ساد صمت مطبق في القاعة الكبيرة حين اعتلى المنبر بثقة واعتزاز..بدا خطابه المموسق بكلمات شكر وعرفان .. شكر رئيس المجلس المحلي ومدير المدرسة والحضور الكريم.. شكر زوجته الغالية وأبناءه على الصبر والتفهم.. شكر أبي المقعد وإخوتي المحامي ورجل الأعمال وأختي المفتشة على المساندة والمؤازرة .. شكرَ والدتي المرحومة على التربية الصالحة التي رضعناها من صدرها الحنون... وأخيرا شكر الله عز وجل على كل هذه النعم.......... ثم بدأ يتفاخر بثقافته العالية التي تغذّت من جميع الينابيع و بإنجليزيته التي أصبحت تلقائية والتي سهّلت عليه كثيرا في الحصول على اللقب الثالث... ثم بعصاميته وإصراره اللذين بفضلهما تسلّق سلم النجاح...
تأملته مليا ثم أخذت أوزع نظراتي المستنكرة على جميع الحضور بالتناوب ... كنت محطّمة وأشعر بالهوان, بعد أن فقدت كل بارقة رجاء بأن يذكرني أخي الغالي ولو بكلمة طيبة صغيرة تجبر بخاطري المكسور, ولكنه استمر بخطابه المموسق ليثبت للحضور الكريم أنه يستحق بجدارة كل هذا التكريم... وتجاهلني أنا أخته البكر, البنيّة الصغيرة التي حوّلت زنديها لجسر عَبَرَ عليه هو وباقي إخوتي المحترمين, أنا هي البنيّة الصغيرة التي سُلخت عن مقاعد الدراسة وهي دون الثالثة عشرة لتقاد كالسائمة البلهاء إلى أحد مصانع الخياطة التي انتشرت في منتصف السبعينات في القرى العربية والدرزية, وفي ظل التعتيم الثقافي الذي ساد آنذاك ومستوى المعيشة المتدني, حيث التحقت بأحد المصانع ومعي المئات من الفتيات اللواتي كن ضحية هذه المصانع الاحتكارية التي استغلت العادات والتقاليد التي حَرّمت تعليم النساء والفتيات وأباحت تشّغيلهن بأًجرة زهيدة لا تتعدّى الأجر الأدنى, أنا هي البنت البكر التي تحوّلت لأم كلها حنان بعد رحيل الوالدة وبعد أن فاتها قطار الزواج، وها هو أخي المحترم الذي تسابقت وسائل الإعلام إلى محاورته وتصدرت المواقع الإلكترونية صوره ومقابلاته, بَخِل عليَّ بكلمةٌ واحدة طيّبة ليتهُ لو قالها لاختصر عذابات كثيرة أخَذَت تشتعل في فؤادي المكلوم وتساؤلات جمّة بدأت تتزاحم في رأسي الذي كادَ ينفجر من شدة الخيبة.... أهل نسيني أخي المثقف؟ أم تناساني ! يا الله ! يا عظيم امنحني صبراٌ جميلا.. مسحت دمعة كانت حبيسةُ بطرف كمي وانسحبت من القاعة الكبيرة مهيضة الجناح, خالية الوفاض, دون أن يلحظني أيٌ من إخوتي الذين أحبهم كثيراً وأنظر إلى الدنيا بعيونهم وأًصغي إليها بآذانهم ... وخرجت من أحد أبواب الطوارئ للقاعة حيث عَبَرت ممرا شبه مظلم أفضى بي إلى ساحةٌ خلفيةٌ... ووقفت مشدوهةً!! هي ذاتها السّاحة التي درجت عليها منذ خمس وثلاثين عاما ولم يغيّر ملامحها الزمان, ذاتهُ الجدار الحجريّ المبنيّ من حجارة الصوّان، وذاتهُ المقعد الخشبي الذي تظلله شجرة ظلٍ .. ونسيت حاضري وأمسي وأخذت أمشي على درب الخيال....آهٍ ما أنعَمَكِ يا دربَ الخيال..... أين هنَّ صديقات طفولتي؟ زينةٌ وهندٌ!!
