غالبا ما يُعتبر الشعر المهجري، وعلى الأخصّ ما كتبه الشعراء العرب في المهجر الشمالي؛ في الولايات المتّحدة الأميركية، في مطلع القرن العشرين، خطوة تجديديّة فريدة في تاريخ الشعر العربي الحديث. بفضل ما أنتجه شعراء الرابطة القلمية بالذات ( لقراءة المزيد من التفاصيل عن الرابطة القلمية، انظر ميخائيل نعيمة: جبران خليل جبران، بسكنتا، 1934، ص. 157 – 162؛ نادرة جميل سرّاج: شعراء الرابطة القلميّة، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1964، ص. 83 -87؛ عيسى الناعوري: أدب المهجر، دار المعارف بمصر، القاهرة، ص. 21 – 26 .) ،غالبا ما يشار إلى شعراء المهجر، الشمالي بوجه خاصّ، باعتبارهم أصحاب مدرسة "رومانسيّة" جديدة في الشعر العربي الحديث، تختلف إلى حد بعيد عن المدرسة النيو كلاسيكيّة المهيمنة آنذاك تماما على الشعر العربي في الشرق الأوسط.
كان أعضاء الرابطة القلميّة جميعهم من المسيحيين، سوريين ولبنانيين، بل إنّ بعضهم كانوا تلقّوا تعليمهم في المدارس التبشيريّة أيضا. ذلك ما دعا، في ظنّنا، باحثين كثيرين إلى القول بأنّ الثقافة المسيحيّة كانت الأساس لتجديداتهم، وإلى إبراز الموتيفات والملامح المسيحيّة في نتاجهم أيضا (انظر، على سبيل المثال، محمد مصطفى بدوي: مقدّمة نقديّة للشعر العربي، كامبريدج، 1975، ص. 179 – 185 [ بالإنجليزيّة]؛ شموئيل موريه: الشعر العربي الحديث 1800 - 1970، لايدن، 1976، ص. 82 – 122[بالإنجليزيّة]؛ أنس داود: التجديد في شعر المهجر، القاهرة، 1970، ص. 57 – 95). هذا الموقف غلب تماما على الكتّاب والدارسين جميعا، بحيث أصبح يشار عادة إلى الشعر المهجري باعتباره شعرا "مسيحيّا"، دونما نقاش. بل إنّ الأستاذ شموئيل موريه في كتابه، الشعر العربي الحديث 1800- 1870، ذهب إلى أبعد من ذلك، زاعما أنّ شعر المهجر تأثّر في تجديده، تأثّرا مباشرا، بالترانيم الدينيّة المترجمة من الإنجليزية إلى العربيّة، عند الطائفة البروتستانتيّة بالذات!
طبعا، لا يمكن تجاهل الخلفيّة المسيحيّة لشعراء الرابطة القلمية، ولا التأثيرات المسيحيّة الواضحة في نتاجهم أيضا. فالثقافة المسيحيّة تشكّل مقوّما واضحا في نتاجهم الأدبي، الشعري والنثري؛ ذلك أنّ ما نتلقّاه من ثقافة في الصغر لا يفارقنا أبدا. إلا أنّ هذه الثقافة ليست المقوّم الوحيد، ولا الأوّل أيضا، في الخلفيّة الثقافيّة لجميع شعراء الرابطة. بكلمة أخرى، يمكن القول إنّ انشغال الدارسين المفرط بالسمات المسيحيّة في شعر الرابطة أدّى بكثيرين منهم إلى إهمال مكوّنات أوّليّة أخرى كثيرة في نتاجهم الشعري. على كل حال، ليس التراث المسيحي، كما سنرى لاحقا، المصدر الوحيد لتجديد شعراء المدرسة المهجرية، ولا الأوّل أيضا!
