إذا أردت أن تقرأ شعرا أصيلا وراقيا فعليك بالشاعر حسين مهنا . في الواقع ليست المرة الأولى التي أتناول فيها بعضا من شعره , ولعل السبب في ذلك أنه يدهشني دائما بما تخط يده من أوراق مشرقة تجذبك جذبا شائقا , أو تدخلك في حالة من الإصغاء المريح :
" أرى زمني تُصرفه العبيد / وعيشي في مرارته يزيد / تقاسمني الهموم كفاف يومي / وليلي من مواجعه مديد " .
إنه يعي همومه عقليا كما نرى , وهذا الوعي العقلي انعكس في تقنية التعبير .
أمّا قوله الآتي في نفس القصيدة فنستشف منه الطبع الكريم يسمو به الى العلياء . يخاطب الشاعر نفسه :
" فشدّي قامتي شدا كريما / الى العلياء ما كرم الصعود / كصقر يبتغي التحليق طبعا / ويهوي والبغاثُ له سجود / ولو خُيّرتُ في تبديل شكلي / لكان الصقر أسمى ما أريد " .
هذه الأبيات من ديوانه الأخيرة " أخذتني القوافي " توخى في صفحاته القصيدة العمودية عبر بعض البحور : الطويل , البسيط , الكامل , الوافر , المتقارب , الخفيف . والبحر البسيط هو الغالب . ولا يخفى أن هذا البحر من أدرج البحور استعمالا , وقد قال أحدهم " لو شئتُ أن أتكلم شعرا لتكلمت بالبسيط " وهو يعني البحر البسيط .
اللافت في هذه القصائد والبحور ليس أنك لا تجد وزنا مكسورا , أو عيبا من عيوب القافية مثل : الإكفاء والإقواء والإيطاء . بل اللافت أننا لا نعثر على كلمة في غير محلها , أو مفردة نافرة متقلقلة في موضعها .
لننظر ما يقول في البسيط في قصيدة تَنز حبا ووفاء في زمن ندر فيه الوفاء ! وهي مكرسة لزوجته الفاضلة منيرة تطفئ شمعتها الستين :
" ما أجمل الحبّ حين الحب ينتصر / على الشقاء وعصر قلبه حجر / ويجعل المُرّ حلوا حين يفجؤه / غدر الزمان وكره فيه يستعر " .
إنه يستعين بالحب على غدر الزمان , وعلى هذا العصر الرديئ أخلاقا وقسوة . وهذا لعمري من أفضل ما قرأتُ في هذا المعنى . لكن الأجمل وصفا وغزلا قوله : " ستون مرتْ وحبّي لم يزل نضرا / قلبي اليباب وأنتِ الغيم والمطر / وأنتِ شمس طوال العمر مشرقة / بدون شمس يجف العشب والزهر " .
من المسلم به أن البيئة الجغرافية لها التأثير البارز على قلم الشاعر وأينما وجد , حتى الصحراء القاحلة كانت ملهمة شعراء الجاهلية . فما بالك ببيئة جغرافية كالجليل آية في السحر والجمال , من جبال خضر وينابيع عذبة ومناخ معتدل . حسين مهنا يعشق بيئته هذه الى حد الإفتتان :
" صَلّى الفؤاد على الجليل وكبّرا / وجثا يهلل للجمال محيّرا / هذا الجليل بحسنه وإبائه / فتن البخيل من الغمام فأمطرا / فصحا الخزام معانقا نسم الرّبى / كي يملأ الدنيا أريجا مسكرا / وشقائق النعمان تحكي للورى / خبر الشهيد وقد تخلد أحمرا / والنرجس الفتان يقتات القلوب / ويزدهي بين العيون مفاخرا / والطير من خضر الجناح وزرقه / يحيي الحدائق منشدا ومصفرا " .
واضح من النَص ان الشاعر لا ينظر الى الأشياء بأفكار مسبقة , بل يرى في الطبيعة دلالة متعالية , يحس بالأشياء ويراها واضحة , فينطلق في تصويره من هذه النقاط . وهذا أفضل تصوير في الشعر . ولا غرابة أن هذه الأبيات تذكرني بالبحتري في وصفه المدهش للربيع :
" أتاكَ الربيع الطلق يختال ضاحكا ــ من الحسن حتى كاد أن يتكلما " .
وإن كانت البيئة الجغرافية قد أغرت حسين مهنا الى حد التماهي معها , فإن للبيئة الحياتية , قريته البقيعة , الأثر الأكبر في قصيدته " كتبتُ وما كتبتُ " والتي تئج روعة :
" بقيعة يا عروس الشعر عندي / ودرة تاج مملكة الجليل / أخاطب فيكِ تاريخا جميلا / وأرنو نحو حاضركِ الجميل / فيبهرني التسامح بين أهل / توارثه نبيل عن نبيل / كأن الحبّ أمرع في رُباها / وكان الحبّ صنو المستحيل / ترى الأجراس تقرع كل صبح / وذوي الخلوات تصخب بالهديل " .
لو اكتفينا بهذه الأبيات وحدها من القصيدة ووضعناها على مقياس نظرية الجمال عند ( شارل لالو ) كمثال , لوجدنا أنها تفيض بالجمالية , ويكفي أن نذكر واجهة واحدة من هذه الجمالية , وهي أنها , أي القصيدة , تفرض نفسها بصورة تلقائية في مداعبة شعورنا الانفعالي وبطريقة تثير فينا المتعة والإعجاب .
وأن اقف قليلا عند قصيدته الموسومة " قد تاهت الروح " فذلك أنها أخذتني الى ما آلت اليه أمتنا العربية من أوضاع مأساوية محزنة ! وفي مثل هذه الظروف يجيئ دور الأديب الحق , لا يمكنه أن يقف بمعزل عن الاحداث الهامة , يحاول على الاقل ان يبتكر او يجد حلا منطقيا للمشكلات المعقدة , قد ينجح وقد لا ينجح , لكنه قادر على تكوين هذا السياق . وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين مثل تورنس , وجيلفورد : التفكير الإبداعي المنتج , أو مهارات التفكير الإبداعي .
الحل عند حسين مهنا هو ثورة الفكر والتي أثبتت نجاعتها على مر التاريخ . يحض الأمّة الى النهوض وانجاز هذه المهمة :
" يا أمّة الصبر فيكِ الصبر جامعنا / يكفي انتظارا وثوري ثورة القلم / ما ظل في الأرض إلا من مشى قدما / وضل من سار خلفا سير منهزم " .
البيتان هما قاعدة القصيدة , خاتمتها , وهما من القوة والفصاحة مما يتيح لهما مكانة جيدة على خارطة الشعر المعاصر .
[email protected]