* شفيق حبيب يحظى بالإهتمام .
سأتناول في هذه المقالة الموجزة ثلاثة من الكتب التي تصلني : كتاب ضخم بعنوان " شفيق حبيب في مرايا النقد " وهو لمجموعة من الناقدين والدارسين محليا وعربيا : يحيى زكريا الآغا ، نادي ساري الديك ، طلعت سقيرق ، محمد علوش ، منير توما ، نبيل عودة ، محمود مرعي ، فاروق مواسي ، رنده زريق صباغ ، بطرس دله ، شاكر فريد حسن ، دالية بشارة ، و نور عامر .
في هذا الكتاب إضاءات من زوايا مختلفة على أعمال الشاعر شفيق حبيب ، والأبرز في هذه السياقات اهتماما ومساحة ما كتبه الآغا ، حيث أضاء بالنقد والتحليل ثلاثة من دواوين الشاعر ، وعلى مساحة تقارب ثلث الكتاب ، ركز في معظمها على مواقف الشاعر الوطنية ، وعلى الأسلوب والفكرة و البناء ، والنقلات النوعية في شعره .
أمّا باقي المقالات فقد اتسم بعضها بالموضوعية و العمق ، و بعضها لامس السطح دون الجوهر ؛ بيد أن الكل قد أجمعوا بمصداقية هذا الشعر في المستوى الرفيع .
أنا أجّل هذا الرجل شفيق حبيب ، كونه أعطى لشعبه من عصارة فكره . ومع ذلك لا أزعم أن شعره _ قرأتُ الكثير مما كتب _ يخلو من كلمة ناشزة هنا ، أو كَبْوةٍ هناك ، وهذا يحدث لفحول الشعراء ، و مثالنا النابغة الذبياني ، من أخطائه في عيوب القافية ما يسمى " الإقواء " ، وهو اختلاف حركة الرويّ ( المجرى ) بكسر و ضمّ . و هذا غير جائز ، كقوله :
" سقط النَصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطه / فتناولَتْه واتّقتنا باليدِ / بمخضّبٍ رخصٍ كأنَّ بَنانه / عَنمٌ يكادُ من اللطافة يُعْقَدُ " ( 1 ) .
هنا اختلفت حركة الرويِّ بين كسرِ الدال وضمِّها ..
خلاصة القول : شفيق حبيب جدير وبحق بهذا الإهتمام من النقاد ؛ واني على يقين أنه من الشعراء القلائل الذين أثروا حركتنا الأدبية فكرا تاريخا و أصالة . وان كان بعض الشعر قد عاش منذ ألف عام و لا يزال حضورا وفخرا ، فإن أدب شاعرنا شفيق حبيب _ حسب تقديري _ سيحظى هو الآخر بهذه المنزلة و هذا الحضور .
( 1 ) العَنَم : شجر له ثمرة حمراء يُشّبه بها البنان المخضوب .
*غزليات كمال ابراهيم
اني لأستغرب قليلا من غزارة الإنتاج عند الشاعر كمال ابراهيم , فما نكاد نمر بديوان من دواوينه الشعرية حتى يلحقه بآخر ! وإن دل هذا على شيئ فإنما يدل على واحد من أمرين : أن يكون الشاعر من هواة الكم , أو نتيجة لنشاط عقلي وشعوري .
تراني متردد بالقول : بين يديّ ديوانه الأخير " غزليات " فقد يطلع علينا بديوان آخر قبل نشر هذا المقال , فأقعُ في حرج !
ثلاثون قصيدة غزلية في ديوانه آنف الذكر تتمحور كلها حول المرأة جسدا روحا اشتهاء . أمّا عناوين هذه القصائد فتفسّر أن الشاعر من عشاق التغيير والتبديل , لا يقف عند امرأة بعينها , بل يود ما كثر وتنوع من بنات حواء , يعشق بالجملة ! فهذه القصيدة " إلى جليلية " وهذه " الى كرملية " , ويتابع " الى محجبة , الى آنسة , الى جبلية , الى جولانية , الى مهاجرة , الى مغربية " .
وهلمّ جرّا ؛ رحالة في بلاد العرب ينشد الحب والوصال , يريد دائما المرأة الدافئة الجميلة , وجمال الأنثى هو المقياس الأول في نظره ؛ لكن هناك من يقلل من أهمية الجمال كقول احد الشعراء :
" ليس الجمال بِمئزر ــ فاعْلمْ وإن رُدّيت بُردْا "
ربما أن هذا الشاعر اطمئن الى الحديث : " ليس هناك فتنة أضّر على الرجال من النساء " .
وفي خضم هذا الإندفاع العاطفي لكمال ابراهيم , تارة تجده هادئا متزنا كقوله :
" اهديكِ يا حبيبتي / أبيات شعر / مكللة بالشوق والحنين / أبعث إليكِ / باقة ورد / معطرة بالفل والياسمين " .
وتارة أخرى تراه ينفعل تاركا لعاطفته العنان :
" حبيبتي اليكِ الشوق اعبد / سحرك لقلبي ثائر / أنتِ مبتغاي وشهوتي / وشوقي اليكِ ليس له بدائل " .
القارئ فضولي في قراءته , لذلك قد يطرح السؤال : لماذا هذا الحضور المتعدد للمرأة في قصائد الشاعر ؟!
ربما لأن الشاعر قد تأثر جداً بنزار قباني ؛ ولا ضيرَ ايضا أن نستعين بعلم النفس الذي يؤكد أن ثقافة المجتمع تؤثر في طرق تفكير أفراده , وطرق تعبيرهم عن انفعالات وعواطفهم .
