سياسة السُّكوت عند الدُّروز شدَّت اهتمام العديد من المؤرِّخين في السَّنوات الماضية، من بينهم المؤرِّخة "ليلى بارسونس" المحاضِرة في جامعة ميغيل الكَنَديَّة، والمؤرِّخان الإسرائيليَّان "حايم بلانك ويواف غيلبر". وتركَّز اهتمامهم في محاولة شرح العوامل المركزيّة الَّتي أدّت إلى تبنِّي سياسة السُّكوت عند الأغلبيَّة السّاحقة من أبناء الطّائفة الدّرزيّة الَّذين سكنوا فلسطين خلال الانتداب الإنجليزي، في وقت شهد أحداثًا دامية، وصراعًا مستمرًّا بين الأطراف المتنازِعة على السّيطرة على الأرض، وعلى رأسهم القوى العربيّة والإسلاميّة، والحركة اليهوديَّة وحلفائها في الدُّول الغربيَّة.
والواقع هو أنّ الأغلبيَّة السّاحقة من أبناء الطّائفة الدّرزيّة قد تبنَّت سياسة السُّكوت خلال تلك الفترة، وامتنعت عن اتِّخاذ موقف داعم، وعن تسبيب أيَّة خسارة للأرواح أو للممتلكات لأحد الأطراف المتنازِعة. وذلك على الرّغم من محاولة بعض المؤرّخين العرب إعطاء صبغة مختلفة لدورهم في النّزاع، وكونهم الأكثر ولاء للصّراع العربيّ، أو ومحاولات وصفهم الأكثر ولاء للجهة اليهوديّة كما حاول البعض الآخر.
لقد انعكست سياسة السُّكوت بشكل واضح من خلال أهم أحداث تلك الفترة، وما يُعرف بالثّورة العربيّة الكبرى، والَّتي امتدّت منذ عام 1936 حتى عام 1939، ومن خلال أحداث حرب 1948 الَّتي امتدّت على مدار ما يقارب سنة كاملة. ففي حين سبّبت الأطراف لبعضها خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات والبنية التّحتيّة، امتنعت الأغلبيَّة السّاحقة من أبناء الطّائفة عن اتّخاذ موقف.
"بلانك"، كغيره من المؤرّخين الإسرائيليّين، ربط سياسة السُّكوت خلال تلك الفترة بنواحٍ عقائديّة خاصّة بالدُّروز، ولا سيّما مبدأ التّقيّة عندهم. فبحسبه لا يمكن شرح التّصرّف السّياسي عند الدُّروز بدون الأخذ بالاعتبار مبدأ التّقيّة، وهو بمثابة مرجعيّة لتصرّفهم في حالة مواجهة خطر خارجي كالَّذي داهمهم خلال الصّراع في فترة الانتداب. في حين علّلت "بارسونس" التحاق العدد الأكبر من الدُّروز بسياسة السُّكوت باهتمام الحمائل الكبيرة الَّتي قطنت فلسطين حين ذاك (تحديدًا في قرى المواجهة مثل عسفيا، دالية الكرمل، شفاعمرو، وقرى الجليل الغربي جولس، يركا وأبو سنان وعلى رأسهم آل طريف، خنيفس ، منصور، أبو ركن، حلبي ومعدي)، في الحفاظ على مصالحهم الاقتصاديّة ومراكزهم القياديّة داخل الطّائفة.
والواقع يُظهر ضعف هذه التّعليلات، لأنّ الأغلبيَّة السّاحقة عند الدُّروز اتّبعت سياسة مختلفة في فترة ما بعد قيام الدّولة تُعرف بسياسة التّوافق. وهي سياسة انعكست من خلال ولاء جارف من قِبَل أبناء الطّائفة للدّولة ومؤسّساتها، ولا سيّما المؤسّسات العسكريّة منها. الأمر الَّذي انعكس من خلال انضمام العديد منهم لصفوف جيش الدّفاع وحرس الحدود في العقدين الأوّلين بعد قيام الدّولة، وهو ما يُضعف شرح بارسونس كثيراً، وإلّا، كيف يمكن تعليل وجود أشكال مختلفة من العمل السّياسي بناء على عامل واحد كالتقيّة؟
وتعليل "بارسونس"، قد عانى من الضّعف لأنَّ مثل هذا التّعليل يفصل بين قيادة المجموعة وأعضائها، ويصفهم كدوائر منقطعة، في حين تتميّز قيادة الأقليّات "بأثنيتها" بمعنى أنّها تتكوّن من أفراد لهم المقدرات اللّغوية والمهارات المناسبة للتّعبير عن المصالح والمواضيع الملحّة للمجموعة تجاه قوى سياسيّة خارجيّة.
