يُعتبر مصطلح "الرّبيع العربيّ"، من أكثر المصطلحات السّياسيّة إحراجًا لدى المحلّلين المختصّين بشؤون الشّرق الأوسط وتاريخه المعاصر، فما أن يُنطق به حتّى نتذكّر أنّ ما بدأ بمسيرات شعبيّة للحصول على حقوق ديمقراطيّة، على أثر مقتل محمد البوعزيزي في ديسمبر 2010، تحوّل إلى نزاع دمويّ بين جماعات أصوليّة وأحزاب رجعيّة وقوى دكتاتوريّة، تتنازع فيما بينها للوصول إلى كرسي الحُكم في البلاد العربيّة، في حين لا يزال آلاف الأبرياء من أبناء الشّعوب العربيّة يدفعون حياتهم ثمنًا باهضًا لهذه النّزاعات، ليتحوّل الرّبيع الجديد إلى أبرد شتاء حلّ على منطقتنا في العصر الحديث.
في ظلّ هذه المأساة انبثقت من أعالي جبال الكرمل والجليل قيادات سياسيّة حكيمة وواعية، تتمثّل بفكر نيّر يقظ، وهي نخبة من القياديّين الشّباب والمثقّفين أصحاب الخبرة في المجالات المختلفة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة، بحيث جمعت هذه النّخبة بين ثقافة عصريّة والتزام بانتماء عقائديّ ثابت.
هذا الوعي القياديّ انعكس من خلال العمل السّياسيّ الرّاقي في فترة الانتخابات الأخيرة. فبالرّغم من بعض التّشويشات الّتي قامت بها مجموعة قليلة من الانتهازيّين المنتفعين، يمكننا وبدون شكّ أن نصرّح بكلّ فخر واعتزاز بأنّ الانتخابات للمجالس المحليّة في أكتوبر الماضي شكّلت فترة انتقاليّة جديدة في النّهج السّياسيّ من النّاحيتين النّظريَّة والعمليَّة.
على المستوى النّظريّ تدرك هذه النّخبة القياديّة جليًّا أنّ العمل السّياسيّ في المجلس المحليّ هو عمل جماهريّ يخدم المواطنين من خلال أجندات سّياسيّة انتخابيّة، تضع في رأس سلّم أولويّاتها القضايا الهامّة الّتي تُشغل المواطنين على أمل تحقيق القسط الأكبر منها في حال انتخابهم. وهي برامج سياسيّة وضعتها الأغلبيّة السّاحقة ممّن تنافس على إدارة المجالس المحليّة في قرانا وكان المواطن على اطّلاع عليها.
أمّا على المستوى العمليّ فقد تنافست هذه القوى فيما بينها بشكل ديمقراطيّ وراقٍ، خلال فترة الانتخابات إيمانًا منها بأنّها الأفضل لتلبية طموحات أبناء قراها المستقبليّة، والأنسب لإدارة المؤسسات العاملة على تقديم الخدمات الحياتيّة الأساسيّة، ابتداء من البنى التحتيّة مرورًا بالخدمات الصحيّة، وصولا إلى المؤسّسات التّعليميّة الّتي تخضع لإدارة سلطاتهم المحليّة.
عسفيا قدّمت درسًا جميلا للجميع في العمل السّياسيّ الرّاقي. فكيف يمكن لأحد منّا أن ينسى المهرجان الدّيمقراطيّ الجميل الّذي ميّزها خلال فترة الانتخابات حين حضر كلّ من المرشّحين الأربعة للرّئاسة: السّيد وجيه كيوف، السّيد رائد منصور، السّيد جهاد قبلان والسّيد شكيب أبو ركن المهرجان الانتخابيّ لمنافسه برفقة أهله ومعسكره السّياسيّ.
في حين شهدت قرانا في الجليل والكرمل ظواهر عنف سياسيّ في جولات انتخابيّة سابقة، فإن هذه القوى السّياسيّة الصّاعدة حوّلت فترة الانتخابات الأخيرة إلى عرس ديمقراطيّ حقيقيّ، شاركت فيه معظم قرانا على اختلاف فئاتها رجالاً ونساءً ورجال دين، وكادت تخلو هذه القرى من ظواهر العنف السّياسيّ، ناهيك عن بعض محاولات الشّوشرة الّتي صُدَّت بشكل حازم من قبل المرشّحين.
