وكان من الحكايا المعتقة المركونة في زاوية الأيام الخوالي ، أنني طلعت في مهمة صحفية الى قرية جليلية تجاهلتها ماكنة التطوير ! الوقت تموز و الشمس أيقونة في كبد السماء تشوي جنح العصفور ، وثمّة في طرف البلدة فلاح قوي العود ينتشل من بئر عذبة ، شربت وتابعت سيري مشيًا ، وكانت محطتي الأولى بيت قاسم عجينة المعروف بشجاعته و كرمه وحبه الشديد لكل قديم عتيق . وبدون سابق معرفة تلقاني هاشّا باشّا و قاسني بعينيه السوداوين الحادتين كعيني صقر ، و ما كدت اجلس على فرشة الصوف المريحة حتى انهال عليّ بجمل التجميل وقرأ سورة التأهيل ، ثم شرع بالإستفسار عن أصلي و فصلي و عملي و هدف زيارتي وعمري و هوايتي و طموحاتي و أحلامي و أمنياتي ووضعي الإجتماعي و فروع عائلتي و خصومي و أصدقائي ، حتى شبع واكتفى !
ثم جاء دوري " فَليفته " بنظرة فاحصة .. و قلت في نفسي : " العين بالعين و البادي أظلم " فنقبت عن جذوره المحلية " و فتافيته " القطرية " وتعربشت " فروعه المضارعة و المستقبلية ، و أبحرت في أوضاعه الاجتماعية و السياسية و حالته الصحية و النفسية ، و كدت أقحم قواه العقلية لولا اختراق طائرة مزعجة حرم السطح أعقبها نهيق الحمار في الحوش ، اما الحصان الأبلق في صحن الدار فحمحم ولم يصهل ..
قلت : ما أجملَ الخيل !
قال : " الخيل معقود الخير في نواصيها الى يوم القيامة "
واستطرد : إني أعزه كولد ليّ !
كانت الاسرة تتهيأ لغداء دسم مقلوبة بالسمن البلدي و الدجاج المحمر ، و كنت جائعا ، تحلقنا حول الطبق المجدول من عروق السنابل ، أكلت كفايتي و زيادة ، وأردت ترك المائدة فاعترضني اهل البيت عمومًا ، و أخذ كل منهم يقدم لي صنفا من الطعام او حبة فاكهة ويرجوني ان التهم إكراما له ، فالتزمت مسايرتهم حتى أصابني ضرر عظيم ! و يبدو ان قاسم عجينة رأى مني ما يناسب مزاجه في إطار الضيافة ، رضوخ الضيف لكرم المضيف ، فنادى بصوته الجهوري على ابنته العانس :
- يابا يا شروق هاتي بطيخة .
أحضرت العانس البطيخة ، و أقسم بالطلاق بأنها من نصيبي لا يشاركني بها أحد ! فأدركت أنني في مأزق؛ و رحت أتصور البطيخة تشق عباب أمعائي و تغلق فوهة روحي .. و خطر ببالي ان استخدم " الإيتكيت " ، فخلعت على مضيفي عباءة الطائي وشجاعة السليك بن السلكة ، وهيأت نفسي للإنصراف مدعيًا أنني في شغل شاغل ، لكنني ما كدت انهض حتى امتدت ساعده القوية كالمجداف فتناولني من كتفي و ضغطني ضغطة جبار عنيد ، و إذ انا ملتصق بالأرض لا أبدي مقاومة !
وانبعث صوته صارمًا آمرًا :
- ليس البطيخ فقط ، لن أسمح لك بالمغادرة قبل ان تأكل " العوامة " أيضا .
ثم مال برأسه الى زوجته التي استوردها من لبنان حديثا بعد المرحومة جواهر و هتف :
- يا تشايع بَلشي بقلي العوامة يا تشايع .
وردت بغنج و دلال :
- أمر عينك بو علي ، ابشر يا بعدي .
وتحركت بجسدها الضخم تدك البلاط و تتمايل يمينا و شمالا كباخرة مثقلة بالحمولة .
فلاحقها بنظراته وقد بدا عليه الرضى .. مسد بسبابته و الابهام شاربه المعقوف و تنحنح ..
ربما لإحساسه برجولته في حضرة امرأة مطيعة تتقن مخاطبة بعلها . قلت في نفسي : ترى لماذا اختار هذا النوع من النساء ذوات الوزن الثقيل ؛ لعله يحتذي بالرجال القدامى كانوا يحبذون السمينة الممتلئة كونها " تدفئ الضجيع وتروي الرضيع " .
