قراءة في "لو وُلِدتَ"/محمود درويش : بقلم د.نبيل طنوس

موقع سبيل,
تاريخ النشر 10/06/2014 - 04:34:23 pm

قصيدة "لو وُلِدتَ" هي قصيدة مونولوغ مركب، ففي البداية يخاطب الشاعر نفسه بضمير الحاضر "انت" (لو وُلِدتَ)، وينتقل بعد ذلك بالمونولوغ ويخاطب نفسه بضمير المتكلم "أنا" (جنسيتي....وحقوقي...). وليس غريبا لان يفعل هذا، فهو الذي كتب قصيدتين تحت عنوان "لو كنت غيري"، قصيدة "فكر بغيرك"، "هو، لا غيره"، "وقوع الغريب على نفسه في الغريب"(واحد نحن في اثنين)، "لم اكن معي"، "انت، منذ الان، غيرك"، "أنت، منذ الان أنت" وغيرها من القصائد التي تحتوي على "موتيف" أنا- أنا وأنا - غيري.
للوهلة الاولى نأخذ انطباعا بأنها قصيدة واضحة المعالم تماما. فهو يقول اشياء واضحة كل الوضوح لدرجة نتساءَل عن ماهيتها كقصيدة ونقول لأنفسنا: ما هذا؟ ماذا جرى للعمق الادراكي والما وراء الادراكي (ميتاكوغنيتسيا) التي عودنا عليها شاعرنا، وكأن لسان حالنا يقول: نريد من شاعرنا ان يكتب قصائد صعبه مليئة بالمجاز والاستعارات والتناص وغير ذلك من الاساليب البلاغية. وعندما نقرأها ثانيا وثالثا ورابعا، نتساءل: ما هي مركبات الهوية؟ وهنا يجدر بنا قراءة كتاب امين معلوف "الهويات القاتلة"- (قراءات في الانتماء والعولمة).ترجمة د. نبيل محسن. يقول في المقدمة: "منذ ان غادرت لبنان في عام 1976 لأستقر في فرنسا، سُئلت مرات عديدة، بأفضل ما في العالم من نوايا، إن كنت اشعر أولا أنني فرنسي أو لبناني وكنت أجيب دائما: "هذا وذاك". ليس من قبيل الحرص على التوازن أو المساواة، وانما لأنني إن أجبت بشكل مختلف لكذبت...."
اما د. جورج حبش في كتاب "التجربة النضالية الفلسطينية- حوار شامل معه" أجراه محمود سويد من إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998. بيروت، يقول: "أنا ماركسي. يساري الثقافة. التراث الاسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية. معني بالإسلام بقدر اية حركة سياسية إسلامية. كما ان القومية العربية مكون أصيل من مكوناتي..."إنني في حالة انسجام مع قوميتي العربية، ومسيحيتي، وثقافتي الاسلامية، وماركسيتي التقدمية".
 هكذا شاعرنا ايضا يعرض حالات مشابهة لما جاء اعلاه:
الحالة الاولى: انسان له هوية مركبه من ثلاثة مركبات: استرالية وارمنية وفرنسية.
 الحالة الثانية: انسان له هوية مركبة من اربعة مركبات: مصرية وسورية وسعودية وفلسطينية. وينهي بقوله ان هويته الفلسطينية ما زالت تتخمر في المختبر أي ما زالت تتألف.
ويكتب جورج جحا في موقع "الجريدة"- بيروت والتي رئيس تحريرها د. قيس العزاوي ما يلي: "في قصيدة "لو ولدت" اختصار لوضع "الفلسطيني التائه" ينقله بمأساوية "عملية" هي بنت الواقع لا الخيال".
اعود واقول أن شاعرنا هو القائل: "الهوية هي ما نُوَرًّث لا ما نَرًث.لا أَخجل من هويتي ، فهي ما زالت قيد التأليف: ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون. الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة".اثر الفراشة،(2008).
جئت بهذه المقدمة نظرا للنقاش الذي يدور حول قصائد الديوان "لا اريد لهذي القصيدة ان تنتهي" فهو آخر ديوان للشاعر وقد ظهرت به أخطاء في علم العروض - التفعيلات - أيضا هناك أخطاء لغوية ومطبعية، وبالطبع درويش أحد أهم علامات الشعر في عالمنا العربي، ولا يمكن أن يخطئ أبدا في هذه البديهيات!!  ففي موقع مؤسسة محمود درويش يكتب شوقي بزيع تحت عنوان" عندما لا يضع محمود درويش لمساته الاخيرة":" وفي قصيدة "لو ولدت" التي يشير الكاتب الياس خوري في الكتيب التوضيحي الصغير المرفق بالديوان الى أنها من القصائد غير الناجزة والمملوءة بالتشطيبات، نقرأ: "وإن كانت الأم مصرية/ وجدّتك من حلب..." حيث يخرج السطر الثاني عبر لفظة "وجدّتك" تماماً من سياق بحر المتقارب ولا يدخل في أي اجتهاد عروضي مهما بلغت درجة تعسفه.
هنا اريد ان أسأل: لماذا التركيز على هذه النقطة بالذات وكأن الكاتب كان ينتظرها ؟