نبدأ بالسؤال: هل يمكن الشاعر، أو مجموعة من الشعراء، إنتاج شعر عربي، بمركّباته اللغويّة والأسلوبيّة والإيقاعيّة، في قطيعة تامّة عن التراث الشعري العربي على مرّ العصور، بما فيه الشعر الكلاسيكي أيضا؟ في سبيل دحض هذه النظرة المغالية، يمكنا بداية طرح السؤال: كيف يمكن أصلا لمجموعة من الشعراء العرب، أينما كانوا، أن ينتجوا شعرا عربيا، بكل مقوّماته من عروض ونحو ومعجم شعري، في قطيعة تامّة عن التراث الشعري في العربية؟ وبالنسبة إلى شعراء الرابطة القلميّة تحديدا: هل كان من المعقول، دعك من استحالة ذلك عمليا، أن يستأصل هؤلاء الشعراء من ذاكرتهم ووعيهم كلّ ما تعلّموا وذوّتوا، في طفولتهم وشبابهم ومدارسهم وممارساتهم الأوّلية ، من شعر كلاسيكي، أو كلاسيكي جديد؟
لعلّه من المفيد، في هذا المجال، النظر من جديد في صواب هذه الفرضيّة، وذلك بالبحث التفصيلي الدقيق في نتاج واحد من شعراء الرابطة القلمية البارزين، هو الشاعر المهجري المعروف نسيب عريضة.
وُلد الشاعر نسيب عريضة (1887- 1946) في مدينة حمص، في سورية، وتلقّى تعليمه الابتدائي في إحدى المدارس الروسيّة المجّانية هناك. بعد ذلك انتقل، مكافأة له على نجاحه، إلى مدرسة المعلّمين الروسيّة في الناصرة، حيث قضى خمس سنوات (1900- 1905). في المدرسة المسكوبيّة في الناصرة، التقى عريضة أيضا بالشاعر ميخائيل نعيمة (1889-1988)، والشاعر عبد المسيح حداد (1890-1963)، وهؤلاء الثلاثة كان لهم لاحقا دور بارز في الأدب المهجري الشمالي، وبالذات في الرابطة القلمية التي أنشئت لاحقا في نيو يورك، في الولايات المتحدة الأميركية، في سنة 1920.
بعد المدرسة الروسيّة في الناصرة، هاجر عريضة في سنة 1905 إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، حيث أنشأ في سنة 1912 مطبعة "الأتلنتيك"، ومجلّة باسم "الفنون" نشرت على صفحاتها، في الأساس، الأدب المهجري من شعر ونثر، بأقلام أعضاء الرابطة. إلا أن عريضة اضطرّ إلى إيقاف المجلة عن الصدور، خلال الحرب العالمية الأولى، لأسباب مادّية. في سنة 1918 جرّب عريضة حظّه في الأعمال الحرّة، إلا أنّه لم يلاقِ النجاح في هذا المجال أيضا، فحاول من جديد الارتزاق عن طريق الكتابة في صحف أخرى. لكنّه رغم كلّ محاولاته هذه، عاش فقيرا حزينا حتى يوم وفاته في نيو يورك، سنة 1946.
عانى عريضة من المصاعب المادّية طوال حياته، كما أسلفنا، فعاش حياة الوحدة والكآبة والألم، وانعكس ذلك كلّه في شعره المفعم بالآلام والشجون (لتفاصيل أخرى عن حياة نسيب عريضة، انظر نادرة سراج: نسيب عريضة، القاهرة، 1970، ص. 23 – 37؛ الناعوري، ص. 408 – 420؛ بدوي، ص. 191 – 195).
