لو كنتُ من محبي إطلاق الألقاب على الشعراء كل فيما أنجز ، لما ترددتُ بالقول أن بعض ما جاءَ في كتاب " أكل الولد التفاحة " لتركي عامر ، لا يقدر على إبداعه سوى شاعر كبير . لكنني شخصيا انظر الى الشعر على أنه مستويات . ولعل المستوى الأدبي الرفيع الذي حققه تركي عامر ، هو ما دفع وزارة الثقافة الجزائرية لأن تصدر الطبعة الأولى من الكتاب آنف الذكر .
إن شئنا مسحاً عابراً لقصائد تركي الواردة بين دفتي الكتاب المذكور ، لما وجدتُ لها كلمةً أفضل من منظور أفلاطون للإنسان مثلث الأبعاد : عقل يستقرئ الحق ، وإرادة تستقطب الخير ، وإحساس يستعذب الجمال .
وإن كان تركي عامر قد أولى هذه الأبعاد اهتماماً ملحوظاً ، ففي بعض قصائده في هذا الكتاب ما يدعو للتأمل و الإعجاب ! لننظر أولاً الى قصيدته " كيفَ تكتبُني ؟ " ولن أتناول غيرها في هذا السياق ، كوّنها بحاجة الى نقد متئد ، بل الى تشريح ؛ باعتبارها وارفة خصبة بالكاد يتسع لها هذا المقال .
كيف تكتبني ؟ أي ان القصيدة تسأل .. وكيف تُكتب القصيدة ، أو كيف يكتب الشاعر قصيدته ، سؤال طالما تردد ولا يزال في المجتمع الأدبي . و في هذا الموضوع تتضارب الآراء بين لغط التسويغ و خلاصة الأجوبة .
ومن هذه الخلاصة الأنيقة إجابة تركي عامر ، و التي لم تأت عفو الخاطر ، إنما هي نتيجة لتجربة طويلة في عالم الشعر تمتد على مساحة أربعين سنة في حدود علمي .
الأسهل للنقد أن آخذ كل مقطع بمفرده وأعالجه بما تيسر ، لكن في هذه الحالة كأننا نمزق القصيدة إرباً ، فعندئذ يتشتت ذهن القارئ ! لذلك سنورد القصيدة كلها كي تجتمع مقاطعها بعضاً إلى بعض في مواضعها الطبيعية لتؤلف صورة كاملة .
" كيفَ تكتبُني ؟ "
سألُتْني القصيدة ذاتَ مساءْ .
قلتُ : تأتينَ حُلْماً نقيا
بلونِ السماءْ
***
في سريرٍ حريرٍ
يراودُ طفلَ النّعاسِ حفيفاً خفيفاً ،
أراكِ حمامةَ روحٍ
كما يشتهيها الحمامُ ، ترفرفُ أمراً
يعاقرُ خمراً ،
تنامُ وليستْ تنامُ بغيرِ منامٍ
يعيثُ بقلبِ المنامِ مناماً
يعيشُ اشتهاءً يموتُ اشتهاءْ
***
وأراكِ يمامةَ بَوحٍ
تفرفر عمراً يقارعُ فَتْوَى إمامٍ
يطيلُ الكلامَ بدونِ كلامٍ
وليس يصيرُ الكلامُ كلاماً
إذا ظلَّ ظِلُّ الوراءِ أمامَ الأمامِ إماماً
و ليس هناكَ وراءَ الوراءِ وراءْ
***
وأراكِ غمامةَ عطرٍ بطعمِ نهارٍ
يُطلُّ بهياًّ ، يَظَلُّ شهياً ،
وليسَ يشاءُ النهارُ انتهاءْ
***
وأراكِ فراشةَ عشقٍ تتمتمُ آيةَ شوقٍ ،
ونحلةُ شوقٍ تترجمُ سُورَةَ عشقٍ .
وضوءاً نبيّاً يفهرس كوناً سَبياً :
يصير المكان ُ زماناً بغيرِ انتهاءٍ ،
يصيرُ الزّمانُ مكاناً بغيرِ ابتداءْ.