يكتب عادة الشاعر قصيدته بتلقائية وقد يخطئ في وزن وقافية وغيرها، وبعد ذلك تأتي النظرة الثانية المتفحصة. في اللحظة الاولى يعيش الشاعر لحظة الإيحاء وهو يريد أن يحافظ في هذه اللحظة على الحالة بما تحتويها من معان وتعابير واقعية ومجازية قبل أن تضيع منه، فهو يكتبها كتابة اولية ويبتعد عنها إلى أن يهدأ حسيا ويقوم بعد حين بعملية مراجعة فكرية(عملية تفكير رفلكتيفية) وعند ذلك يصحح ما يراه مناسبا.
وطالما نتحدث عن التحرر من بعض الاشكال الشعرية التي تقيد الشاعر وكأنها تريد ان يكتب كما يرغبون؟ لكن شاعرنا كان يعرف توجه النقاد هذا ، لقد سبق وكتب شاعرنا معاتبا النقاد في قصيدة "اغتيال" في مجموعة "اثر الفراشة" ويقول:
يغتالني النُقَّاد أَحياناً:
يريدون القصيدة ذاتَها
والاستعارة ذاتها…
فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً
قالوا: لقد خان الطريقَ
وإن عثرتُ على بلاغة عُشبَةٍ
قالوا: تخلَّى عن عناد السنديان
وإن رأيتُ الورد أصفرَ في الربيع
تساءلوا: أَين الدمُ الوطنيُّ في أوراقهِ؟
وإذا كتبتُ: هي الفراشةُ أُختيَ الصغرى
على باب الحديقةِ
حرَّكوا المعنى بملعقة الحساء
وإن هَمَستُ: الأمُّ أمٌّ، حين تثكل طفلها
تذوي وتيبس كالعصا
قالوا: تزغرد في جنازته وترقُصُ
فالجنازة عُرْسُهُ…
وإذا نظرتُ إلى السماء لكي أَرى
مالا يُرَى
قالوا: تَعَالى الشعرُ عن أَغراضه…
يغتالني النُقّادُ أَحياناً
وأَنجو من قراءتهم،
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أَبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!
نحن ننسى أو ربما نتناسى الحالة النفسية التي يعيشها الفلسطيني في المنفى/المهجر/الغربة، وسمها كما تشاء، فان الفلسطيني يعيش بعيدا عن حضن الوطن/الام الدافئ. وفي هذه القصيدة بالذات وكأن شاعرنا يقول: تعبت من كل شيء، ويتغنى بلغة مفهومة لنا جميعا وبشكل مباشر بالحالة ولسان حاله يقول في قصيدة "يأس الليلك"(كل العرب، 26.1.1989):
 تذكرت إحدى الأغاني،
فسافرت إليها....
وسافرت منها إلي....
تذكرت أني تذكرتها يوم مال الحديد علي...... ومال الزبد
.....................................................
لو وُلِدتَ/محمود درويش
لو وُلِدتَ من امرأة أسترالية
وأب أرمني ومسقط رأسك كان فرنسا
فماذا تكون هويتك اليوم ؟
طبعاً ثلاثيةً وجنسيتي فرنسية
و حقوقي فرنسيةً وإلى أخره
وإن كانت الأم مصريةً وجدتك من حلب
ومكان الولادة في يثرب
وأما أبوك من غزة فماذا تكون هويتك اليوم؟
طبعاً رباعيةً مثل ألوان رايتنا العربية
سوداء، خضراء، حمراء، بيضاء
ولكن جنسيتي تتخمر في المختبر
وأما جواز السفر
فما زال مثل فلسطين
مسألة كان فيها نظر
ومازال فيها نظر! وإلى آخره...”
قراءتي حول هذه القصيدة "لو ولدتَ" هي في إطار "علم النفس الاجتماعي في الادب"، تحدثت عن مضمون القصيدة بهذه الرؤية. موضوع "الهوية" هو داخل هذا الاطار. ويعرضه لنا الشاعر بدائرتين متوازيتين فالدائرة الاولى تحتوي على ثلاث دوائر انتماء غير عربيه: استراليا، ارمينيا وفرنسا ويقول انه في هذه الحالة يوجد وضوح فالهوية ثلاثية اما الجنسية فهي فرنسية. اما الدائرة الثانية فتحتوي على حالة مربكه :كيف ان الانتماءات الاربعة هي عربيه ولكن جنسيته ما زالت غير واضحة "ما زال فيها نظر" اي قيد التأليف وهنا يكمن الالم الذي الخصه بان الانسان غريب في بيته بين ابناء شعبه وقريب في الغرب-المجتمع الغربي. لم اتطرق في مقالتي الى الجوانب البنيوية في القصيدة وانا شخصيا لا ارى فيها ما ينتقده بعض الاخوان وارى ان بنيتها جيده وهي كالآتي:
1) شعر نثري.
 2) دائرتان متوازيتان بمعنى ان دائرة داخل دائرة وهذه البنية تكثف المضمون وتقويه
 ( Concentric Circles).
3) استعارة الالوان للتعبير عن الهوية .
 4) الاستعارة الرائعة "تتخمر في المختبر" التي تعبر بشكل كبير جدا عن حالة الهوية الفلسطينية. ولهذا وبما انها ما زالت تتخمر فهو لا يحمل جنسية انما يحمل "جواز سفر" وهذا لا يدل على الجنسية وانه فقط رخصة مرور ( laissez passer) و- 5) صيغة السؤال التي تثير انتباه القارئ. اما بالنسبة للوزن والايقاع فبالنسبة لي اعتبرها من قصائد النثر عند شاعرنا وانها تقرأ بسلاسة.
المعلمة رنين قاسم(
https://www.facebook.com/n.tannus

