في بداية قراءتي للرواية وكعادتي أهتم جدا بقراءة الإهداء، وهو هنا لفت نظري برمزيته، فهو لم يحدد شخوصا وإنما أعطى وصفا لامرأة وعرف عليها برمزية (صاحبة الشامة السوداء) ووصف حالتها وثورتها الهادفة إلى إلغاء ظلم وقع عليها، وهذا الإهداء إضافة للعنوان يشد القارئ مبدئيا للرواية، فتوت الأرض لونه أحمر قاني، لكن إضافة كلمة مثلث أثارت في ذهني السؤال، فالمثلث من ثلاثة أضلاع، وهنا كان توت الأرض محصورا في الأضلاع الثلاثة، التي سأحاول أن أصلها من خلال قراءة الرواية.
في بداية الرواية وضعت أسماء بلغت ثمانية عشر اسما وهم شخوص الرواية، بدأت الأسماء برجاء بطلة الرواية، والباقي جرى التعريف على درجة قرابتهم للبطلة، فكان الوالدين وتسعة إخوة وأخوات، وجدين وجدتين وعم وعمة، مما سيجعلنا نحصر ومنذ البدايات الرواية في إطار عائلي، ولو ربطناه مع الإهداء لفهمنا أن المهدى إليها الرواية، تخوض معركتها ضد الظلم في إطار عائلي، علما أن الكاتبة وضعت ملاحظة في البداية تشير إلى أن الرواية من وحي الخيال ولا تمت للواقع بصلة، وأن أي تشابه يراه القارئ بين ما يقرأ وما يمكن أن يفكر، ليس أكثر من محض صدفة، وحقيقة أن وضع هذه الملاحظة في البداية وضعني أمام افتراضين: الأول أن القصة حقيقية والنفي هو دفع القارئ للتفكير حول من هي بطلة الرواية الحقيقية وأين وقعت أحداثها، والثاني أن الكاتبة أرادت أن تحتاط مسبقا من أية ردات فعل إن تبين أن القصة حقيقية وعرف شخوصها.
رجاء، بطلة الرواية، تدرس المحاماة، ولم تتخرج بعد رغم أنها في عقدها الخمسين. تذهب للمعيد في كليتها لتستشيره وتأخذ نصيحته بأنها تريد أن ترفع قضية ضد المجتمع، مما يثير استغراب المعيد الذي تقاعد بعد أن عمل محاميا وقاضيا وتفرغ لتدريس القانون في الكلية، والذي أجابها: سأقرأ ملفك من باب الفضول فقط.. مع أني متأكد من الآن بأن النصيحة ستكون بالتنازل عن القضية.
وهنا نجد الرواية تبدأ بقراءة الملف من قبل المعيد، وملخص البدايات أن رجاء تتحدث عن طفولتها وتميزها في وسط أسرتها، وعن إصابتها بمرض نفسي مدة سنتين وشفيت منه لكنه عاد إليها بعد أن رأت ابنة عمها وصديقتها مقتولة على يد زوجها، والذي خرج براءة بعد أن شهد أقاربه زورا أنه لم يكن في البيت وأنه كان معهم لحظة وقوع الجريمة، وهنا يكون السؤال: كان والد وأم رجاء وأخيها الصغير وهي معهم قد سمعوا جميعا صراخ امرأة تقول: يا ويلك من الله، ماذا فعلت بزوجتك؟ وتقول أيضا رجاء: كانت المقتولة (بعمر أخواتي الصغيرات)، أي أنها كانت واعية وكبيرة في العمر، فلماذا لم يشهدوا بما سمعوا ورأوا؟ وإن جلب الزوج القاتل شهود أنه لم يكن موجودا فلم لم يشهد أهل رجاء وهي بالعكس؟ وهل الشرطة وهي تجد امرأة خنقت بواسطة الأيادي في بيت تسكنه عائلة، تقفل الملف وتقيده ضد مجهول؟ فالخنق يدلل أن ما جرى جريمة وليس انتحار.
تقول رجاء بطلة الرواية وهي تروي سيرة طفولة جميلة: (عشقت في صغري الأرض والتوت والشجر)، فهل كان هذا هو من منح الرواية اسمها (مثلث توت الأرض)؟ بعد أن ذهبت الأرض التي كانت من عدة دونمات ولم يبقى منها إلا القليل، دون الإشارة لماذا لم يتبقى من الأرض إلا القليل، علما أن الأرض لدى الفلاح مقدسة، فكيف حين تكون مصدر دخل مادي كبير، وصل في إلى متوسط 15000$ في الشهر، من خلال زراعة التوت الأرضي الذي جلب دخلا كبيرا للأسرة ومزروعات أخرى صيفية.
