شوقٌ مؤجّل : قصة بقلم: حوا بطواش

موقع سبيل,
تاريخ النشر 24/08/2014 - 04:22:32 am


فتحتُ عينيّ ونظرتُ الى الساعة التي أمامي على الحائط. السادسة وأربعون دقيقة! لم يبقَ على وصول الباص أكثر من عشر دقائق! ياه... تأخّرتُ كثيرا!
هببتُ من فراشي وركضتُ الى الحمام. ثم عدتُ الى الغرفة واندفعتُ للبس ثيابي. نظرتُ الى يميني فرأيتُ أنها ما زالت نائمة، مستريحة. المسكينة. منذ البارحة وهي تتململُ في سريرها. وأخيرا نامت. جهّزتُ نفسي بسرعة ولم أجهّز شيئا للأكل. خطفتُ حقيبتي وانطلقتُ كالريح العاصفة الى الخارج، الى محطة الباص.
ريحٌ باردة ضربتْ وجهي وعصفتْ بروحي. الشمس شقّت طريقها لاعتلاء عرش السماء، والحياة بدأت تدبّ في هذه القرية الصغيرة، الناعسة. المحطة ليست بعيدة. سرتُ وأنا أستحثّ الخطى على الرصيف المحاذي للشارع الداخل الى القرية. قطعتُ الشارع الى الرصيف الذي في حافة الشارع الرئيسي الذي يعبر القرية، فرأيتُ الباص مقتربا من الجانب الآخر. ركضتُ إليه. وصل الى المحطة وتوقّف، فارتميتُ بداخله في آخر جزء من الثانية. قدمتُ التذكرة للسائق ثم دلفتُ الى الداخل وجلستُ في أحد المقاعد... متهالكة. حاولتُ التقاط أنفاسي.
انطلق بنا الباص.
أغمضتُ عينيّ. أصوات الليل كانت ما تزال تقرع أذني: موسيقى، تصفيق، ضحكات، رقصات، صبايا، شباب. فتحتُ عينيّ بجهد وتأملتُ حولي قليلا، كأني للتو صحوتُ من سباتٍ عميق... أم أنني لم أصحُ بعد؟؟
سمعتُ صوتا خشنا من جانبي. "ما أخبارك؟"
ارتجّ قلبي، كأنّ قذيفة مباغتة سقطت من السماء. التفتُّ الى جانبي فرأيتُ رجلا بدينا، ضخما، يبدو في الأربعينيات من العمر يجلس هناك بجانبي... أم أنا التي أجلس بجانبه؟! عيناه زرقاوان، كبيرتان، مرعبتان. شعره أشقر، مجعّد وشفتاه غليظتان، ابتسمتا لي، وكشفتا عن أسنان صفراء، مقيتة. انكمشتْ ابتسامته، فجأة، أمام نظرتي.
هببتُ من مكاني، كالملسوعة، وخطوتُ نحو مقدمة الباص. جلستُ في المقعد الثالث وراء السائق، الى جانب امرأة صغيرة التكوين، كبيرة السن، مغمضة العينين، أكملت نومها الليلي في الباص.
صوت الأكورديون كان ما يزال يرنّ في أذني منذ ليلة أمس. عرس ابن خالتي كان صاخبا، ممتعا ومرهقا. أحسستُ بتعب في رجليّ وكل أنحاء جسدي.  لم أشبع من النوم.
ياااااااه... كم أنا مرهقة.
سعاد لم تتّصلْ بي ليلة أمس. وعدتني بأن تخبرني كل شيء قبل أن أنام. ترى، أيّ سرٍ تخفيه عني؟ ولماذا لم تتصل بي كما وعدتْ؟ ظلّت غامضةً طوال الوقت، تخفي سرا ما، تأبى الكشف عنه أو الحديث عن أي شيء، تتلاعب بأعصابي. تلك اللئيمة. لن أسامحها.
توقف الباص على المحطة التي في القرية المجاورة، فصعد شابٌ الى داخل الباص، شعره بنيّ فاتح، بشرته ناصعة البياض، شفتاه دقيقتان، منفرجتان. ملامحه لم تكن غريبة عني. ولكنني لم أكن مركّزة.  وقف على الدرجة الأخيرة من الدرجات الثلاث الصاعدات الى الباص، مدّ رجله اليمنى الى الأمام، متأهّبا للدخول، وقدّم تذكرة الى السائق.
أصدرت المرأة التي بجانبي شخيرًا مفاجئا، أرعبني. التفتُّ إليها. فتحتْ عينيها قليلا، زفرتْ، ولا أدري إن كانت قد رأتني أو أبصرتني حقا، ولكنها سرعان ما عادت لتطبق جفنيها، أدارت وجهها الى الجهة الأخرى، وأكملت نومها مستلذّة، هانئة.
نظرتُ الى الشارع خلال النافذة. هل نسيتُ حل وظيفة الرياضيات؟ هل كانت هناك وظيفة أصلا؟ نعم، نعم. كتبتُ وظيفتي، ولكن ربما تكون إجابتي خاطئة. لست متأكدة تماما. فلتكن. عليّ أن أفحص إجابة سعاد، فهي أشطر مني في الرياضيات. لا، لن أفحص شيئا معها تلك اللئيمة. لن أكلّمها اليوم على الإطلاق.