وتحركت في رأسي فكرة ، لماذا لا أغافلهم وأنطلق الى الخارج ، وليحدث ما يحدث " للضرورة أحكام " ، أجل يجب أن أنفذ الفكرة الآن و بلا تردد ؛ تطلعت الى الباب فراعني الكلبان الكبيران " فستق و بندق " أقعيا عند الباب و قد صوبا عيونهما الحمر إلينا ، وإليّ بالذات . قلت لنفسي إن خرجت سينقضان عليّ بلا رحمة ، بل سأكون فريسة سهلة لبندق هذا الوحش الأغبر مرهوب الجانب !
سألت مضيفي باستياء : لماذا لا تربطهما يا عمي ؟ !
فرد : ألم تسمع قول الشاعر !
- ماذا قال ؟
- " تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الضاري " .
- بارك الله لك في كلابك !
نهض الى الغرفة المجاورة لأمر ما ، بينما ركعت العانس وبيدها نافرة العروق بدأت تشق البطيخة بتأن وهدوء محاولة الحفاظ على أجزاء متساوية .. قالت بصوت خفيض :
- البطيخ مفيد في الحر
- ستأكلون معي بالطبع !
- لا ، هذه لك وحدك ، صحتين و عافية !
كدت ارمي الكلمة من فمي : هذه ليست عافية بل طامة كبرى !
لكنني قلت : شكرًا شكرًا .
لاحت ابتسامة خفيفة فوق ذقنها المقسومة الى قسمين مثل كوريا الشمالية و كوريا الجنوبية .
ثوان قليلة وستنتهي من تقطيع البطيخ ؛ أحسست بالمصيبة تلتف حول معدتي ؛ ولحظتئذ لمعت في ذهني كلمات عن لسان خالتي زكية تقال همسًا في المواقف العصيبة فيحصل الفرج .. وبالرغم من عدم ايماني بهذه الخزعبلات وجدت نفسي أهمس :
- يا ملاكي يا ملاك السماء والشروق ، يا ألطف من الأثير والحرير ، انقذيني يا ملاكي من قهري و أسري ، بجاه عاد و ثمود وحابس الرياح و السدود .
فأصغت العانس بأذنيها الكبيرتين الرقيقتين كلحاء البطم ، و راحت ترفع نظرها الى وجهي ؛ ولا أعرف ما دار في رأسها ، لكنني أحسست بأنها مرتاحة ، ربما التقطت كلمة أو أكثر مما همستُ به ففسرت المسألة لصالحها ..
وانتظرتُ أن يأتيني الفرج لكن عاد مضيفي بلوح " قمر الدين " و أعلن بحماس ان هذا اللوح من نصيبي ، ثم " مزع " منه قطعة بحجم الكف طواها و فتلها بين راحتيه كالأسطوانة ومدها نحو فمي فافترستها على مضض .
و دون مقدمات قال : تزوج يا شوقي ، لماذا لا تتزوج ، الزواج نعمة أي والله .
و بعد تفكير قصير قلت : سأتزوج عندما أجد بنت الحلال الملائمة !
رمقتني العانس بنظرة ذات مغزى ، ثم أسبلت رموشها التي بالكاد تُرى و تصنعت الحياء .. لكن خدها لم يتورد شأن العذارى الناهدات ، لأن الحياة في وجهها قد جفت من زمان ، مذ نعق الغراب على أطلال الشباب .
وقبل ان يبدأ بالإلحاح عليّ بالإجهاز على البطيخ و قمر الدين راق لي ان آخذه بالحيلة لأشغله عني بعض الوقت .
فسألت : كيف قضت المرحومة ام علي ؟ !
لم يهتم كثيرًا لسؤالي ، لوى عنقه بأسى و غمغم : "إللي محيرني يا شوقي ان المرحومة ماتت قبل ان تأخذ الدواء ! "
إجابة لا تمت الى السؤال بصلة ، ماذا يقصد من إجابته المحيرة ..
وسادت فترة صمت شرد خلالها معلقا وجهه في خاصرة القنطرة الحجرية المواجهة لغرفة الديوان ، إحتل قاعدتها إبنه الأهبل " حمود " ما فتئ منذ قدومي يداعب بخشونة قطته السمراء يرفعها من ذيلها و يضغط عنقها ، فتموء و تشخر محتجة على معاملته الفظة تتعارض و مفهوم الرفق بالحيوان ! أمّا ولده الآخر " عيدو " في العاشرة فكان يمارس طقوس الشيطنة في الركن الشرقي من المنزل ، بيده قصبة بطول ذراعين يتصوّرها سيفا قاطعا ، يرشق و يطعن الجدران المتآكلة بفعل الرطوبة و القِدم ، يصرخ و يزمجر و يقفز : خذ يا سيكو ، مُت يا جلال ، تلقى يا زير ، إنزل يا عنتر ، و هلمّ جرا ، متحديا ما يخطر بباله من الأسماء و الأبطال !