يلاحظ أن الرواية قائمة على عدد كبير من الأوراق المكتوبة بلغت 51 ورقة والتي سلمتها للمعيد في الجامعة، كما يلاحظ أن الحديث عن الأسرة أخذ تفاصيل كثيرة ربما تسبب الملل في نفوس بعض القراء، رغم الأسلوب البسيط والجميل، مضافا لذلك تعليقات المعيد وهو يقرأ هذه الأوراق، فكانت هذه التعليقات تمنحه صفة الراوي للحكاية وإن كانت على لسان رجاء.
من المسائل المهمة في الحديث عن لطفولة أن رجاء أشارت إلى محاولات الاحتلال لمحو الهوية العربية لفلسطينيي الداخل، كما لم تفتها الإشارة لدور الحزب الشيوعي في مواجهة هذه المحاولات.
أشارت بطلة القصة أنها أحبت شابا مسيحيا أثناء دراستها، ولم تعرف أنه مسيحي الديانة إلا بعد فترة، لكنه تخلى عنها اثر وشاية كاذبة، لترتبط بالحب مع شاب يساري آخر، والغريب أنها تقول أنها من حرضته بقوة على ممارسة الجنس معها، وتم ذلك بعد مقاومة وتمنع منه وكان عمرها 22 سنة، علما أن البيئة التي عاشت بها رجاء بيئة قروية، ومفاهيم الشرف وخاصة الجسدي لدى المرأة كبيرة، فألا يثير إصرار رجاء على ممارسة الجنس مع مختار تساؤلات كبيرة؟ علما أن المعتاد في بيئة مثل التي تعيش بها رجاء، أن تسعى لترتيب زواجها منه، وليس أن تكون ممارسة الجنس هي أول أهدافها معه، بحيث أن هذا (اليساري) تخلى عنها وتزوج من ابنة خاله ولم يقاوم تقاليد الأسرة التي هو منها بالزواج الداخلي من الأقارب، فإن كان صاحب الفكر اليساري لم يستطع الخروج من دائرة التقاليد، فكيف استطاعت رجاء الخروج منها؟ علما أنها تكرر في نهاية كل ورقة أنها مرغوبة ومطلوبة والمحبون كثر، ومع هذا لم نشاهد خروج لها عن التقاليد حين سافرت برحلة سياحية لألمانيا، وكانت ترفض العلاقات سواء مع ابن بلدها أو الألماني أو الايطالي المعجب بالفلسطينيات!!! بينما عادت لممارسة الجنس مع ميخائيل بعد ستة سنوات من تخرجها وسكنها مع صديقة يهودية، وبعد علاقة صداقة استمرت عامين معه، واصلت معه بعدها عامين ونصف في علاقة جسدية، أنهتها حين علم والدها بهذه العلاقة ورفض الحديث معها، فهل في مجتمعاتنا القروية يتصرف الأب هكذا بأسلوب حضاري غريب؟ لتمر بعدها بحالة عزلة عن المجتمع لعامين ونصف في حالة من الاكتئاب النفسي، وحتى حين رتب لها أن تخرج من عزلتها بقيت تشعر بغربتها عن أسرتها وصديقاتها والمجتمع، لتنقل بعدها لمشفى الأمراض النفسية، حيث عانت في أول سنة من العلاج أن التشخيص كان خاطئا وبالتالي العلاج أعطى مفعولا عكسيا، وهنا سيبرز سؤال آخر: هل انتهاء العلاقة مع ميخائيل هو ما سبب لها هذه الأزمة النفسية؟ علما أنها لم تجبر على تركه، وكان يمكنها مواصلة علاقتها السرية معه بدون أن تكشفها لأختها التي نقلتها لوالدها، وهي تعرف مسبقا أن العلاقات مع اختلاف الأديان مرفوضة في بيئتها، وهي من أخذت قرارها بترك ميخائيل حرصا على مشاعر أبيها، وكان يمكنها إن أرادت الزواج منه أن تتحدى المجتمع، فهي بعلاقتها معه كانت متحدية المجتمع وعلاقته معها مكشوفة في إطار الدراسة والعمل.
