلسطين عام 48؟

-رغم سياسة التمييز ومحاولات الاقتلاع وطمس الهوية فقد نجحنا في الحفاظ على ثقافتنا الفلسطينية وتطويرها وأعتقد أن تجربتنا لم تعرف مجموعات قومية أخرى مثيلا لها، اذ كانت كل الفرص مهيأة للذوبان في المجتمع الصهيوني اليهودي وعملت آلة كبيرة على هذا التذويب ولكننا صمدنا في وجهها وبلورنا حركة ثقافية راقية هي استمرار للحركة الثقافية قبل النكبة وهي فرع من فروع الثقافة الفلسطينية والعربية واكتسبت حضورا أيضا في الثقافة العالمية. لهذه الثقافة خصوصياتها ولها نفسها وروحها المميزة فهي ثقافة مقاومة باعتبارها الخط الأمامي في مواجهة الفكر الصهيوني ، انها ثقافة تناضل من أجل بقائها في أتون الممارسة الصهيونية وأيديولوجيتها العنصرية ولا يمكن أن تكون غير ذلك اذا كانت تطمح الى البقاء. طبعا هي ككل حركة ثقافية لها عناصر قوة وعناصر ضعف وعلينا أن نعمل باستمرار للمحافظة على عناصر قوتها وتمكين عناصر ضعفها لتحجيمها قدر المستطاع. 

**كيف يمكن استغلال فعاليات احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009 لخدمة القضية الفلسطينية؟

-عام القدس عاصمة الثقافة الفلسطينية هو فرصة تاريخية ليس فقط لتعزيز مكانة القدس في الوجدان العربي والعالمي وللتأكيد على عروبتها، بل أيضا لاعلاء شأن الثقافة الفلسطينية عربيا وعالميا. فعاليات هذا العام يجب ألا تتوقف عند حدود القدس بل يجب أن تشمل كل الوطن الفلسطيني ما احتل عام 48 وعام 67 ويجب أن تحمل رسالة واضحة الى العالم اننا شعب حضاري ويحمل رسالة حضارية وصراعنا ضد الاحتلال هو صراع من أجل الحرية كقيمة انسانية والسلام كقيمة كونية والديمقراطية كقيمة مدنية، هذه القيم التي يجب أن تحملها رسالة القدس ستضع القضية الفلسطينية في وجدان العرب اولا والعالم ثانيا، وبقدر ما نتقن الاداء و"ونكون قدر الحملة" فاننا سنكسب شعبا وقضية.

**ما الذي بقي لتكتب عنه بعد هذه السنوات الطويلة من الكتابة؟

-الكثير، الكثير. لم أكتب كل ما أفكر وأحلم به والرواية الفلسفية هي هاجسي الملح. أعود اليها في هذه الأيام وأرجو أن أنجز مشروع رواية جديدة بعيدة حاضرنا وواقعنا ومآسينا حتى نهاية هذا العام.

**جرى تحويل انتاج عدة افلام وثائقية استنادا إلى كتبك..ألا تنوي الحديث مع فنانين عرب لانتاج فيلم أو افلام سينمائية عن الرواية الفلسطينية التي تقوم بالتسجيل لها؟

-في مسرحية "قصص تحت الاحتلال" لمسرح القصبة وأم الشرايط لمسرح شفاعمرو وفيلم "طائفة في بيت النار" لحيان الجعبة وغيرها من الأعمال الفنية المسرحية والسينمائية اعتمدت العديد من النصوص التي كتبتها وفي أحيان يذكر المصدر وفي أحيان كثيرة لا يذكر، وأنا لا أتابع ولا ألاحق وان كنت أعتقد أن المحافظة على حقوق الملكية للكاتب هي مسألة أخلاقية وابداعية ويجب الالتزام بها، ولكنني لا أتوجه الى فنانين أو منتجين اذ أن كل ما كتبته نشر على الملأ ويستطيع أي منتج توظيفه، وكل ما أرجوه هو أن يبلغني مسبقا ويحترم حقوق النشر.

**الحوار فعل نضالي لكني ضد التطبيع الثقافي

*ما الذي يمكن أن يجنيه المثقفون الفلسطينيون داخل الخط الأخضر من فتح حوارات ولقاءات ثقافية مع ادباء ومثقفين اسرائيليين؟

-الحوار مع المثقفين الاسرائيلييين ليس فيه أي مردود شخصي للمثقفين الفلسطينيين وليس الهدف منه جني أي فائدة بل هو فعل نضالي للتأثير على الوعي الاسرائيلي لانهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني القومية. قلت اننا في خط المواجهة الامامي مع الصهيونية ودورنا التاريخي هو التأثير على الرأي العام الاسرائيلي لكشف موبقات الصهيونية ولاثارة الأسئلة المفصلية معهم مثل مفهوم الدولة اليهودية والحقوق التاريخية ووجود اليهود في الشرق العربي. هذه الأسئلة ليست من هموم الشارع الاسرائيلي بل من هموم المثقفين الاسرائيليين. أنا ضد التطبيع الثقافي وضد اللقاءات العربية الاسرائيلية في الوطن أو في الخارج اذا كانت تحمل فكرة التعايش بين الحصان وراكبه وكأن لا صراع بين الطرفين وما يجري البحث فيه هو المشاريع المشتركة، هذه اللقاءات بائسة وليست مجدية وتخدم الاسرائيلي ولكن هناك مثقفون اسرائيلون يناضلون معنا ضد الاحتلال ولهم مواقف واضحة من الصهيونية والدولة اليهودية وهم منبوذون ومقاطعون في مجتمعهم، فلا يجوز التعامل معهم كأعداء ولا يجوز مقاطعتهم بل يجب دعم نضالهم التقدمي في مجتمعهم العنصري.

*قلت في تصريح صحفي:يوما بعد يوم يدرك الاسرائيليون أنهم لا يستطيعون الحديث عن سلام دون الحديث عن النكبة وحق العودة..ألا تعتقد بأن الخارطة السياسية الجديدة في اسرائيل تعكس توجهات مغايرة؟

-الخارطة السياسية الجديدة لا تختلف عن سابقاتها والثوابت الاسرائيلية لا تتغير من حكومة الى أخرى ولم تكن في اسرائيل حكومة تعترف بمسؤولية اسرائيل عن النكبة أو بحق العودة، والمؤسف أن المفاوض الفلسطيني لم يضع هذه المسألة شرطا لأي حوار مع أية حكومة اسرائيلية. ما رأيناه كان العكس ، فالمفاوض الاسرائيلي كان يشترط الحوار باسقاط هذا الاعتراف، هكذا كان في اوسلو وكامب ديفيد ولهذا السبب تعثرت وتتعثر المفاوضات.

*ما هو جديد سلمان ناطور؟

-ثلاثية تشمل: ذاكرة، وسفر على سفر، وانتظار، بعنوان: ستون عاما/ رحلة الصحراء صدر عن دار الشروق في عمان ورام الله.

*هل لك من كلمة أخيرة للقراء؟

-من الكرمل الجميل ومن حيفا الحالمة على البحر أحيي قراء القدس أينما كانوا وأشكر هيئة تحريرها على هذا اللقاء وتبقى الأمنية الأكبر أن ينقلع الاحتلال وجرائمه ومجرموه ليبقى وطننا معطاء وينبض ثقافة وسلاما.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2441
//echo 111; ?>