فيصيح عليه والده ان يكف ، لكن دون جدوى ! يدنو فمه من أذني و يهمس : الله و أعلم أن الولد كان محاربا في جيله السابق ..
اتضح انني لم أغزل على الوتر المناسب ، و رأيت من الضرورة الملحة ان أختار وترًا آخر قبل ان ينهي شروده و يعود لمعاكسة معدتي المتخمة . و إذ تحوّل الي طلبتُ منه بلسان ماهر وأدب ظاهر ان يحدثني عن أيام زمان .. أصاب اللحن الهدف حين تكشف لي انه من عشاق التغريد على فنن تلك الأيام المنحوتة في وجدانه ؛ فسرعان ما استوى في جلسته و شرع بوصلاته الفنية ، فأخذ يسرد حكايات و يذكر خرافات لا أصل لها بل تسبب ضررًا فادحًا للأحداث .
وإذ قام ومشى الى إبريق الفخار و كرع ماءً كثيراً ، سألتُ العانس : هذه الحكايا التي يرويها والدك أظن انها صحيحة ؟
مطت شفتها السفلى بلون الكبد المشوي ، و رفعت حاجبها المنتهي بندبة بارزة ، علامة : لا أعرف !
و عاد مضيفي للجلوس ، فقالت العانس : إحكي له يابا كيف تغلبت على الضبع الكاسر في خلة عليق !
- اصبري يابا يا شروق ، الحديث يجر بعضه ..
نظر في عينيّ و أشار الى الفاكهة الطازجة و المجففة ولامني كوني قليل الشهية !
و جاءت تشايع تحمل صينية العوامة بالقطر و وضعتها أمامي :
- أهلا وسهلا بضيفنا
- شكرًا يا خالة !
حطت بجانب بعلها آخذة مساحة تتسع لبقرة ، و قالت : قومي يا خالتي يا شروق هاتي ماءً بارداً.
فنهضت العانس بجديلتها القصيرة السوداء في مؤخرة رأسها متقوسة للأعلى كذيل العنزة ، وبفستانها الأزرق الكاشف عن ساقين رفيعتين نبتت فيهما شعيرات متفرقة ضاربة الى البني الغامق .
و عادت بالماء ، جلست جاعلة وجهها مقابلا لوجهي تماما ترمقني تارة ، وتغض الطرف طورا .. فيصادف أن تلتقي عيوننا للحظة .. لعلها اعتقدت ان براعم الحب بدأت تتكوّن بيننا ، وإلا لماذا أستشعر أنها مغتبطة فرحة .. ربما تقول الآن لنفسها : لغة العيون أفصح من كل لغة ، أجل أجل هذا هو نصيبي جاءني في غفلة من الزمن .
يا لأعماق الانسان كم تتلقف من أوهام نعيش بها لحظات سعيدة ، وحين نكتشف خيبتنا نحزن أو نتألم ، لكننا لا نخاصم أوهامنا أبدا ، بل نخترعها بطيب خاطر !
ان هذه الشروق دميمة بدون شك ، وتكوينها البيولوجي غير مريح للنظر ؛ لكنها ليست منفرة ، و يراودني إحساس ان شيئا جميلا بها ، لا أعرف ما هو تحديدا ..
والآن دقت ساعة الخطر ، تبخر كل أمل ؛ عاد مضيفي يلح عليّ ان أشرع بالأكل ، فجزعت وايمّا جزع .. و أدركت انني سأحل ضيفا على الأموات ، أو على الأقل اقترب نقلي الى المشفى
؛ فأسفتُ على الدنيا ، وندمت لأنني لم أبعثر في متع الحياة النقود التي أدخرتها من العام الفائت!
وفي تلك اللحظات المصيرية المخيفة أتاني الفرج من حيث لا أحتسب ، أتاني كملاك الرحمة ، كطائر أخضر يصفق بجناحيه طربا و حبورا ، حيث ارتفع في الخارج الهرج و المرج والصياح و الصراخ ، و انفجر شجار صغير سرعان ما تطور الى شجار عنيف عمومي خاض لجته كل من قدر على حمل عدة القتال من عصي و حجارة ، و من لم يقدر استخدم سلاح الكلمة ..
فامتشق مضيفي جسده المارد طولا و عرضا ، و هرع للقتال ، وكر في اثره فستق وبندق و باقي أفراد الأسرة الميمونة . فتنفستُ بعد اختناق ، و شكرتُ الباري الذي لا يقهر في ظله مؤمن ، و خرجت وكأنني يونس خارج من بطن الحوت .
و علمتُ في اليوم التالي ان السبب الرئيس في حدوث ذاك الشجار الدامي كان إثر نقاش حاد بين امرأتين ، على من سيفوز بكرسي الخلافة في المجلس ، نعمان ام نبهان ؟؟ !!