ما يلفت النظر أن رجاء بطلة الرواية وهي في فترة المرض تقول أنه تقدم لخطبتها العديد من الشباب خلال فترة مرضها لكنها كانت ترفض فكرة الزواج بشكل قاطع، وهذا يثير التساؤل: فمن في مجتمعاتنا يمكن أن يتقدم لخطبة مريضة ونزيلة مشفى أمراض نفسية؟ بينما تشير أنها وفي فترة لاحقة ارتبطت جسديا مع عامر وأعتقد أن ذلك تم بعد شفاءها من المرض، فنجد أن علاقاتها الجسدية والجنسية تعددت رغما أنها تعيش في بيئة محافظة بشكل عام، وربما من التناقض أن نجد أن ابنة عمها حملت من شقيقها المتزوج، وهي ما زالت في بيت والدها، وتقول رجاء أن عمها لم يغضب من شقيقها لأنه ابن أخيه، وبسبب الحمل تزوجها.. وفي نهاية الرواية تتحدث عن جارتها في البلدة التي تعرضت لاعتداء جنسي من أحد افراد عائلتها، فتحولت إلى مومس تلبي رغبات رجال البلدة والبلدات المجاورة، فهل يمكن لهذا أيضا أن يكون في مجتمعاتنا وبشكل علني وأن تصبح شابة مومسا بدون أن يحاسبها أهلها؟ أو أن يسكتوا على الاعتداء عليها، علما أن وحسب الرواية فرجاء تسكن أحد قرى المثلث العربية، ولا تسكن في مستعمرة أو كيبوتس، أي أن أهل القرية على صلات مع بعضهم من نواحي القرابة أو النسب.
نجد أن رجاء تعزي ما حصل منها لأسباب وطنية، وهي ليست بالسياسية المتميزة ولا المناضلة المخضرمة، وإن شاركت كطالبة في بعض النشاطات وتعرضت لاعتقال عابر، فهي تقول: (وفي ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كعرب في هذه البلاد، فأن دولة اسرائيل مجرمة في حقنا وحق شبابنا.. فكيف لا أجن ولا أفقد عقلي وأهلوس مئة هلوسة وكل هذا يحدث أمام عيني)؟ بينما بداية تعرضها للمرض لا علاقة لها بأي نشاط وطني ولم تشر اطلاقا لأية مسألة وطنية، فهي حالة الانعزال التي قررتها حين انهت علاقتها مع ميخائيل، تلك العلاقة القائمة على المتعة الجسدية وعبر عدة سنوات لم يكن بها أي جانب وطني، وفي صفحة لاحقة تقرر الهجرة لأنها تقول أيضا: (هذه البلاد قاسية عليّ، وما نمر به نحن الفلسطينيون في إسرائيل، لهو أمر غير إنساني بل إجرامي من الدرجة الأولى، وكأننا في حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية)، لذا تقول: (قررت ترك البلاد والهجرة إلى فرنسا)، وحين استعراض حياة رجاء كما اوردتها منذ الطفولة، لم تشر ابدا لأية قضايا وطنية، فهي طفلة في كنف أسرة تدللها، ودرست بالجامعة وأكملت دراسة أعلى، واشترى لها والدها سيارة، وسافرت للسياحة لعدة بلدان، وباستثناء ما أشرت اليه سابقا من مشاركتها متأثرة بحبها لشخص يساري في بعض المسيرات، لم يكن لها أية اهتمامات وطنية، وكان لها علاقات جيدة مع اليهود، فأعز صديقة لها وعاشت معها كانت يهودية، ولم تشر أبدا لتعرضها لأية معاملة مذلة من قبل الاحتلال، ولم تشر بذلك أيضا لأحد يخصها أو تعرفه.
من الملاحظات التي سجلتها ذاكرتي على الرواية أن رجاء تقول أنها أثناء مرضها تكون عديمة التركيز وسريعة النسيان، وهي في ورقة كاملة رقم (26) تصف المرض علميا وهو (مانيا ديبرسيا/ الهوس والاكتئاب)، ومع هذا فهي تروي الحكاية بأدق التفاصيل لما عانته، وسجلت ذلك مكتوبا بهذه الأوراق، فهل يمكن أن تتمكن رجاء من تذكر أدق التفاصيل لفترة مرضها وما كانت تقوم به؟ علما انها كانت تمر بتخيلات وهلوسات لولا أنها قيلت لها لما تذكرتها أبدا، فمن هنا أجد أن رجاء حين تروي هي الحكاية فهذا يكون خاطئا، فالمفترض أن يكون الراوي الأساسي للفترة المرضية مراقب قريب منها، وأن يكون دورها فقط في الحديث عن الفترات الأخرى التي يمكن تذكرها.