نشرت أشعار عريضة، بعد وفاته، في نيو يورك سنة 1946 في ديوان ضخم من 286 صفحة، بعنوان "الأرواح الحائرة" ( نسيب عريضة: الأرواح الحائرة، نيو يورك، 1946). ضمّ الديوان المذكور 95 قصيدة، ومعظم قصائده هذه تحمل حساسية رومانسية عميقة، وتقوم على تصوير الحياة الحزينة والحيرة والفقر والوحدة البائسة فيها. هكذا تعكس قصائد هذه المجموعة كلّها ظروف الشاعر الشخصيّة البائسة، إلى جانب الموقف الرومانسي الواضح من الحياة ومن المصير الإنساني الذي خبره بنفسه (عن حياته البائسة، انظر شعراء الرابطة القلميّة، ص. 350 – 353؛ بدوي، ص. 192.). بذلك، وبالخواصّ الأسلوبية الواضحة، نستطيع القول إن ديوان "الأرواح الحائرة " يمكن أن يمثّل أصدق تمثيل المدرسة المهجريّة كلّها، أو في أميركا الشمالية على الأقلّ.
قبل شروعنا في تناول هذا الديوان الضخم بالتفصيل الدقيق، وبالذات في تقصّي صوره الشعرية المركزية، المسيحية والكلاسيكية على حدّ سواء، هناك ثلاث ملاحظات أوليّة يجدر بنا تناولها أولا، لكي نستطيع تقصّي هذا الشعر المجدّد في إطاره الصحيح.
الملاحظة الأولى أنّ الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص لبنان ومصر، شهد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حركة إحياء كبرى للتراث العربي الكلاسيكي، أو ما اصطلح مؤرّخو الأدب على تسميته حركة إحياء التراث. في هذه الحقبة أنشئت المطابع الكثيرة، وقامت المكتبات، وتشكّلت الجمعيّات الأدبيّة، ما أدّى جميعه إلى دفعة قويّة في نشر المؤلّفات الكلاسيكيّة، بما فيها طبعا الشعر، من العصور القديمة، خصوصا العصر العباسي، أو ما يسمّى في تاريخ الأدب العربي، العصر الذهبي ( انظر جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربيّة، بيروت، 1986، المجلّد الرابع؛ حنا الفاخوري: الجامع في تاريخ الأدب الحديث، بيروت، 1886، ص. 7 – 20.). بكلمة أخرى، كان الجوّ الأدبي في لبنان، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حافلا بالمطبوعات المتنوّعة ومن الشعر العربي الكلاسيكي بالذات.
المسألة الثانية أنّ عريضة، كما أسلفنا، أنهى تعلّمه في المدرسة الروسيّة في الناصرة، حيث ألمّ إلماما واسعا باللغة العربيّة وآدابها في الفترة الكلاسيكيّة، من شعر ونثر ونحو وعروض (انظر ميخائيل نعيمة: سبعون، المجلد الأوّل، ص. 122 – 124، 143 – 145.). هذه السنوات من التحصيل في المدرسة الروسيّة في الناصرة، هيّأت له دونما شكّ خلفيّة صلبة استطاع أن يستغلّها مؤخّرا، حين عمد إلى كتابة الشعر العربي بعد هجرته إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، وإنشائه مجلة "الفنون" هناك.
لا بدّ أخيرا من الإشارة أيضا إلى مطالعات عريضة الذاتيّة في الولايات المتّحدة بعد هجرته إليها. فقد ذكرت نادرة السرّاج، في كتابها، عن حياة عريضة في الولايات المتّحدة، أنّه قرأ من الأدب الأميركي والإنجليزي أقلّ بكثير ممّا قرأ أعضاء الرابطة الآخرون، إذ قضى جلّ وقته في قراءة الأدب العربي، القديم والمعاصر، في القسم العربي من المكتبة العامّة في نيو يورك ( نادرة السرّاج، نسيب عريضة، ص. 50، 141.).