في مقالة أكاديميَّة قدّمتها مؤخّرًا للنّشر مع أحد المعاهد المختصّة بدراسة الشّرق الأوسط، وللمرّة الأولى يُنشر جزء من استنتاجاتها على صفحات مجلّة العمامة لقرّائها المحترمين، ادّعيت بأنّ لبّ ضعف الدّراسات السّابقة يكمن في محاولة تبرير تصرّف أبناء الطّائفة السّياسيّ من خلال التّركيز على عوامل داخليّة عند المجموعة كما هو الحال في شرح تصرّف سياسيّ عند الأغلبيَّة. في حين ادّعي من خلال مقالتي بأنّه ينبغي التّركيز على العوامل الخارجيّة أكثر لفهم تصرّفات سياسيّة عند أقليّات إثنيَّة.
بناء عليه، فإنَّ التزام الأغلبيَّة السّاحقة من أبناء الطّائفة بسياسة السُّكوت خلال الصّراع في فلسطين كان سببه الأساسيّ ضعف الخيارات المتاحة لهم في ظلّ التّطوّرات في محيطهم السّياسي. وتحديداً بعد أن أخذت القوى المقاوِمة للكيان اليهوديّ في فلسطين صبغة إسلاميّة متعصّبة، كفّرت حق الدّروز ككيان دينيّ مستقل من جهة، والمركبات الثّقافيّة المتناقضة بينهم وبين الكيان اليهودي بلغته الأجنبيّة وثقافته الغربيّة وديانته الخاصّة من جهة أُخرى.
لإثبات ادّعائي هذا سلَّطتُ الضوء على التّصرّف السّياسيّ لدى الأغلبيَّة من أبناء الدُّروز في ظلّ الأحداث الأخيرة والحرب المستمرَّة في سوريا. فعلى عكس القوى السياسيّة والطائفيّة المتناحرة على السُّلطة، حافظت الأغلبيَّة السّاحقة من أبناء الطّائفة حتى اليوم على سياسة السُّكوت. وكانت مظاهر التّحالف مع أيّ طرف من الأطراف قليلة.
إنّ فهم هذا التّصرّف عند دروز سوريا كما هو الحال عند دروز فلسطين، يتمُّ من خلال نظرة شموليَّة للمحيط السّياسيّ، وللإمكانيّات السّياسيّة والاقتصاديّة المُتاحة في حال حصول تغيّر جذريّ لنظام الحكم. الأغلبيَّة السَّاحقة تعرف جيِّدًا بأنّها – وفي حال حصول تغيّر جذري للنِّظام - ستبقى خارج دوائر التَّأثير. لأنَّ الأغلبيَّة الإسلاميّة السُّنِّيَّة ستحتفظ لنفسها بالقوّة. وفي حال بقاء نظام الأسد في الحكم ( المبنيّ على سياسة الولاء المُطلَق للحزب الحاكم)، لا يمكن أن يعتمد ولا بأيّ شكل من الأشكال على قوى من خارج الطّائفة العلويّة تحديداً بعد فقدانه للأيدولوجية القوميّة العربيّة ودعم الدّول العربيّة.
للوهلة الأولى قد تبدو سياسة السُّكوت كخيار غير ناجح خاصّة وأنّ مَن يتّبعها لن يحصل على الغنائم الاقتصاديّة والسياسيّة في فترة ما بعد النّزاع. ولكنّها بالطّبع أضمن خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار قلّة هذة الغنائم بعد صراعات دامية.
يعود الفضل الأكبر لنجاة القرى الدّرزيّة الَّتي قطنت فلسطين خلال فترة الانتداب بسكّانها الَّذين كانوا ما يقارب أربعة عشر ألف نسمة إلى سياسة السّكوت الّتي اتّبعتها الأغلبيّة السّاحقة منهم خلال حرب 1948 . في حين هجر ما يقارب ثمانيمائة وخمسين ألف عربيّ عاشوا في فلسطين، وأكثر من ثلاثمائة وأربعين قرية قد دُمِّرت، وبهذا أثبتت سياسة السُّكوت نفسها في ظلّ صراع يفوق طاقات الطّائفة الدّرزيّة السّياسيّة والاقتصاديّة.
في ظلّ النّزاع المستمرّ ودور الدّول العظمى المتزايد وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وروسيا، على دروز سوريا التحصّن بسياسة السّكوت ليحافظوا على بقائهم وإلّا سيكون الثّمن باهضًا على المدى البعيد أو القريب.