هناك تناقضات غريبة في الرواية بخصوص والد رجاء، فهي تقول أنه لم يكمل تعليمه بسبب شظف العيش في البدايات، ثم تقول أنه كان يعمل في بيارة عند اليهود أثناء طفولتها، ويظهر أنه كان مشرفا على البيارة لأنه كان يجلس خلف منضدة في البيارة، بينما تقول في قسم آخر أنه تعب صحيا من العمل في البيارات عند اليهود فعينه صاحب البيارة مسئولا عن الشغيلة العرب في البيارة، وفي مجال آخر تقول أنهم مع والدها كانوا يعملون في الزراعة وخاصة التوت الأرضي وأن دخلهم كان عاليا من هذا العمل، ومرة تقول أن والدها كان حارسا لبيارات الأفوكادو، لنجدها تقول أن والدها كان يتقاضى راتبا يبلغ عشرون الف شاقلا لأنه كان بدرجة إدارية ممتازة، بحيث انه ترك خلفه غير الأراضي بيوتا على مساحات واسعة من الأرض، إضافة إلى ألاف الدولارات والشواقل، ومجمل هذه الحكايات تشير أن هناك خللا واضحا في الحديث عن الأب، وعن الأراضي التي قالت أنها تبخرت في جزء من الرواية بدون توضيح كما أسلفت أعلاه، بينما لا حقا تشكو الفقر حين تقول : (باعنا قصير ومالنا قليل) بينما سبقت هذا الكلام بالقول : (بقي وضعنا المالي جيد جدا)، وأشارت أن اخوتها وخاصة سالم على علاقة متميزة مع الجميع، وأنه كان يحل أكبر المشاكل على الهاتف، وصديق حميم لزعيم المافيا في البلدة، فكيف يكون باعهم قصير؟
تناقض آخر حين تتحدث رجاء عن أخيها عبود وتصديه لمن هاجموه برجولة، علما أنا كانت قد قالت أن من لحقه إلى البيت شاب واحد وسكير، فكيف أصبح الواحد مجموعة من المعتدين؟ وفي حديثها عن عائلة تصفها أنها مافيا تصف مكان العائلة بأنه مكان تلفه الحراس يحملون بنادقهم على الأسطح وحوالي المنزل، اضافة لوجود عدسات المراقبة، وكأنها تصف بيت من عائلات المافيا الواردة في رواية العراب لماريو بوزو، فهل يمكن أن تسمح الشرطة الاسرائيلية بهكذا مشهد علني؟ رغم تواطئها مع بعض المافيات اليهودية، وبعض المتعاونين معها من العرب.
رجاء في حديثها مع المعيد تكشف قصصا أخرى غير مسجلة بالأوراق تتعلق بأسرتها، وسوء سلوك بعض من أخواتها، فإحداهن هربت مع مريض جنسي ومتعاطي مخدرات لتتزوجه، وأخرى فكرت أن تذبح ابنتها ودخلت مشفى الأمراض النفسية، وأسرتها بشكل عام كانت تتعاطى المهدئات.
الرواية حفلت بالمتناقضات رغم أنها كفكرة جيدة، فقد ضاعت فكرة أنها تريد رفع دعوى على المجتمع العربي وعلى ما سمي بالدولة الاسرائيلية بالتفاصيل الصغيرة وفي الحديث عن الأسرة، فأصبحت فكرة الدعوى القانونية فكرة غريبة فكل الرواية لا تشير ابدا لاضطهاد من المجتمع أو الأسرة ضدها حتى ترفع الدعوى وإن كان هناك شيء يتعلق بالدولة، فهي أنها احتلت الأرض لا غير، فلم تشر كما أسلفت سابقا الروائية ابدا لأي اضطهاد ضد رجاء باستثناء توقيفها في مركز الشرطة لوقت قصير بسبب مشاركتها في مسيرة، بينما توفر لها التعليم والعناية من الأسرة، وهذا يؤكد أنها كانت تحت العناية.
نهاية الرواية يشير لوفاة امرأة في مشفى الأمراض النفسية وهي مقيدة القدمين وتصرخ من ألامها وبدون ذكر الاسم فالواضح أنها رجاء، ومن خلال آخر عبارة في الرواية يقول فيها الممرض لزميله: (لن تهرب المعتوهة ثانية!)، فهل كانت القصة كلها بعض من جنون امرأة لا غير؟!
(رام ألله)