إذا انصرفنا الآن، بعد هذه الملاحظات الأوّليّة، إلى تقصّي السمات الأسلوبيّة في شعر عريضة عن كثب، فسوف نجد أنّ التأثيرات المسيحيّة في شعره كانت ضئيلة فعلا، خصوصا إذا ما قورنت بالتأثيرات العربيّة الكلاسيكيّة والإسلاميّة. ففي ديوان عريضة الضخم؛ من 95 قصيدة في 286 صفحة "ممتلئة"، لم نعثر على أكثر من خمس أو ستّ إلماعات إلى التراث المسيحي:
1. في قصيدة باسم سلّة فواكه ( الأرواح الحائرة، ص. 91 – 96) تذكّره الفواكه التي شاهدها في السلّة
بصورة الملك سليمان الحكيم وشولميت في نشيد الأنشاد. هذا الإلماع العريض إلى التوراة
يظهر واضحا في التخميسة التالية:
وطارت الروح فوق الأرض والحللِ حتّى أناخت على أيّامها الأولِ
وخلتُ أنّي سمعتُ الصوتَ ينقل لي صدى نشيد أناشيدٍ من الغزلِ
ومشهدًا أجتليه عن سليمانِ
ب. في قصيدة أخرى بعنوان صلاة الأموات ( الأرواح الحائرة، ص. 156 – 160)، يحضّنا الشاعر على
الصلاة أيضا حتى "من أجل مومس طهير الروح"، في إلماع مباشر واضح إلى المسيح
وحكايته مع مريم المجليّة:
كم رجمتها الناسُ بالتلميحِ ومثلها سارت مع المسيح
ج. الإلماع الثالث إلى النصرانيّة؛ إلى الصليب هذه المرّة، باعتباره رمزا للمعاناة، عثرنا عليه
في قصيدة على الطريق ( الأرواح الحائرة، ص. 61، وانظر أيضا: ص. 120، 186، 188.):
شقينا بحمل صليب الزمانِ ولكنْ غلبنا الشقا بالأماني
د. هناك إلماع آخر إلى التراث المسيحي، وإلى مزامير النبي داود بالذات، وذلك في البيت
الأوّل من قصيدته "علّقت عودي" (الأرواح الحائرة"، ص. 138؛ وانظر أيضا موريه، ص. 90) :
علّقتُ عودي على صفصافة الياسِ ورحتُ في وحدتي أبكي على الناسٍ
ه. أخيرا، هناك إلماع مسيحي آخر، في قصيدة عريضة "الفلسفيّة" الطويلة التي أسماها "على
طريق إرم"، يستخدم فبها تجلّي المسيح رمزا لملاقاة "العالم الروحيّ"( الأرواح الحائرة"، ص. 194):
فلْنرقَ طود التجلّي ففي الذرى نستنيرُ
إذا ارتقينا الثنايا قرب الإله نصيرُ
هذه هي الإلماعات الخمسة الوحيدة إلى التراث المسيحي، بحيث يمكننا اعتبارها هامشيّة فعلا، لا قيمة لها، في ديوان ضخم، من 396 صفحة، كتبه واحد من أبرز شعراء الرابطة القلميّة!
