ترافق الحديث عن الخدمة العسكرية في صفوف الشباب الدروز في الآونة الأخيرة الكثير من الشعارات والعبارات المؤثرة، حيث من الصعب تجاهلها إذ كنت تنتمي لفئة مهتمة بما يحدث على الصعيدين الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي بشكل عام والمعروفي بشكل خاص.
من أكثر المقولات المُتداولة في أي نقاش يدور حول موضوع الخدمة العسكرية ، هي " إن الخدمة العسكرية جاءت لتنتزع أبناء طائفة الدرزية عن شعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية ". وينصب اهتمامي حول هذه المقولة بالذات لأسباب عديدة، بداية لأنها تناقض ادعائي بأن الهوية الأساسية لأبناء الطائفة المعروفية في الفترة التي جاءت بعد قيام الدولة كانت عائلية وطائفية وليست وطنية. ثانيًا لما تحمله مقولة من هذا النوع من أخطاء في فهم الحراك السياسي عند أبناء الطائفة حيث تراوح عددهم آنذاك ما يقارب 15000 نسمة، ليس فقط في موضوع الخدمة العسكرية وإنما في مواضيع وقضايا أخرى وعلى رأسها قضية الاعتراف بالطائفة الدرزية كطائفة مستقلة.
صحة الادعاء بأن الدروز كانوا قد بلوروا "هوية وطنية" في مطلع الخمسينات تضعنا وبدون أدنى شك على عتبة حالة مميزة تدحض ادعاءات الكثيرين من المختصين في دراسة القوميات(Nationalism) والهوية الوطنية (National Identity) وذلك لأنها تناقض الكثير من الطروحات النظرية في هذا المجال.
إدعاء كهذا يتنافى مع طرح باحث القوميات بندكت أندرسون، الذي سلط الضوء حول الدور الأساسي الذي تلعبة طبقة المفكرين والمثقفين في حياة أي مجموعة مرت بمرحلة انتقالية لتدخل عالم "المخايلة القومية". وعليه فإن أبناء الطائفة الدرزية استطاعوا الانتقال إلى عالم "المخايلة القومية" بالرغم من غياب مثل هذه الطبقة فيما بينهم في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. ناهيك عن الحقيقة بان الأكاديمي الوحيد خلال تلك الفترة كان الشيخ عبد الله خير ابن قرية أبو سنان، والذي كان ملتزما لبرنامج عمل طائفي يسعى لتشكيل وصياغة طائفة مستقلة.
ويخطئ أيضا الكاتب إلي كادوري أحد أكبر المفكرين في مجال القوميات خلال القرن المنصرم، إذ ادعى أن المجموعات الاثنية تُشكل فكرا قوميا حين تبدأ المشاركة في برنامج عمل يهدف إلى ممارسة حقها في تقرير مصيرها بشكل مستقل (Self –Determination). ووفق الادعاء أعلاه فإن الطائفة الدرزية استطاعت أن تنمّي فكرا قوميا دون اشتراك أفرادها في برنامج مشترك يهدف إلى تقرير مصيرهم باستقلالية.
عائلة غلنير ستصاب بحالة من الإحباط حين تعلم بأن الطائفة الدرزية استطاعت بلورة فكر قومي في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، بالرغم من غياب أي شكل من أشكال التقدم الصناعي في قراها، الأمر الذي يناقض كليا ما ادعاه والدهم المرحوم أرنست غلينر حول تشكيل وتنمية الفكر القومي وعلاقته المباشرة بالتطور الصناعي في العالم الغربي، في حين وصل الدروز لمثل هذا النمو الفكري من خلال انجازهم المتمثل بصناعة طائرة ورقية، أما جون برويلي رئيس قسم القوميات في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (London School of Economics-LSE)عليه أن يقدم استقالته في أقرب وقت، وذلك استنادا على ما يسببه ادعاؤه من المغالطات حول العلاقة الحتمية بين بناء الدولة الحديثة وبلورة فكر قومي عند المجموعات، هذا بعد أن أثبت الدروز قدرتهم على تطوير مثل هذا الفكر في الخمسينات حتى قبل أن يتعلموا قراءة الخرائط الجغرافية.
المفكر الألماني كارل دويتش كان محظوظا إذ وافته المنية، قبل أن تفتضح الحالة الدرزية فشل نظريته حول العلاقة الكامنة بين تطور الفكر القومي والاتصالات بأشكالها المختلفة، فقد استطاع الدروز تطوير مثل هذا الفكر من أعالي قراهم النائية والمنقطعة، رغم غياب كافة وسائل المواصلات واستحالة الوصول لجزء من هذه القرى حتى منتصف الستينات من القرن الماضي إذ كانت الدابة هي الوسيلة الوحيدة.