في الحقيقة أن عاطفة الشاعر هي الركيزة التي يبني عليها نصوصه , والقارئ بِفطرته يرتاح الى المناخ العاطفي , وسينسجم مع الكلمات الرنانة في قصيدة " الى جولانية " كمثال , لذلك لن يفطن غالبا بأن الشعور يكاد يتخثر في هذه القصيدة ؛ والشعر ينبع أساسا من الشعور كما هو معلوم .
في قصيدة " الى مغربية " حبذا لو أن الشاعر التفت الى ما يُعرف بنكهة الشعر :
" عرفتكِ / مغربية الأصل / فتانة الحسن و المنظر / ممشوقة الطول / نحيلة الخصر / تسلبين النظر "
من المؤكد أن بعض القراء سيجدون متعة في الكثير من قصائد الديوان , وقد لا يعبأ بها قراء اُخر ؛ وهذا أمر طبيعي في الشعر بعامة , فليس هناك من شاعر استطاع إرضاء جميع الأذواق .
ويبقى السؤال : الى أي مدى وصل كمال ابراهيم في غزارته الشعرية ؟
دعونا ننتظر رأي الجمهور , لأن الجمهور كان ولا يزال طرفا رئيسيا في أية معادلة أدبية .
* عناد جابر في عواصف الحنين
ومسك الختام مع الشاعر عناد جابر في ديوانه الثالث الأخير " عواصف الحنين " . لم أبعثر وقتي هباء مع هذه الأوراق الخصبة . و الحق أن قصيدة " كيف نعود " تركت وقعا طيبا في نفسي بألفاظها و واقعيتها و صداها ، قصيدة تصرخ ، تجأر :
"و كيف نعود ؟ / لمرايا كانت تعرفنا / لجذور كانت ترفدنا / كيف ؟ / و قد صرنا سجناء / في عصر جليد / يسحق فينا الروح "
و ينتهي جابر بقصيدته الى حالة مؤسفة مؤلمة تعكس ما آلت اليه أوضاع شعبنا من إحباط و فراغ :
" لم يبق لنا شيء آخر / سوى أوقاتنا المكتظة / بالفراغ / و أجسادنا الآلات / و نفوسنا الخاوية / إلا من زحمة النزوات / فكيف نعود ؟ ! "
في هذه القصيدة ملمح من ملامح المذهب الواقعي ، و هو الأدب الذي يدعو الى الاتصال بالحياة ، و يصف الأشياء طبق الواقع مع العناية باللفظ .
وإن كان الشاعر قد أولَ هذه القصيدة اهتماما بالغا ، فلم يفته أن المتلقي يتطلع الى التنويع ، فأخذنا الى موضوع مغاير تماما :
" ليس ذنبي أنّ عطري / قد غزا طيّاتِ ثوبكْ / وحكى أنّا التقينا / فابتدا كابوسُ رعبِك / كلّ ما في الأمر أنّي / حينما ملتُ لجنبك / طارَ من ذقني وعلّا / وارتمى في دفء عبّك "
رائعة و لطيفة طريقته في التعبير ؛ و شتان ما بين هذه الجميلة و مقطوعة بعنوان انطلاق :
" ونحن حين نلتقي / نُبطل قانون الجاذبية / نخرجُ / من دائرة الوقت / ومن هوية المكان / ونفلتُ / من قفص الأبجدية "
جافة يا صديقي ، كأنها نبتت على صخرة !
وفي ديوان جابر الكثير من شعر المناسبات في المدح و الرثاء ؛ و هذا الشعر يحتاج الى خبرة و تجربة ، و أن يعرف الشاعر كيف يدخل في الموضوع ، و كيف يخرج منه دون أن يفتح شهية المستمع لإبداء الملاحظات ...
من الواضح أن الشاعر يجيد هذا اللّون من الشعر سبكا و تأثيرا ، و من الواضح أيضا أنه يميل الى الأنماط السالفة في شعر المناسبات ، الى أعمال الشعراء القدامى التي تأثر بها شعراؤنا ، ربما لشهرتها و جمالها .
والدليل على تأثر جابر بالشعر القديم هو نزوعه للنسج على ايقاع شعر الملاحم و الحروب ، كقوله في تكريم مدير احدى المدارس :
" فهم الأشاوس ما تلين قناتهم " و في موضع آخر " جردتَ سيفك صارما و مشعشعاً " .
لقد شبه القلم بالسيف و منحه منزلة عالية ، و هذه وجهة نظر صائبة ؛ فبدون ثقافة لا تكون حضارة !
و في قصيدة رثاء يقول جابر :
" أعدنانُ إنّ الحياةَ لجسر _ وما العمرُ إلاّ سريعُ انقضاءْ "
ليست المهارة في المعنى ، فالمعاني مطروحة في الطريق ، كما قال الجاحظ . إنّما المهارة كَونْ الشاعر ألْبَسَ المعنى لفظاً جديداً ؛ لكن الفكرة مطروقة ، قال نابغة بني شيبان :
" وكلُّ امرئٍ إنْ صحَّ أَو طالَ عُمْرُهُ _ إلى ميتةٍ لا بُدَّ سوف يَصيرُ "
استحسنتُ قول عناد جابر في رثاء زميلة له :
" يا سعدَ قبرٍ ضَمّ في ظلماتهِ _ ريحانةً يزهو بها الرَّيحانُ "
و ماذا نقول بعد ، سوى أن هذا الديوان يستحق التقدير لغةً أسلوباً و فناً .