بخلاف ذلك، نجد في ديوان عريضة المذكور إلماعات ورموزا كثيرة بارزة تشهد بوضوح على صلة عريضة الوثيقة بالتراث العربي الكلاسيكي، وبالثقافة الإسلاميّة بالذات، كما سنبين في السطور التالية:
1. هناك رمز إسلامي يتكرّر غير مرّة في ديوان عريضة، ألا وهو حكاية إرم، أو إرم ذات العماد، كما وردت في المصادر الإسلاميّة. يشرح الشاعر عنوان القصيدة المذكورة، على طريق إرم، وهي قصيدة رمزيّة طويلة، من ستة أقسام (الأرواح الحائرة ص.178- 197)، فيذكر في "توطئة" نثريّة قصيرة أنّه " جاء في أساطير العرب أن "إرم ذات العماد" مدينة عجيبة بناها شدّاد بن عاد من حجارة الذهب واللؤلؤ والجواهر فكانت فتنة باهرة للعيون لا يقدر القادم إليها من بعيد أن ينظر إليها إذا واجهها في النهار" (الأرواح الحائرة، ص. 178). إلا أنّ اسم المدينة مذكور في القرآن الكريم أيضا ( سورة الفجر، 82/ 7)، وإن كان الشاعر يقتبس الأساطير العربيّة فقط، ملمعا إليها في سياق "رومانسي" جديد، جعل المدينة فيه "مدينة روحيّة"، سار في القافلة راجيا الوصول إليها. لكنّه لا يظفر في النهاية بغير مشاهدة ألقها من بعيد، دونما قدرة على دخولها. كما تظهر إرم هذه مرّة أخرى في قصيدة بعنوان المسافر يهديها عريضة إلى صديقه وليم كاتسفليس، أحد أعضاء الرابطة القلميّة "وقد أزمع سفرا إلى الصين". يقول عريضة في القصيدة المذكورة:
خير الدروب مجاهل تُخفي الطريق إلى إرمْ
فإذا بلغت قصورها أنستْكَ جوعك والألمْ
2. كذلك يورد عريضة اسم الملاك هاروت الذي ورد ذكره في القرآن الكريم (سورة البقرة، 2/102)، في قصيدة بعنوان "حديث الشاعر" (الأرواح الحائرة، ص.17) يقول فيها:
عن رياضٍ فتحت أحضانها لعناق الصبّ في ظلّ الشجرْ
عن جمال الغيد في فتنته عاف هاروتُ الخلود المنتظرْ
3. لعلّ أكثر ما يشدّ انتباه القارئ هو إلماع عريضة إلى الموتيفات الإسلاميّة في قصيدة كرّسها لمدينة نيويورك الأميريكيّة بالذات (الأرواح الحائة، ص. 269 – 273، وانظر أيضا قصيدة حجة إلى قبر، ص. 172). يقول عريضة في قصيدة نيو يورك مثلا:
هذه كعبة يُحجّ إليها كلّ يوم وليس فيها محرّمْ
....
هذه كعبة الطموح وفيها حجر المشتهى لمن يتسلّمْ
لك فيها من المشاعر أقداس طوافٍ ومستقى من زمزمْ
هكذا يصف عريضة مدينة نيو يورك، مركز الحضارة الغربيّة، بلغة غير متوقّعة تماما، بل تقترب من حدود الإيرونية أيضا!
4. يورد عريضة في ديوانه إلماعات أخرى إلى يوم القيامة في التراث الإسلامي، مثل يوم الدين، النشور، بوق النشور والنفخ في الصور، وهي تتردّد غير مرّة في شعره، كما في المثال الآتي الذي يخاطب فيه نفسه (الأرواح الحائرة، ص. 87؛ وانظر أيضا ص. 125):
فيظنّ زفرتك الأنامْ بوق النشور ليوم دين
كما نجد إلماعات قرآنيّة أخرى واضحة في ديوان عريضة، مثل قطوف دانية، سدرة المنتهى والزقّوم (الأرواح الحائرة، ص. 95، 123، 271، بالترتيب).