إن الادعاء حول "الهوية الوطنية" عند الدروز خلال فترة الخمسينات، لا يتنافى مع نظريات علم الاجتماع والعلوم السياسية التي تبحث موضوع القومية فقط، إنما أيضا الدراسات المتعمقة والتي تُشكل مرجعا لتطور الفكر القومي عند السكان العرب الذين سكنوا فلسطين خلال فترة الانتداب الانجليزي ومن بقي منهم داخل حدود الدولة الجديدة. دون التطرق للدراسات المتطرفة كالتي طرحها بعض المؤرخين الإسرائيليين أمثال يشواع بورات، والذي ادعى أن تطور الفكر القومي الفلسطيني هو انعكاس لصراع البعض مع الحركة الصهيونية، غير أننا نلمس التوجه ذاته حتى في صفوف مجموعة من المؤرخين المواليين لحقوق السكان العرب الشرعية على أرض فلسطين، كالمؤرخ يزيد صايغ الذي يرى أن السكان العرب الذين قطنوا المنطقة لم يطوروا فكرا قوميا واضحا بمفهومه الحديث وأن مثل هذا الفكر تبلور من خلال المقاومة العسكرية وتحديدًا لدى الفلسطنين الذين هجروا أو تركوا قراهم خلال فترة الحرب عام 1948، والمؤرخ إيلان بابيه والذي يعد من أكثر المؤرخين ولاء للقضية الفلسطينية وحق العرب المهضوم في الصراع، نراه يشير إلى غياب فكر قومي في القرى العربية التي سكنت ما عرّفه بالاطراف آنذاك لقرى الجليل والمثلث والنقب، والتي ابتعدت عن مركز الأحداث التي دارت على الأغلب في المدن المركزية كالقدس ويافا.
وعلى مستوى العالم العربي يرى الكثير من المؤرخين والباحثين بأن الفكر القومي بدأ يأخذ مكانته في العواصم العربية بعد تولي عبد الناصر الحكم، وفي ظل العدوان الغربي على مصر وذلك من خلال خطاباته القومية عبر جهاز الراديو، وتبلور فكرة أمة عربية موحدة في مواجهة الإمبريالية الغربية. في حين أصبح واضحا بأن هذا الفكر لم يمرّ بأية مرحلة من التطور بمفهومه العميق والواضح، الأمر الذي انعكس من خلال الخلافات العميقة بين الشعوب العربية في المنطقة والتي أفترض أن تشكل سوية ما يعرف بالأمة العربية الواحدة، إضافة إلى أن هذه الشعوب لم تستطع تطوير فكر قومي حتى على مستوى الوطن الواحد، فيكفي أن ننظر لما يحدث في سوريا ولبنان في هذه الأيام لنفهم ضعف الهوية القومية أمام مركبات حمائلية أو طائفية عند السكان المحليين.
إن الأمر المثير للتساؤل يكمن في أن مناصري الادعاء أعلاه لا تستوقفهم الحالة الدرزية بمفهومها الجوهري، والتساؤل المُلح حول تطويرها لفكر قومي في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات في حين لا تزال الهوية الأساسية المسيطرة في قراهم هي حمائلية وطائفية. الأمر الذي ينعكس بشكل واضح من خلال العمل السياسي للأغلبية على المستوى المحلي والقطري وذلك بالرغم من مرور ما يقارب سبعة عقود منذ ذلك الحين.
بناء على ما ذكر أعلاه فمن الواضح أن العامل الأساسي الذي شجع السلطات الإسرائيلية حينذاك على فتح باب الخدمة العسكرية، لا يكمن في إزالة هويتهم الوطنية المبلورة، كما يدعي البعض وإنما لغياب مثل هذه الهوية، في حين لعبت الهوية المركزية عندهم وكما هو الحال عند الأغلبية الساحقة من العرب القرويين الذين لم يغادروا حدود الدولة الجديدة، هي الهوية العائلية والطائفية في حياتهم آنذاك. وفي الواقع هو نفس العامل الذي شجع السلطات الإسرائيلية على رفض طلب أكثر من 4500 عربي ينتمون بأغلبيتهم الساحقة إلى الطائفة الاسلامية السنيىة عام 1954 للانضمام إلى صفوف الجيش وذلك لانتمائهم إلى مجموعة ذات إمكانيات تطور ديموغرافي سريع وتواصل طبيعي مع الأغلبية الساحقة من أبناء الدول المجاورة.
إن تحديد هوية الأغلبية الساحقة عند أبناء الطائفة المعروفية في الفترة التي جاءت بعد قيام الدولة أمر مهم جدًا لفهم النقاش المتعلق بموضوع الخدمة العسكرية خلال تلك الفترة، والتغييرات التي رافقته في السنوات الاخيرة، ومن ضمنها الخطاب الذي تنقله المقولة المطروحة أعلاة والتي تضفي صبغة سلبية على أبناء العشيرة المعروفية وتضعهم في خانة "الخائنين"، خاصة وأن الاستنتاج الحتمي لمقولة كهذه هو أن المجموعة كانت قد بلورت هوية وطنية وقومية واضحة، غير أنها تنازلت عنها من أجل الخدمة العسكرية في حين بدا واضحاً بأن الاغلبية الساحقة لم تبلور هوية من هذا الصدد في حينة.