تعيش البلاد موجة جديدة من العنف، وتحديدًا منذ أن تمّ خطف وقتل ثلاثة الشباب اليهود جلعاد، أيال ونفتالي، وتلاهم مقتل الصبي محمد حسين أبو خضرة على يد متطرفين يهود الأسبوع الماضي. موجة العنف الأخيرة التي تشهدها بلادنا كما هي حال الموجات السابقة، مليئة بسفك الدم والعنف ولا تختلف كثيرًا عمّا سبقها. وكما أحسن التعبير عن تردد هذه الموجات المتكررة الكاتب سلمان ناطور من خلال أحد لقاءاته، حين وصف محطات حياته المركزية من خلال حروب دامية، حيث ولد في حرب 1948، وتزوج في حرب الأيّام الستّة، وأنجب مولوده الأول في حرب أكتوبر، وزوّج نجله في حرب لبنان الثانية.
في ظل المواجهة الأخيرة، وكما هي الحال في المواجهات السابقة، تُطالَب القوى السياسية العاملة من قِبَل أبناء المجتمع العربي بتحديد موقفها تجاه ما يحدث بشكل صارم، واتّخاذ موقف داعم لأحد الأطراف بداية وقبل كلّ شيء من خلال عبارات واضحة مثل: عربي فلسطيني، يهودي إسرائيلي، مسيحي إسرائيلي أو درزي وبجانبها نقطة.
القيادات السياسية العربية واليهودية تولي أهمية كبيرة لمثل هذه التعاريف في ظل موجات عنيفة كالتي تشهدها بلادنا في الأيام الأخيرة. لأنها تحدد موقف الفرد وهويّته السياسية تجاه ما يحدث، أو أكثر صحة، تحدد فيما إذا كانت مواقفه مطابقة لبرامجهم السياسية، أم أنّه من داعمي معسكر العدو وأنّ ولاءه غير مفهوم ضمنًا.
والحقيقة بأنّ هويّتنا الشخصية معقّدة ومركّبة من عوامل ثقافية موروثة كانتمائنا الديني، ولغتنا الأم، ولون بشرتنا. ومن عوامل ثقافية مبتكرة نكتسبها من خلال تبادل علاقات مع ثقافات أخرى تعيش في محيطنا، وهو ما يجعل تكوين الهوية الشّخصيّة أمرًا معقدًا، وانعكاسها على هويتنا السياسية أكثر تعقيداً.
فنحن من جهة واحدة وبأغلبيتنا السّاحقة أبناء طوائف دينية مختلفة، ومن جهة أخرى نحن أبناء لمجتمع عربي واحد تتبادل أغلبيّته الساحقة حياة اجتماعية، اقتصادية وسياسية مع المجتمع الإسرائيلي بشكل يومي. هكذا أيضا نجد بأن تعريف شخص لهويتة بأنه مسلم ، عربي، فلسطيني وإسرائيلي ومع كل التناقضات ليس بالأمر الغريب.
وإذا كانت ريتا محبوبة محمود درويش بعد أقل من قرن على النكبة، ما الغريب أن يكون للكثيرين من بيننا ريتا في حياته، أو وزميل عمل إسرائيلي، أو حتى صديق يلتقي به خلال ممارسة هويّته في صيد الأسماك بعد مرور ما يقارب سبعة قرون من تأسيس الدولة. الأمر وبدون أي شك يوثر على مركبات هويّتنا وينعكس على موقفنا السياسي تجاه ما يدور حولنا من قضايا وعلى رأسها الصراع العربي -الإسرائيلي ومكانتنا كأقلية ثقافية ووطنية في البلاد.
هكذا أيضا ليس بغريب أن يشعر الفرد منا بالبلبلة جراء ما يحدث، وبمشاعر مشوشة تجاه موجة العنف الأخيرة التي تعمّ البلاد في الأيام الاخيرة، خاصة وأنها تضع مركبات هويّتنا الثقافية الموروثة ومركبات هويّتنا المبتكرة في حالة تصادم بين بعضها البعض في فترة حاسمة يتوقع منك الآخرون اتخاذ موقف واضح اتجاه المعسكرات المتنازعة .
ليس صدفة بأن الحديث مع أحد ʼالمبلبلينʽ سياسياً والنقاش معهم حول التطورات الأخيرة مليء بعبارات ضبابية مثل: ولكن وربما...، وبتساؤلات غير واضحة مثل: هل وكيف..... وما أن يقوم أحد بمشاركتك مشاعره بقتل الشباب اليهود حتى يكون الرد بتساؤلات حول تصرفات المستوطنين تجاه الفلسطينين في الأراضي المحتلة، وما أن يدافع أحد عن قتلهم لتسأله عن مكانة مبادئ حق الحياة والإنسانية.
والحقيقة بأنّ مثل هذه البلبلة قد تبدو ضعفًا من أصحابها للوهلة الأولى، أو خللًا مبنيًّا يعود إلى جذورنا العربية التي ولطالما تتغاضى عن اتخاذ قرارات واضحة اتجاه مواضيع حاسمة، وإن فعلت، فغالبا ما تكون مبنية على مشاعر عاطفية. ولكن الحقيقة أنها لسيت أكثر من صراحة مع الذات، وعدم تنازل أي من مركبات شخصيتنا الثقافية الموروثة لمركبات ثقافاتنا المكتسبة أو العكس.
البلبلة السياسية تجاه ما يحدث هي الأمر الطبيعي في الواقع الذي نعيشه وهو موقف طبيعي تجاه التطورات الأخيرة. أما ما هو غير طبيعي فهي هيمنة حكومة اليمين العنصرية بقيادة الثلاثي: نتنياهو، ليبرمان وبنيت، على الدولة والفكر السياسي لأغلبيتها اليهودية والداعية الى القضاء على أي محاولة للعيش بهدوء بين الشعبين، والعمل السياسي لقيادة الأقلية العربية داخل البلاد، التي حوّلت صراع هذه الأقلية الشرعي على حقوق ثقافية واقتصادية وسياسية مع الدولة إلى صراع عربي- عربي مبني على المزاوادات.