5. آخر الشواهد، في هذا السياق، لعلّه أكثرها إدهاشا فعلا. ففي قصيدته نشيد المهاجر
يعلنها الشاعر المسيحي الأورثوذكسي صريحة في ختام القصيدة (الأرواح الحائرة، 248):
وفي فلسطين أقداسي، وعاطفتي في نجد، والقبلة السمحاء إيماني
ليَ العروبة أمشي في مخارفها[؟] من العراق إلى ما بعد وهرانِِ
أزهو بثوب فخار من مناسجها حتى تقرّب أيدي البين أكفاني
* * * * *
النوع الثاني المستمدّ من التراث الكلاسيكي، هو بلا شك أكثر الظواهر الأسلوبيّة بروزا في شعر عريضة، ويتشكّل من شخصيّات وصور وتراكيب أدبيّة كلاسيكيّة بارزة. فمع أنّ ديوان الشاعر هو ديوان "رومانسي" لا تخطئه العين، إلا أنّ الشاعر غالبا ما يستمدّ عناصره الأوّليّة من الأصول الكلاسيكيّة، ليوظّفها مجازيّا في سياق "رومانسي" متميّز:
1) في المقام الأوّل، بلا شكّ، تتجلّى الشخصيّات الكلاسيكيّة من شعراء وشخوص بارزة في التاريخ الكلاسيكي بوجه عامّ. ففي قصيدة الصديق مثلا (الأرواح الحائرة، ص. 26 – 27) يرسم عريضة شخصيّة الصديق الأمثل الذي يتمنّاه لنفسه، معدّدا سجاياه، فلا يجد مثالا لذلك الصّديق غير شاعرين كلاسيكيّين، أحدهما شاعر الغزل والشراب مسلم بن الوليد، والآخر هو الشاعر الفارس عمرو بن معد يكرب:
هو يوم الطلا "صريع الغواني" وهو يوم الطراد "عمرو بن معدي"
2) في الديوان أيضا إلماعات كثيرة إلى الأدب الكلاسيكي، وبخاصّة الشعر منه. هناك، مثلا، إلماعان إلى القائد طارق بن زياد، فاتح إسبانيا، وإلى خطبته الشهيرة (لمزيد من التفاصيل عن خطبته تلك، انظر إيليا حاوي: فن الخطابة وتطوّره عند العرب، بيروت، دونما تاريخ، ص. 472 – 474.) في جنوده قبل بدء المعركة الحاسمة (الأرواح الحائرة، ص. 131، 275، بالترتيب.):
ونبلغ مرفأ الحظوات نحرق بعدها السفنا
ولتمرة في القفر أجعلها على جوع طعامي
أشهى إليّ من الأطايب فوق مائدة اللئام
بل إنه في قصيدة بعنوان غادة العاصي يُلمع إلى أبي الطيّب المتنبّي (915 – 965) وإلى ديك الجن الحمصي (777 – 849) في المقطوعة ذاتها (المصدر نفسه، ص. 278؛ وانظر أيضا قصيدة يا جارتي في الغرب ص. 274 - 276) :
أنتِ المليحة، مهجتي تفديكِ
حسنُ البداوة والحضارة فيكِ
وقتلت ديك لجنّ ويح الديكِ!
"فتكاتُ لحظكِ لا سيوف أبيكِ"
3) يذكر إحسان عبّاس ومحمّد يوسف نجم، بحقّ، في كتابهما عن الأدب المهجري في أميركا الشماليّة، أنّ نسيب عريضة يكثر في شعره " من صور البادية [...] فأما المحور الذي تدور عليه أكثر رموزه، فهو القافلة والرحلة، ولذلك نجده يتحدّث دائما، عن الربوع والدليل والظلام والحادي والنور البعيد والسراب والناقة والركْب والحمى والوطاب. " (الدكتور إحسان عبّاس، الدكتور محمّد يوسف نجم: الشعر العربي في المهجر، أميركا الشماليّة، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1967، ص. 213 - 214). بل إنّ المجال هنا يضيق عن إيراد كلّ ما يتضمّنه ديوان عريضة من ألفاظ وموتيفات صحراويّة مثل: الركْب، القافلة، الحادي، الأطلال، الدليل، الظعن، الحِمل، السراب/الآل، الدليل، حرق الوطاب، الحمى/الربع، وألفاظ "صحراويّة أخرى كثيرة؛ تُستخدم كلّها بدلالتها الرمزيّة غالبا. نكتفي من ذلك كلّه بإيراد مقتبس قصير من بيتين، من مجزوء الكامل، لتصوير مدى هيمنة هذه الموتيفات الصحراويّة على فنّ عريضة. ففي قصيدة بعنوان على الأطلال نقرأ المطلع التالي ( الأرواح الحائرة، ص. 28؛ وانظر أيضا ص. 73، 88، 126، 130، 182، 188، 274.):
يا صاحبيّ لقد عفا ربع المودّة والوفا
عوجا على أطلاله ومع القلوب به قفا
* * * * *
أخيرا، أجد من المناسب تناول قصيدتين من ديوان عريضة، كلا على حدة، وذلك لمكانتهما الخاصّة في ديوان الشاعر، وفي بحثنا هذا.