) من الطيره كتبت تعقيبا على المقال واورده هنا نظرا لأهميته:
 بالنسبة لقضية الاستعارة "تتخمّر في المختبر”.. سأتحدث عن الجانب الذي أخذتني إليه شخصيًّا للوهلة الأولى عندما قرأت القصيدة، بحيث أنني اعتبرت هذه الاستعارة جدًّا قوية وتلمّح للمعنى الكثير.. فبعيدًا عن الأدب، كنت قد تخصّصت بموضوع الكيمياء الحيوية (أو ما يسمّى في المجال الصناعي: التكنولوجيا الحيويّة biotechnology) وهناك في دراسة عملية التخمّر ينتج أن عملية التخمّر تنتج في ظروف لا هوائية التي تخلو من الأوكسجين.. وعندما قرأت أن الجنسية الفلسطينية لا تزال تتخمّر في المختبر.. اعتقدت أن محمود درويش قد أبدع في التشبيه مع الجانب العلمي لمصطلح التخمّر خاصّة بظروف لا هوائية (وكأنّ ثقافته قد طالت هذا العلم أيضًا). فإنه يقول وكأن الجنسيّة الفلسطينية لا زالت قيد التأليف والتطوير في "المختبر” أي الظروف المحيطة الصّعبة.. لكن نتيجة التخمّر ستكون أفضل.. حيث أن التخمّر ينتج منتوجًا فيه تحسين ويكون قد مرّ "بمرحلة” ويمكن أن يصل لل- ”تعتيق” (التحسينية).

ما أضافته المعلمة رنين قاسم يوضح الاستعارة المذكورة، ويعجبني التفسير العلمي لعملية التخمر وخاصة النتيجة المرجوة ألا وهي عملية التحسين Meliorizem ونحن نأمل ان تكون هذه نتيجة للهوية الفلسطينية التي يقول عنها محمود درويش إنها "قيد التأليف". أن تصبح جنسيه وليس فقط "جواز سفر".


04.05.2014


- جحا، جورج. (2006). محمود درويش لا يريد لقصيدته أن تنتهي. موقع الجريدة:رئيس التحرير د. قيس الغزاوي. بيروت:
https://www.aljaredah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=14693
- درويش، محمود.(1989). جريدة "كل العرب" العدد 56، 26.1.1989 . قصيدة "يأس الليلك" الصفحة السابعة: الناصرة.
- درويش، محمود.(2008). أثر الفراشة. "اغتيال" و"يوميات. انت، منذ الان، غيرك"(269-2275). رياض الريس للكتب والنشر: بيروت.
- درويش، محمود.(2009). لا أُريد لهذي القصيدة ان تنتهي .رياض الريس للكتب والنشر. بيروت.
- سويد، محسن.(1998).التجربة النضالية الفلسطينية. حوار مع جورج حبش، مرجعيات 3. مؤسسة الدراسات الفلسطينية: بيروت.
- معلوف، أمين.(1999).الهويات القاتلة. قراءات في الانتماء والعولمة. ترجمة د. نبيل محسن. دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2386
//echo 111; ?>