عوامل الشرذمة كثيرة وأهمها التباينات الاقتصادية والعقائدية والثقافية القائمة بين شرائح المجتمع وغياب المؤسسات السقفية التي "تجمع الشمل". انشغال الناس في صراع البقاء يؤدي الى تآكل القيم والأخلاق التي ينضوي تحتها الجميع.
الشرذمة هي نوع من التقطّع الحاصل في اوصال المجتمع. هذا التقطع يتجلى في رفض الأفراد او المجموعات الانضواء تحت الراية الواحدة وعدم الانصياع للقوانين والثوابت وعدم الالتزام بالعادات والتقاليد السائدة في المجتمع. باختصار كل يغني على "ليلاه" دون أي اعتبار لإرادة المجموعة.
كلمة الشرذمة يخص عالم القماش والنسيج ,وهي تعني قطعة القماش الصغيرة, وتستعمل في الأدب العربي لوصف مجموعة الناس الصغيرة او الطائفة الصغيرة. قد ذكرت كلمة الشرذمة في الكتاب العزيز بوصف بني اسرائيل في سورة الشعراء "إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.."
تستعمل كلمة الشرذمة لوصف اهتراء النسيج الاجتماعي وتضارب المصالح بين افراد المجتمع وغياب الوفاق الأهلي ونسمعها كثيرا وقت الانتخابات من قبل السياسيين الذين يصرحون بشعارات رنانة عن غيرتهم على البلد ويعدوننا بأنهم سيعملون جاهدين من أجل الحفاظ على النسيج الاجتماعي والقضاء على الشرذمة في البلد.
إذا استعرنا الشرذمة من عالم النسيج, نستطيع أن نكمل التحليل والوصف من هذا المنطلق. النسيج عباره عن خيوط طولية وعرضية متداخلة مع بعضها البعض والتي كلما تشابكت بشكل منتظم وتراصّت فيما بينها تتحول الى قطعة قماش متينة غير قابلة للتمزق والشرذمة.
إذا صحّت المقارنة نستطيع أن نقول بأن "الخيط" هو "المواطن" وقطعة القماش هي المجتمع. كلما كان هذا الخيط قويا كلما كانت إمكانية نسج قطعة قماش متينة منه أكبر. وكلما كان المواطن قويا وصلبا من الناحية الثقافية والاقتصادية والمعنوية تكون إمكانيات بناء مجتمع قوي ومتراص وقادر على مجابهة الصدمات أكبر, لكن قوة الخيط وحدها لا تكفي لبناء قطعة قماش متينة, كما أن القدرات والمواصفات الشخصية التي يتحلى بها المواطن غير كافية لبناء مجتمع قوي. هنالك حاجة لتراص هذه الخيوط وتشابكها بشكل منتظم, وإلا ستظل خطوط قوية لكنها متباعدة وهذا لن يضيف لمتانة القطعة التي ستظهر بها فتحات وشروخ تُسهّل على من ينوي تمزيقها.
ما يجعل هذه الخيوط متلاصقة ومتحابكة هو "صمغ خاص" يتمثّل بالقيم والثوابت التي تلزم الجميع والتي يتم ترسيخها عادة بمساعدة نظام عقاب وثواب لمحاسبة من يخرق هذه القيم او هذه المتبعات, وغياب واحد منهما يصبح التشرذم أمرا واردا.
هنالك الكثير من العوامل التي أدت الى الشرذمة والى انعدام الوفاق بين شرائح المجتمع وأهمها تضارب المصالح بين الفرد والمجموعة وبين المجموعات في المجتمع الواحد. في هذه الايام, لا يحتاج الفرد الجماعة من أجل كسب عيشه أو حماية نفسه أو حتى قضاء وقت فراغه, فإن اتفقت مصالحه واهواؤه معها كان به, وان لم تتفق فينزاح عنها ومثله مثل الخيط الذي ينسلُّ من قطعة القماش. التنافس والتناحر بين المجموعات على مصادر الرزق والسلطة هو أيضا عامل هام في تفكك المجتمع. قد تجد ان بعض المجموعات تشعر حالها مظلومة أو مستبعدة أو مهمّشة فلذا تجدها تحاول الانفصال عن المجتمع.