القصيدة الأولى هي احتضار أبي فراس، وتتألّف من سبعة مقاطع، في ثماني صفحات "ممتلئة" ( الأرواح الحائرة، ص. 211 – 219)، وترمي إلى "مسرحة" الساعات الأخيرة من حياة الشاعر أبي فراس الحمداني في أسر الروم ( حول هذه "المسرحيّة"الشعريّة بتوسّع، انظر نادرة سراج، نسيب عريضة، ص. 114 – 121). المقاطع الثلاثة الأولى من "المسرحيّة" تشكّّل في الواقع قصيدة واحدة من عشرين بيتا، من البحر الخفيف، قافيتها النون المضمومة، تماما كما في المبنى الكلاسيكي. لكنّ الشاعر يقسّمها إلى أقسام ثلاثة، لكي تعكس حالة الشاعر الفيزيائية والنفسية المتقلّبة في لحظاته الأخيرة. بخلاف نادرة السرّاج التي اعتبرتها "قصيدة تمثيلية"، نرى أنّ القصيدة المذكورة، في أحسن الأحوال، هي تجربة تلفت النظر لتصوير حالة الشاعر المتغيّرة في ساعاته الأخيرة، وذلك في مونولوج مطوّل يرسم، في "قصائده" المختلفة وزنا وقافية، الأبعاد النفسية لهذه الرحلة الأخيرة.
القصيدة مكتوبة في صياغة كلاسيكية خالصة، وتعكس في كلّ تفاصيلها خبرة الشاعر بالحياة والشعر . يقتبس عريضة في هذه "المسرحية" ستّة أبيات لأبي فراس في "حواره" الشهير مع الحمامة التي "تنوح" وهي طليقة، وأربعة أخرى في خطابه لابنته – "أبنيّتي لا تجزعي..."- بالإضافة إلى شطرين من رائية أبي فراس المعروفة في "الخاتمة"، مدلّلا بذلك على قرابته من أبي فراس ربّما: أحدهما في الأسر والآجر في المهجر!
القصيدة الثانية هي قصيدة يا نفس (الأرواح الحائرة، ص. 87 – 90). وهي قصيدة مقطوعيّة(strophic) طويلة، تتشكّل من ثلاثين مقطوعة، تتضمّن كلّ واحدة منها أربعة أشطر، في بيتين، من مجزوء الكامل، ونظام التقفية في أشطرها الأربعة هو AAAB، والقافية الأخيرة B تختم المقطوعات كلّها على امتداد القصيدة.
تطغى على القصيدة كلّها نغمة رومانسيّة حزينة، وتقوم على تساؤل حائر يتناول الإنسان ومصيره في هذه الحياة، وما بعد الحياة أيضا. كما تتناول بالتساؤل المذكور فكر الرابطة بشأن الروح والجسد والموت والخلود.
ليست يا نفس القصيدة الوحيدة التي عرض فيها عريضة لمسألة الروح والخلود والمصير الإنساني ( انظر مثلا قصيدة إلى نفسي، ص. 104 -106، يا نفس لا تبكي، ص. 149 – 150) ، إلا أنّها أطول وأشهر قصيدة في شعر المهجر تناولت هذه المسألة "الفلسفية"، وبأسلوب شامل وعميق، لتصبح، ربّما، أكثر ما يشار إليه من شعر في هذا الشأن.
