صدر مؤخّرًا للشاعر حسين مُهنّا، أبن قرية البقيعة الجليليّة، ديوان شعري جديد بعنوان: "أخذتني القوافي". طُبعَ في مطبعة الحقيقة في كفر ياسيف، ووقع في 62 صفحة من القطع المتوسّط. ضمّنه الشّاعر باقة من أشعاره العَموديّة، توزّعت جميعها على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي.
جاءت مضامين قصائد الدّيوان، على تنوّعها، ضمن خيط فنيّ جمعها في قالب شعريّ مألوف من حيث الشّكل، جديد مبهر من حيث أسلوب الشّاعر في التّعبير، حيث لاحظنا أنّه اعتمد الصّورة الشّعريّة الحسّيّة بشكل متماثل ومتداخل تمامًا مع المعنى المجرّد الذي يبتغيه.
هذا التّماثل والتّداخل بين الصّورة الشعريّة والمعنى، لا يتحقّق للشاعر إلا في حالات نادرة تأتيه لحظة التّجليّ وصفاء الرؤية الشعريّة التي يسمّيها البعض (الوحي) أو (العبقريّة الشّعريّة) وفقًا لرأي البعض الآخر. غير أنّني أراه عند شاعرنا، حسين مُهنَّا، نابع عن مخزونه الثّقافيّ الواسع وتجربته الحياتيّة الشّعريّة العميقة التي مكّنته أن يُبدع عبرها عدد غير قليل من المجموعات الشّعريّة أذكر منها: (وطني ينزفُ-1978. أموت قابضًا حجرًا-1986. تَمْتَمات آخر اللّيل-1988. قابضون على الجمر-1991. (جميعها صدرت عن دار الأسوار في عكّا). من الإصدارات الخّاصة للشاعر نجد: حديث الحَواسْ-1992.عوض يَستردّ صِباه-1933. أنت سَبِيّتُهُم وَشِعْري نَحيبُ العاجِز-1993. ليس في الحقل سوسن للفرح-1995). أمّا دواوينه الشّعريّة الأخيرة التي أصدرتها "الأسوار- عكّا" أيضًا نجدها كالتّالي: أنا هو الشّاهد-2001. تضيق الخيمة يتّسع القلب-2007. الكِتابان- شعر.2007.
اللافت في الدّيوان، موضوع حديثنا، هو أنّ العناوين تشكّل جزءًا من قصائده، بحيث تبدو بأنّها تكشف سرّ مضامينها، فتستسلم للقارئ منذ اللحظة الأولى، مثل: (أحمّل عُمري. جاءت تُراودُ. الليل يَسردُ آلامي. صِنْوان أنْتُما. صَلّى الفؤاد. قد تاهت الرّوح، جمعت شجاعتي) إلخ.. إلخ... لكنّه بعد وُلوجه إلى عالمها، يدرك تلك الرّؤية الشّعريّة التي التقط الشاعر بعدسته مضمونه بواسطتها، والعناصر الفنيّة التي احتوتها وتغلغلت في باطنها أساليب البوح. كلّ ذلك يجعله يستنتج هو أيضًا ما يريد.
القلق الوجوديّ وخيبة الأمل والتّساؤلات التي تلوح في بعض قصائد الديوان، تجاوبت مع احساس الشّاعر بتداعي وانهيار الكثير من الثّوابت السّياسيّة والقيم الاجتماعيّة التي تعلّق بمثلها، وكتب شعرًا من وحيها، ولعلّ ذلك ما أخذه في "أخذتني القوافي" إلى هذا النّوع من الشّعر العَموديّ ليجسّد عبر شكله وبحره الوزنيّ، ملامح هذه المرحلة المتأرجحة...الغائبة عن مرجعيّاتنا التّاريخيّة والثّقافيّة، بشكل لم تغب فيه الصّور الشّعريّة عن أبيات عديدة من القصائد.
المقطع الشّعريّ الذي ذيّل فيه الشاعر غلاف "أخذتني القوافي" يُؤشّر بوضوح إلى روح ومناخ الديوان، من ناحيتيّ الشّكل والمضمون يقول:
أسائل نفسي أيّ عيش مُنَكّدٍ -------- إذا الشّعرُ فينا غالهُ العُقْمُ والعُسْرُ
ألم يكُ يومًا بهجةَ البيدِ والألى ----- طوتهُمْ قِفارٍ فخرها الشّعرُ والسّتْرُ
وكان حسامَ الحُرّ يَفري إذا نَبَتْ--- سيوف وسيفُ الشّعر أطرافُهُ خُضْرُ
أقولُ وقولي قد يُسئُ لسامِعي -------- ولي العُذْرُ أني شاعر عِشقُهُ بَحْرُ
وإن كان شِعرُ الآخرين تجارة ---------- فَربّةُ شِعري حُرّة ما لها مَهْرُ
تستوقفنا في الدّيوان العديد من القصائد الغزليّة التي استطاع الشّاعر أن يُقصيها عن حدود الأنا، لتشمل الآخر، بما تحمله من عاطفة جيّاشة بالأحاسيس الإنسانيّة وذات البُعد الفنّيّ الصّادق كقوله مثلاً في قصيدة "جاءت تُراودُ" (ص 5)
جاءت تُراودُ أحلامي عن شغفٍ --------- وتستجيرُ بقلبٍ مُدَنَفٍ كَلِفِ
فقلتُ يا مَنْ طَرَقْتِ البابَ آملة ---- عودي ومنّي جزيل الشّكر والأسفِ
أدري بأنكِ أنتِ اليومَ مُلْهِمَتي ---------- وكُلّ يومٍ فلا نفسي على دَنَفِ
لا تقولي بأن الشّعْرَ يَهْجُرُني ----------- إذا وقَفْتِ ببابي حيث لم أقِفِ
ضمّن الشّاعر ديوانه أيضًا بقصيدتين أهداهما إلى صديقيه، د. منذر بولس وإلياس جبّور جبّور، بالإضافة إلى قصيدتين خصّ فيهما قريته "البقيعة".
الدّيوان يبرهن بأنّ الشّعر العموديّ الذي وزّع قصائده الشّاعر حسين مُهَنّا على عدّة بحور شعريّة مثل: (الطّويل، البسيط، الكامل، الوافر، المتقارب والخفيف) يستطيع أن يّقدّم شعرًا صافيًا وراقيًا في زمن الشّعر الحُرّ أيضًا، بل يقف إلى جانبه شامخًا.