عملية ذبح الصحفي الأمريكي "جيمس فولي" هي محض بربرية ووحشية لا يمكن تفسيرها بأي منطق ديني ولا إنساني ولا حتى بهيمي ، والذين استعرضوا وحشيتهم أمام الكاميرات بتلك الواقعة لا يمكن نسبتهم إلى الإسلام بأي معيار ، وأنا أدرك أن المراجع العلمية في العالم الإسلامي من أوله لآخره من علماء ودعاة ورموز دعوية كبيرة كلها مجمعة على أن "داعش" لا تمثل أي فكر إسلامي صحيح ، وإنما هي أقرب لفكر الخوارج القدامى ، وأنا أتصور أننا بذلك نسيء للخوارج أيضا ، فلم يؤثر عنهم كل تلك الوحشية ، ثم إن هذا المواطن الأمريكي هو صحافي لا صلة له بالمعارك ولا بالجبهات ، هو يمارس عمله الإنساني والمهني ، وفق أعراف مستقرة ، في نقل صورة ما يحدث للعالم ، فلماذا يذبحه هؤلاء القتلة ، بأي شرع أو بأي دين أو بأي ذنب ، ولقد كان من هدي النبي الكريم في الحروب أن لا يتعرضوا للرهبان في صوامعهم ، لأنهم ليسوا جزءا من الحرب ولا حملة سلاح ، فلا يجوز شرعا استهدافهم لمجرد النكاية في طوائفهم أو من ينتمون إليهم أو لمجرد أنهم يختلفون دينيا ، وكذلك الصحفيون ، لا يقوم باستهدافهم إلا القتلة والفاسدون الذين لا يريدون للعالم أن يعرف الحقيقة ، وهؤلاء سواء كانوا نظم الاستبداد والقمع والدموية أو تنظيمات العبث والجنون وموت الإنسانية ، كلهم سواء في الإدانة والتبرؤ مما يفعلون .
الذين حاولوا التشكيك في مشهد الذبح وأنه مصطنع يبالغون في تبرئة التنظيم الدموي من جرائم متكررة وثابتة ، فلم تكن هذه أول واقعة ذبح يرتكبونها ، فقد تفاخروا كثيرا بذبحهم علماء وقضاة ودعاة وقيادات جهادية في سورية والعراق ، فلم يسلم من جنون هؤلاء مسلم ولا مسيحي ولا درزي ولا علوي ولا عراقي ولا مصري ولا سوري ولا لبناني ولا أمريكي ، هؤلاء قرار قتل إنسان عندهم أسهل من قرار قتل فأر أو قطة ، وذبح إنسان أسرع من ذبح دجاجة ، ومن العبث أن تجادلهم في شيء أو تناقشهم ، لأن مثل هذه السلوكيات البشعة لا تنتمي إلى عالم الفكر أو العقل أو العلم أو الدين ، صحيح هم يحاولون نسبة سلوكياتهم إلى فهمهم لأحكام أو وقائع قديمة ينسبونها إلى الإسلام ، ولن يعدم أي محدود العلم والعقل والآدمية أن يؤول أي نص أو واقعة لكي يبرر بها سلوكه المنحرف ، ولكن يكفي أن علماء الأمة كافة مجمعون على انحرافهم ، ومجمعون على أنهم لا يمثلون الإسلام من قريب أو بعيد ، ومجمعون على أنهم يشوهون صورة الإسلام ويصدون عن سبيل الله ، فضلا عن الإضرار الكبير الذي يسببونه لثورات الربيع العربي وبحث الشعوب عن العدالة والكرامة والحرية والحياة الكريمة ، ويكفي أن تلقي نظرة على نظم الديكتاتوريات في المنطقة لتجد كلا منهم يتاجر بتخويف الغرب من داعش وأنه يقوم بمهمة مقدسة في التصدي لخطرهم نيابة عن الغرب ! .
في تصوري أن "ظاهرة" داعش غير المسبوقة في المنطقة وربما في العالم ، هي إحدى نتائج انتهازية الولايات المتحدة وسياستها في المشرق ، وسواء كانت داعش صناعة استخباراتية في الأساس أو مخترقة مخابراتيا من بعض أجهزة المنطقة ، أو أنها نبت عشوائي عنيف ودموي لأجواء من العنف والدم والإحباط الشديد في المنطقة ، فإن الولايات المتحدة مسؤولة بشكل ضمني عن ظهورها عندما خذلت الشعب السوري وثورته السلمية النبيلة في البداية ، ومنحته الأماني في مساندة المجتمع الدولي له في نيل حريته وبناء دولة ديمقراطية تعددية حديثة ، ثم تركته نهبا لدبابات وصواريخ وطائرات بشار ، ثم لتحالف إجرامي إيراني سوري عراقي لبناني عماده الولاء الطائفي ، مع جسر جوي للسلاح الروسي الحديث ، في حين رفضت واشنطن حتى أن تعطي الشعب السوري وجيشه الحر مضادات الطيران لوقف المذابح اليومية للمدنيين في المدن السورية المختلفة ، خذلت واشنطن الثورة وتعمدت إطالة نزيف الدم في سوريا ، فساهمت في صناعة فراغات عشوائية تمددت فيها حركات متطرفة مثل داعش ، وتوحشت حتى أصبحت عصية على الحصار والتصفية .
خذلت واشنطن والعالم الغربي الربيع العربي ، وباعوا شعوبه للطغاة والثورات المضادة ، بحثا عن مصالحهم الضيقة والمقدسة في حماية إسرائيل وأنبوب النفط ، وساهموا في قمع وتهميش واستباحة أحزاب وقوى التيار الإسلامي السياسي المدني والديمقراطي ، فكان من الطبيعي أن يملأ أمثال داعش ذلك الفراغ السياسي والديني الخطير ، وفي يقيني أن ظاهرة داعش ودمويتها ووحشيتها لا يمكن حصارها وتجفيف مددها إلا بتأسيس بيئة سياسية إنسانية عادلة وتصالحية ، وميلاد شراكة سياسية حقيقية بين كل قوى المجتمع وتياراته بدون إقصاء أو تهميش ، تحترم أشواق الشعوب للحرية والديمقراطية ، وصناعة مستقبلها ، وتعزيز منظومة قانونية وأخلاقية تحمي الحريات العامة وتوقف استباحة نظم القمع لأنصار الحرية ودعاة الإصلاح ، لأن مناخ القمع والاستباحة والإقصاء والتهميش هو أفضل بيئة تولد فيها داعش وأخواتها .