رغم أنّ قصيدة يا نفس تمثّل، دون أدنى شكّ، تجديدا رومانسيّا في مادّتها وصياغتها، إلا أنّ أسلوبها مع ذلك وثيق الصلة بالشعر الكلاسيكي والثقافة الإسلاميّة أيضا، كما هي الحال في معظم شعر عريضة.
حتى في هذه القصيدة المهجريّة المثاليّة، نجد تراكيب وموتيفات كلاسيكية لا تخطئها العين: بوق النشور، يوم الدين، الركْب، الحمى، الربوع، الأديم، هرْق الوطاب، الرحْل، السراب/الآل، الأوام، حمّ القضاء. الأهمّ من ذلك، ربّما، هو الأثر المباشر أسلوبا ومادّة لقصيدة يا نفس الشهيرة للفيلسوف المعروف ابن سينا (انظر محمّد كامل الحر: ابن سينا، بيروت، 1991، ص. 74 – 76). فرغم الخلاف البيّن بين القصيدتين، وزنا وقافية؛ فقصيدة عريضة مقطوعيّة من مجزوء الكامل بينما قصيدة ابن سينا مكتوبة في المبنى الكلاسيكي للكامل وذات قافية موحّدة، إلا أنّ الشبه في مادّتهما لا تخطئه العين (انظر أيضا عباس ونجم، ص. 66؛ سرّاج، نسيب عريضة، ص.65 – 66؛ أنس داود، ص. 212). فالروح في كلتا القصيدتين تشبّه بحمامة نزلت من مكان علويّ، ودخلت الجسد مرغمة على هذه الأرض. والجسد ما هو إلا سجن للروح، ولذا فإنّها لا تلبث تنوح إلى أن تتحرّر لتعود ثانية إلى وطنها الأوّل. ثمّ إنّ القصيدتين كلتيهما تصفان هذه "الرحلة" بأسلوب متشابه في مفرداته أيضا. ففي قصيدة ابن سينا نجد: ورقاء، هبوط، بكاء، الحمى، شرك/قفص. وفي قصيدة عريضة يستخدم: حمامة، هبوط، نَوح، الربوع/الحمى، سجن الأديم.
لعلّه من المفيد أخيرا المقارنة بين قصيدتي ابن سينا وعريضة بالتفصيل، لكنّنا نكتفي هنا بمقتبس قصير من قصيدة عريضة هو المقطوعات الأربع: 4، 6، 9، 10، لإبراز مدى الشبه بين القصيدتين:
أطلقتِ نوْحكِ للظلامْ إيّاكِ يسمعكِ الأنامْ
فيظنّ زفرتكِ النيامْ بوقَ النشور ليوم دينْ
أحمامة بين الرياحْ قد ساقها القدر المتاحْ
فابتلّ بالمطر الجناحْ يا نفس مالكِ ترجفينْ؟
أصعدتِ في ركب النزوعْ حتى وصلتِ إلى الربوعْ
فأتاكِ أمرٌ بالرجوعْ أعَلى رجوعكِ تأسفينْ
أم شاقكِ الذكرُ القديمْ ذكرُ الحمى قبل السديمْ
فوقفتِ في سجن الأديمْ نحو الحمى تتلفّتينْ
أخيرا، لا بدّ لنا من الحيطة في تعميم الخواصّ الأسلوبيّة لشعر عريضة على نتاج شعراء الرابطة القلميّة كلّهم. إلا أنّ شعره يثير الشكوك، في أقلّ تقدير، حول التعميم الجارف في اعتبار المصادر المسيحيّة المصدر الأوّل والأهمّ في نتاج هؤلاء الشعراء. ولا شكّ أنّ بحوثا أخرى مشابهة قد توفّر الدليل الكافي لإعادة النظر في هذا التعميم الملتبس.
[email protected]
* نشر المقال، لأوّل مرّة في:Journal of Arabic Literature, Volume xxxv111