***
وأراكِ قصيدةَ ثلجٍ تقيٍّ
على شاطئِ الشَمسِ حُبْلَى
بحلمٍ نقيٍ
يفسرُ أرضاً بنارٍ وماءْ.
***
وبغامضِ علمٍ ، تصيرُ سماءً
بدونٍ غيومٍ ، بدونِ غيوبٍ ، بدونِ إلهٍ .
" توقِّفْ ! " ، تقولُ القصيدةُ ، " دَعْ
عَنْكَ ربّي وخُذ بي
الى البحرِ شوطاً ،
الى الحربِ شوطاً
يَرُدُ لروحي بعضَ الهواءْ ! " .
***
فأردُّ : ولكنّني ،
يا قصيدةُ ، لسْتُ ألاقي
الى البحرِ درباً يليقُ بثوبي ،
الى الحربِ ثوباً يليق بدربي ،
أعودُ إليَّ قليلاً ،
أعوذ بحُلْمٍ قديمٍ ،
أعيدُكِ حبراً نقيّاً
بلونِ السّماءْ.
**
ما يلفت النظر بداية تزاحم الأشياء الكثيرة المحسوسة و الملموسة وظفت بطريقة انتقائية كي تلائم بناء النص ؛ و الشاعر يهندس هذه الأشياء ببراعة ؛ وإلا لحدثت فوضى ، ولأصبحت الكلمات مجرد قطع من الشمع تتقولب كيفما أتفق ، أو وفقاً لمزاج الشاعر .
اذا كانت الرموز من العناصر المستحبة في الشعر ، فإن للرمز خصائص ، ومنها : " أن يكون إنجذابياً " حسب تعبير جيلبير دوران ، و " شاعرياً " كما قال بول ريكور .
و قصيدة تركي غنية بالرموز الشاعرية الجاذبة مثل : الشمس ترمز الى الحياة ، و الفراشة رمز الجمال ، و النحلة ترمز الى العطاء . قال سبحانه للنحلة : واسلكِ سُبُلَ رَبُكِ ذلُلاْ .
ان هذه الرموز التي هي " اختصار لعمليات عقلية " ساهمت في عدم اتساع رقعة القصيدة ، فبدت القصيدة رشيقة ملمومة كظبية الصبح .
و ما دمنا في سيرة الرموز ففي القصيدة رموز أخرى موحية ، كالحمام و الثلج و النهار . و هذه الرموز ذات اللون الأبيض مقصودة ولا شك ؛ باعتبار أن اللّون الأبيض يرمز الى النقاء ، فالشاعر " يشترط " في قصيدته أن تكون نقية : " تأتين حلماً نقياً " .
واللون الأبيض يرتبط في الثقافة العربية بالطهر و البراءة ، و يطلق على من به خصلة حميدة ، قال الأخطل : " رأيت بياضاً في سوادٍ كأنه – بياضُ العطايا في سواد المطالبِ " .
ونصادف في النص فقرات تبدو غامضة كقول الشاعر : تنام وليستْ تنام بغير منام / يعيثُ بقلبِ المنامِ مناماً .
تراني أميل للمثل القائل " لا سمكَ في الماء الصافي " . ربما أن الشاعر قصد عامل الوقت ، أي تفريغ الشحنة الشاعرية على مراحل ؛ ينسج قصيدته رويداً رويداً . وهذا الإجراء يذكرنا ب " الحوليات " في الجاهلية شعر زهير و غيره .
و التفسير الثاني وهو الأرجح أن الشاعر إتجه الى الجانب العلمي في الشعر ، و الذي هو من اختصاص النقد البنيوي . أظنه قصد الوعي و نقيضه اللاوعي .
و لا يستقيم تفسيرنا هذا إلا على أساس علم النفس الحديث . يقول الدكتور سارجَنت : ان معظم طلاب الرياضيات يقضون أحيانا ليالي بكاملها يحاولون حل مسألة رياضية ما ، ثم يستشعرون التعب فيأوون الى مضاجعهم ليفيقوا في منتصف الليل و جواب المسألة على صعيد عقلهم الواعي .