... لطالما لعبنا تحت ظلِ تلك الشّجرة وتأرجحنا بساعدها الغض حتى كان يكادَ يصل الأرض, ثم كنّا نلِفُ وندور حولها كفراشاتٍ ملّونةٍ صغيرة .. وعندما كان يرهقنا الإعياء والتعب... كنّا نجلس على هـذا المقعد الخشبيّ الذي نخرَهُ السوس... نتقاسم الأسرار الصغيرة وعروس اللبنة والزعتر.. صديقاتي هندٌ وزينة اللواتي انضمّتا معي لأحد مصانع الخياطة وسلختا عن مقاعد الدراسةِ مثلي بدل أن تعاملن بقفازاتٍ حريرية في هذا السن الحرج, كم أفتقِدُكِ صديقتي هندٌ!! رحيلك أوجعني كثيراً ....هندٌ الطفلةُ ضئيلة القامة, التي وإن لم تكن على جانب من الجمال كانت على جانبٍ كبير من العفةِ والطهارة... طلّقها زوجها جوراً ليتزوج بأخرى إرضاءً لأهواء نفسهِ, هندٌ تمسّكت بأطفالها كاللبؤءة,عملت كآلة وكانت لا تتذمر ولا تشتكي ... عندما صافحتها آخر مرةٍ كانت كفيها خشنتان ككفي عامل بناء، وجهها شاحِبٌ كليمونةٍ وعندما لمت عليها وطلبت منها أن تعتني أكثر بصحتها أجابتني كعادتها: "( الكدُّ على العيال حسنة) صدئت الآلة ورحلت هندٌ وثمة أحد لم يكرمها".....
وصديقتي زينةٌ!! كانت زينة من بنات جيلي .. لبست ثياب القين (الحداد) وهي دون الخامسةِ والعشرين ربيعاً وتعّهدت بتربية أطفالها وتعليمهم بعد رحيل الوالد, زينة امرأةٌ برائحة الخبز والحطب امرأةٌ يستيقظ الفجر من أجلها، كانت تدغش كل يوم لتخبز خبز الصاج, اعتادت برد كوانين وقيظ آب وربّت رجالا أشداء بعرق الجبين وعزة النفس دون أن تلتفت يوماً لمال حرام أو تركض لمكاتب التأمين الوطني, لطالما رددت زينة أمامي بفخرٍ: (إن جار عليك الدهر جور على ذراعك) لماذا ثمة أحد لم يكرمها.... لماذا لا يكرمون غير هؤلاء الذين عاشوا حياتهم كلها مهرجانات وحفلات وأناقة و تبرّج؟...و يتجاهلون هؤلاء النسوة اللواتي حُقنن بِأمصال الرضا والقبول وضحيّن بعمر الشباب القصير ليربيّن أجيالا وراء أجيال.....
وفي خضّمِ تساؤلاتي العصية وأفكاري المرتبكة, أقبل نحوي زمرة من الصبية والبنات يلعبون بكرةٍ قديمة, كانت وجوههم مضيئةٌ كالأقمار وتعلو شفاههم ابتسامةٌ بكر، وعندما اقتربوا منيّ أصواتهم كانت كأهازيج الحساسين وشعَرّت بمهرجان طِفولتي يقبِل معهم, ...
أنا الامرأة الخمسينيةُ التي قرّرت أن لا تكتفي بالفرجةِ ....أخذّت أركض نحوهم تتأبطني اللهفةُ ويسبقني الحنين، وصدقاً أقول إنني كنت أُريد أن أُشارك الأولاد لعبهم ومرحهم, ليسَ إشفاقاَ على سنواتي التي لم أعشها !! ولا تعويضا عن طفولتي المنقوصة !؟ بل لأنهم أيقظوا في صدري البنية الصغيرة التي لم تكبر...... ولكنني تَعَثّرت بمشاعري الطفولية المختلطة وبتنورتي الطويلة وسقطت كومةٌ آدمية في وسط الساحة التي كانت مدرج طفولتي وألفت كل ركنٍ فيها..... وفوجئت بالأولاد والبنات يحيطونني بحنانٍ وشفقة كإحاطة النجومِ بالقمر, سلامتك خالتي, هل تأذيت؟؟ أنستدعي لكِ طبيباً؟ ولكن حرِنت الكلمات في فمي ولم أقدر على الإجابة, رغم أن كلماتهم كانت أحلى من عسل نيسان... و ركعت أمامي صبيةٌ عيناها بلون الشهد حيث أخرجت من محفظتها قنينة ماء صغيرة وقالت بحياءٍ: "بردي جوفكِ يا خالتي"... وَمَدّت يدها الحرير وساعدتني على النهوض وجرتني نحو المقعد القديم الذي نخره السوس وقالت استريحي قليلا يا خالتي... وعادت لأترابها تشاطرهم لعبهم ومرحهم.. بعد أن أومأت لها برأسي إنني بخير ورسمتُ ابتسامة رضا تعبيراً عن الامتنان,. أسندت ظهري على المقعد العتيق, كي التقط أنفاسي وتمنيّت أن تبقى تلك الصبية ولو قليلاٌ.. لأنني كنت أُريد أن أخبرُها هي وباقي الأولاد بشيءِ في صدري... إنني لا أطمع بتكريم ولا بكلمات جوّفاء رنّانة كالتي تنطلق من القاعةِ الكبيرة... كُلَّ ما كُنت أتمنّاهُ أن ألعب بتلك الكرة وأحمل تلك المحفظة.... ولكنها ذَهَبت... وشعرت بأن شيئا سيبقى في صدري....