لسبب ما أشعر بالغبطة كلما نشأ جيل جديد من الأدباء في هذه الديار التي بقيت فيها الكلمة المتنفس الوحيد لشعبنا " الغريب " في وطنه !
مؤخراً حصلت على ديوان عنوانه " قمح في كفّ أنثى " صدر في بيروت للشاعر إياس يوسف ناصر ، من قرية كفر سميع الجليلية .
و كان لي مع أوراقه مشوار قصير ، مريح من جهة ، كوّنه يخلو من الإبتذال و الأصباغ المارقة ، كما في بعض الشعر . و من جهة أخرى فتح أمامي مجدداً خارطة النكبة :
ستّون عاماً ... قد مضين و أكثر ...
واللاجئون قلوبهم تتفطر ...
بهذه الكلمات الإخبارية المباشرة يستهل الشاعر قصيدته الأولى . و قد تكون اللغة المباشرة في الشعر السياسي أكثر إصغاءً .. لكن اللغة الأدبية أكثر تشويقاً و جذباً . وعلى العموم بداية موفقة تنبه القارئ الى خطب ما قد حصل ، فيطلب المزيد :
ستون عاماً ... و البيادر لم تذق
طعم السنابل ... و المزارع تُقفر
إخبارية أدبية ، ثم يبدأ الزئبق بالإرتفاع مع هذا الثنائي العصي على الإقتلاع ، الطبيعة والأمل :
سنعود يوما للسهول و للرّبى ...
لحقولنا ... فلينتظرنا الزعتر !
و إن كان الخيال هو من العناصر الضرورية في الشعر كونه في أحد ملامحه عامل مساعد في تحقيق الجمالية في الشعر ، فإن التعبير التالي فيه من الجمالية ما يعوّض عن أبيات قد لا تشدنا في هذه القصيدة الطويلة نوعاً ما :
وسنشرب الفجر المعطر بالندى
حتى ينادينا الرغيف الأسمر
ولا يفوت الشاعر أن يبيّن حقيقة ساطعة ولازمة لمثل هذا السياق :
وهنا جذوري ... مهد أجدادي هنا
أزلية لغتي ... و عمري أدهر
و نصل الى خاتمة القصيدة ، مصاغة بشكل محكم ، يؤكد الشاعر وبثقة مطلقة تحقيق حلم العودة ، وحتمية قدوم الغد المشرق :
سنعود يوما ... لا محالة أننا
سنعود حتما ... لا غد يتأخر ...
ونظرة الى القصيدة كوحدة مترابطة نستشعر الحس الوطني الصادق , ويتكشف لنا إلمام الشاعر بالعَروض , فلا نجد وزنا مكسورا , او عيبا من عيوب القافية , بيد أنه يرهق صفحاته بالشعارات !
إن هذه القصيدة " ستون عاما " تلتقي بالضرورة مع قصيدة أخرى يحتج فيها الشاعر على الصمت العربي ازاء القضية ؛ وليته قال العهر العربي ، او ... العربي , ولا تثريب عليه , لكنه اختار الإعتدال بالقول :
ماذا جرى لعروبة مشؤومة
تركتْ فلسطينا بغير دفاع ؟!
في كل يوم يهدمون بيوتنا
والعُربُ بين تداول وصراع
قد علمونا ان ماضي يَعرب
مجد وأبطال وحرب سباع
لكنني قد صرت أعلم أنهم
فتنوا العقول بكذبة وخداع
بهذه الأبيات يمكن القول أن الشاعر ينتمي الى المدرسة الواقعية , من صفاتها تصوير الحياة كما هي , أو هي : معاناة حرفية للواقع كما قال جورج مارلييه .
وينتقل إياس ناصر من الإحتجاج الصارخ المحمل بالمعاناة والألم الى التذكير بعدم جدوى التغني بأمجاد الماضي ؛ والأمّة تمر بأحلك ظروفها ! هذه المسألة طرحت مرارا في الخطاب الشعري العربي , ولا ضير من إعادة بثها لعل يستوعبها من بهم صمم :
والعالم العربي يسكر نفسه
بقصيدة عن سيفه القطّاع
ما زال يؤمن بالخيول و بالحمى
وبكل فحل مخضب دفّاع
في قصيدة " قولوا ليافا " من البحر الكامل يدخلنا الشاعر في عمق المكان :
قولوا ليافا ... إنّنا سنعود
مهما توالت أدهر و عقود
في هذه القصيدة المجدولة من عشرين بيتا يحضرني وليم هوغارث بفكرة التناسب في الفن ، بما معناه – بلغة الإختصار الشديد – أن تكون أجزاء الشيء ملائمة لحجمه . لذلك كنت أود لو أن اياس ناصر كرس المزيد من الأبيات لهذه المدينة التاريخية الساحرة ؛ على الأقل كي يتوازى العنوان مع الحدث أو الهدف ، لكنه ألمح ليافا تلميحا فقط في البيت الذي أوردناه ؛ ولا أعتبر ذلك قصورا .. لعله حرص الشاعر بأن تنداح كلماته لأكبر مساحة ممكنه في أفق فلسطين :
هذي فلسطين ... كئيبا وجهها
وجه تؤرقه الليالي السود
لماذا نصب " كئيبا " في صدر البيت ؟
من المعلوم ان نهاية القصيدة ، كل قصيدة ، هي آخر ما يبقى في الذهن ؛ فإما ان نمسحه سريعا .. او نرحب به ؛ ونهاية هذه القصيدة مهيأة تماما للقبول ؛ تجمع بين القوة و التراث :
قد جاد حاتم بالحصان وإننا
بالرّوح من أجل البلاد نجود
من الواضح ان الموقف الوطني هو محور هذا الديوان ، لكن بين جناحيه من الصوّر متباينة الألوان و المضامين ما يحفز على القراءة ؛ ومع ذلك لن يغريني هذا الشاب بالتوقيع على كل ما كتب ؛ لكنني أراهن غير هيّاب بأنه سيحظى بمستقبل شعري باهر .