و السبب أن الحل – كما مر معنا – كان خارج العقل الباطن ، في تلك المنطقة التي ندعوها اللاوعي . ويضرب فرويد أمثلة عديدة على هذا النشاط اللاواعي ، مثل نسيان الأسماء و التواريخ و الأشياء .
ونصل بالقصيدة الى مظهر من مظاهر الميتافيزيقيا : " أراكِ حمامةَ روحٍ " و " يَردُ لروحي بعض الهواءْ ! " .
في تقديري أن لجوء تركي الى " الروح " خلال مخاض قصيدته يعود لرغبته في التحرر من قيود الجسد المادي ، يحاول التماهي مع لحظات استثنائية يخترعها / يتصوّرها ، كي يسمو بها عن كل ما يعيق حركة الفكر من عوامل و ظروف ضاغطة تحد من الإنطلاق نحو أجواءٍ صافيةٍ شفافة .
ولا أستغرب كون هذه الروح عند تركي و كأنها صفة مختلفة عن صفات الجسد ؛ فعودة الى القديس بولس يتبين أنه تكلم عن الروح بمعزلٍ عن الجسد ؛ أمّا هيجل فقد اعتبر " الروح " القوة المحركة الوحيدة في التاريخ .
لن أبحث عن حقائق في هذه القصيدة ، باعتبار أنها تندرج بمعظمها في إطار ما يسمّى كتابة الحالات ، و كتابة الحالات هي الكتابة الجمالية كما تعرفون .. وللدلالة على الجمالية في التعبير ، يكفينا من القصيدة :
و أراكِ غمامةَ عطرٍ بطعمِ نهارٍ
يُطِلُّ بهياًّ ، يَظَلُ شهياً ،
وليسَ يشاءُ النّهارُ انتهاءْ .
يستطيع الشاعر أن يضمر هدفه كما في التعبير السابق ، و ما على النقد سوى كشف المستور .. وفي هذه المسألة يروقني أحياناً عدم القطع .. لذلك أطرح السؤال : هل أرادَ الشاعر شهوة الكتابة حين تنعم عليه ملكة الشعر بالإلهام ؛ يأمل عدم انتهاء حضورها البهي ؟ ! .
وثمّة لمحة خاطفة تحفز على التأويل ، كما سنرى بعدُ :
" أعوذُ بحُلْمٍ قديمٍ "
يمكن تأويل قوله على أنه دعوة الى ضرورة التخلص من الإتباعية أو السلفية في القصيدة الحديثة ...
في هذا التشريح لهذه الرائعة لا نغفل اللغة . برأيي أن الشاعر لا يكفي أن يملك ناصية اللغة فحسب ، بل أن يعرف كيف يطوّع اللغة لمقتضيات العمل الأدبي .
تركي عامر استطاع أن يطوّع اللغة بامتياز ، ولغته في هذه القصيدة لغة متطورة مرنة تنسجم مع الحياة الجديدة .
من المفترض في القصيدة ، كل قصيدة ، أن يتوافر فيها العنصر الموسيقي ، وإلا فقدت ميزتها كشعر . في قصيدة تركي تنبع الموسيقى من تناغم داخلي حركي ، أكثر منها تناغم بين أجزاءٍ خارجيّة . أعتَقِدُ أن مثل هذه الموسيقى تحتاج الى تذوّق ؛ وليس الى أذُن لاقطة ..
و أخيراً الفكرة ، فكرة الإجابة عن السؤال " كيفَ تكتبُني " .
يقول ناقد فرنسي : إن الكلمة ثمرة للفكرة ، فمتى نضجت الفكرة سقطت كما تسقط الثمرة الناضجة ، لكنها تسقط على كلمتها .
ومن هنا، وبناء على ما تقدم ، يتضح لنا ان الفكرة عند تركي عامر ، هي فكرة ناضجة تماماً ، بل هي فكرة جديدة في سياقها ؛ وكل فكرة جديدة خليقة بأن تحظى بقبول حسن .
[email protected]