حتّى قرية يركا الّتي شهدت في الماضي صراعات عائليّة عنيفة حول إدارة المجلس المحليّ، هذه الصّراعات الّتي عُيِّنت على خلفيّتها لجنة لإدارة المجلس، كانت قد بوركت بقوى سياسيّة ناضجة وواعية تنافست فيما بينها على رئاسة المجلس المحلي، وبقوائم عضويّة من المثقفين والأكاديميين كقائمة نهضة يركا بقيادة السّيد صالح صالح، السّيد مروان غبيش والسّيد هيثم أبو يوسف، وبرعاية قوى دينيّة مُنفتحة على رأسهم أعضاء لجنة الوفاق بقيادة الشّيخ يوسف سلمان، الشّيخ حسن ملا، الشّيخ وائل معدّي، الشّيخ أمين كنعان، الشّيخ يوسف خرباوي والشّيخ روزبا حبيش، ليجعلوا موكب الإعمار والتّطوّر الاقتصاديّ في قريتهم يتابع مسيرته.
أمّا بيت جن الأبيّة، بلد الزّبود الأشمّ، والّتي عانت في الماضي من انقسامات عائليّة بسبب الصّراع على القيادة المحليّة، قد بوركت بنخبة واعية حوّلت الانتخابات في بلدهم إلى مهرجان ديمقراطيّ لم تشهده القرية قبل، بحضور متبادل لجميع القوى السّياسيّة المتنافسة. وقد يكون كلّ من السّادة نزيه دبور، سمير زيدان وراضي نجم، قد خسروا معركة الانتخابات على السّلطة، ولكنّ التّاريخ سيشهد بأنّهم قد قدّموا الكثير لبلدهم، واثبتوا للجميع وجود نهج مختلف للعمل السّياسيّ لم تعرفه القرية على مدار سنوات. ويكفي أن تقرأ البرنامج الانتخابيّ لكلّ واحد من المرشحين لتقدّر القوى الإيجابيّة الّتي تدفع هذه القيادات.
حتّى بريطانيا أمّ الدّيمقراطيّة المعاصرة، لم تشهد منظرًا كالّذي شهدته قرية البقيعة يوم الانتخابات حين تفقَّد كلّ من المرشّحين الثّلاثة: السّيد سميح خير، د.غازي فارس والأستاذ جمال عبّاس، صناديق الاقتراع معًا، مؤكّدين للجميع، بأنّ الانتخابات يوم ولكنّ البقيعة للأبد، لا كمجرّد دعاية انتخابيّة بل حقيقة على أرض الواقع. منظر مشابه شهدته قرية المغار حين تجوّل مرشحا الرئاسة المتنافسان المحامي فريد غانم والسيد زياد دغش بروح أخوية بين صناديق الاقتراع في القرية في يوم الانتخابات.
وقد انعكس نضج هذه القيادات في أسلوب تعاملها مع الخسارة. وذلك من خلال رسائل شكر وامتنان لكلّ من دعمها ووقف بجانبها، متمنيّة النّجاح والتّوفيق للرَّئيس المنتخب. هذا كان موقف الأغلبية السّاحقة للمرشحين الّذين خسروا في الانتخابات، وموقف الرّئيس السّابق لمجلس دالية الكرمل، السّيد كرمل نصر الدّين في ليلة الانتخابات، والّذي أبى أن يلبي طلب القلّة من جمهوره الغاضب بسبب الخسارة، وصرّح أمام الجميع بأنّه يحترم قرار المواطن وأنّه على استعداد كامل لتقديم كلّ ما باستطاعته لدعم الرّئيس المنتخب في تأدية مهمَّته.
فهنيئا للطائفة المعروفيّة على هذه النّخبة القياديّة الصّالحة الواعية، والّتي تبشّرنا بقدوم ربيع درزيّ، سائلين الله تعالى النّجاح والتّوفيق لمن فاز في الانتخابات الأخيرة، متمنين لمن خسر حظًا أوفر واستمراريّة موفقة في درب العطاء من خلال مراكز قوى أخرى. واسمحوا لي بهذه المناسبة أن أهدي هذه المقالة للسّيد فهمي حلبي، الّذي لم يكفَّ منذ أن فارق وظيفته كرئيس للمجلس المحلي في دالية الكرمل، عن العمل والعطاء لمجتمعه ولعامّة المجتمع العربي في البلاد من خلال لجنة الدفاع عن الاراضي، ليكون قدوة للقيادة الحقيقيّة الّتي تعمل خارج نطاق مراكز القوى، متمنين له الصّحة والعافية والاستمراريّة في مسيرة العطاء.