لدى الاقليات المضطهدة في العالم قد تجد مجموعات في داخله رافضة للانصهار في المجتمع وتراها تبحث عن حلفاء لدى الأكثرية لأن مصالحها الاقتصادية تتماثل مع الأكثرية القوية وليس مع الأقلية المستضعفة, وقد تجد منهم من يقوم بالتحالف والتماهي مع السلطة لينعم بحقوق وفرص لتعزيز مكانته الاقتصادية والسياسية. لا شك ان وجود تباين بين شرائح المجتمع على أساس عقائدي أو ثقافي أو اقتصادي يؤدي الى تصدعات في المجتمع وخصوصا بغياب مؤسسات سقفية وقيم وأخلاقيات مشتركة.
العولمة والفضائيات وشبكات الانترنت جعلتنا نتبنى "رموز ومعايير غربية تحررية" والى العزوف تدريجيا عن العادات والطقوس المحلية وكأن كل ما يأتي من هذه الحضارات هو نافع وعصري. اذا أخذنا على سبيل المثال, الأعراس العربية, نجد أن أغلبية الناس قد عزفت عن الطقس التقليدي الذي شارك به أغلبية سكان البلد لصالح "الطقس العصري" الذي يتلخّص بدعوة عدد محدد من المدعوين المعدودين على الأقارب والأصدقاء, وهكذا تقلّصت فرصة التقاء الناس ببعضهم البعض وخصوصا فرص لقائهم بأشخاص لا ينتمون لدائرة الاصدقاء والأقارب القريبة. لقد تغيّرت ايضا مراسيم العرس ابتداء من تحضير الطعام الجماعي الذي كانت تعدّه شلة من "طباخات البلد" اللواتي ساعدن في تنفيذ هذه المهمة, وانتهاءً باحتفالات الرقص الجماعي (السحجة والدبكة) . لقد تلاشت مع الوقت تلك المراسيم لصالح مراسيم غربية عجيبة لا تمت للغرب ولا للعرب بصلة.
من أسباب ضعف النسيج الاجتماعي هو وَهنُ المجتمع المدني حيث يُلاحظ غياب تأثير فعلي له داخل القرى والمدن العربية في البلاد المتمثلة بقلة عدد الأطر والجمعيات الأهلية. هذه الأطر تشكل دفيئة ناجعة للعلاقات ولبناء الثقة المتبادلة بين الأفراد المنتسبين لها. نسبة الجمعيات الموجودة في المجتمع العربي هي %5.5
لا تنسوا طبعا التنافس على كرسي السلطة المحلية في الوسط العربي الذي اشبه بحربٍ شعواء حيث ترى العائلات والطوائف والاحزاب تتصارع فيما بينها دون الاهتمام بالأرض المحروقة التي يخلفونها وراءهم. ما لا يُدركه بعض قادة المجموعات المتناحرة على السلطة المحلية ان النصر على "الخصم" اقل اهمية بكثير من التعايش السلمي بين شرائح المجتمع.
السؤال الذي يطرح نفسه, كيف نقوي النسيج الاجتماعي؟ والإجابة على ذلك هي عن طريق تعزيز قيم عامة وأهمها هو تعزيز الانتماء الى البلد. لكي نعزز الانتماء الى البلد علينا إدراج قيمة الانتماء الى البلد في العملية التربوية واقامة فعاليات تطوعية والتحدث عن موضوع الانتماء في طابور الصباح والمبادرة الى مسابقات بين الصفوف حول هذا الموضوع.
هنالك أيضا حاجة لتشجيع ودعم جمعيات المجتمع المدني وليس معاداتها. وهنا أقصد التشجيع الذي يجب ان يتم من قبل السلطة المحلية التي ينبغي عليها توفير حلبات للقاء بين شرائح المجتمع. على السلطة المحلية أن تتعامل مع الناس بالعدل والمساواة وبنزاهة وموضوعية لكي لا تحصل حزازات وشعور بالإقصاء لدى بعض شرائح المجتمع. باختصار الانتصار على الشرذمة ليس بالعملية السهلة وهو ليس بشعار نطلقه أبان الانتخابات وننساه في اليوم التالي وانما عمل تربوي دؤوب تعاضد به كل القوى الفاعلة على الساحة.