تنهّدتُ.
هذا الشاب جميل جدا. هل أعرفه؟ كأني أعرفه. ومن أين لي أن أعرفه؟ ما زال عقلي مشوّشا. ربما يكون من قريتنا. ولكن، لو كان كذلك، فلماذا يصعد من هذه المحطة؟ شفتاه تبتسمان، رغم أنه لا يبدو أنه يقصد الابتسام، فلا شيء في الباص يدعو الى الابتسام. كأنها ابتسامة منقوشة على شفتيه منذ ولادته.
انطلق بنا الباصُ من جديد. هبّت نسمةٌ باردة من النافذة المفتوحة، مسّتني، فارتجف لها بدني. خصلات شعري رفرفت على وجهي. أين ربطتي؟ يا الله! نسيتها في البيت.
اووووووف! أي صباح منحوس هذا!
أعاد الشاب تذكرته الى محفظته. كم هو طويل. أعاد محفظته الى حقيبته. إن وجهه يبدو مألوفا. ألحق رجله اليسرى برجله اليمنى. لا بد أنني أعرفه. خطا الى داخل الباص خطوة واحدة، متأنّية. أين رأيتُه؟ تقدّم خطوةً أخرى، متباهية. هل هو من قريتنا؟ ألحقها بأخرى. إنه يشبه شباب قريتنا. سار ببطءٍ. أظنّ أن فكري مشوّش. ثقة. ورأسي ثقيل. آخر رواق.
ما أجمل هذا الوجه الذي تنسابُ منه رقةٌ حانية. ما أروع تلك العينين الرماديتين، والشفتين الدقيقتين، والنظرة الطفليّة، المستغربة. كل شيء فيه يبتسمُ بفرحة وجمال.
أسلمتُ نفسي الى خدرٍ لذيذ. هل يبتسم لي؟؟
وفجأة...
اصطدمتْ عيناه بعينيّ... فتخبّطت عيناي، ترنّحتا... وسقطتا أرضا.
مرّ من جانبي. رائحة عطره اخترقت أنفي وكل حواسّي... وابتلعه الباص من خلفي.
وعيي مشتّت. حاولتُ أن ألملم نفسي قليلا.
لماذا كنت أحدّق فيه؟؟ عمّ كنت أبحث في عينيه؟؟
تأمّلت نحو النافذة من جديد. ما هذه الأفكار التي تحتشد بذهني وتثقل رأسي منذ الصباح؟ هل كل ذلك بسبب سعاد؟ أم تُرى... بسبب نادية؟
لقد تغيّرت كثيرا في الآونة الأخيرة. منذ مدة وأنا ألاحظ ابتساماتها المتورّدة، وأسمع همساتها المتسترة. أعرف أنها تخفي عني شيئا ما. أحسّ بذلك منذ مدة. إنها لم تفعل ذلك من قبل. كأنها ليست الإنسانة التي عرفتُها طوال حياتها، وما قبل حياتها، حتى أنها تبدو مختلفة؛ أكثر جمالا، غبطةً ولهفةً غير مبرّرة، وأكثر هدوءًا وغموضا. في صدرها سرٌ لا تكشف عنه. حدسي لا يخطئ.
ما بال الكل يخفي عني الأسرار؟؟
تنهّدتُ.
ماذا أراد مني ذلك الرجل البدين؟ لماذا يسألني عن أخباري وهو أصلا لا يعرفني؟ ربما لم يكن يقصد أي سوء، فقد بدا متعجّبا من نظرتي. هل كان متأسّفا؟ ما أوقح هؤلاء الناس! لستُ بمزاج يسمح لي أن أخبر أحدا بحالي وأخباري.
توقف الباص في المحطة المركزية للباصات. قمتُ من مكاني وهبطتُ منه عبر بابه الأمامي. انجذبتْ عيناي الى جهة اليمين، فرأيت ذلك الشاب وهو يهبط من الباص عبر بابه الخلفي، ويخطو نحوي، حاملا حقيبته بيده اليمنى.
آه... الآن عرفت من هو.
ما اسمه؟
منذ سنة عادوا من أميركا وسكنوا في القرية. بيتهم كبيرٌ، جميلٌ، ليس بعيدا عن بيت سعاد. سمعتها مرةً تذكره أمامي واصفة جماله ووسامته. كم عمره؟ ومن هي تلك البنت التي قالت سعاد إنها تتصل به؟ ربما لم تقل اسما. لا أذكر. ما أوقح هؤلاء البنات. لم يعُد هناك حياء.
الآن كان قريبا مني بخطوتين. انتصب أمامي بكامل جماله، جمال مقرون بالجلال، نظرته تفيض بالحرارة وتزخر بالحيوية، ابتسامته العذبة تغطي شفتيه، وخيالي توّاقٌ لمعرفة السّر الكامن وراء هذه الابتسامة. هل حقا يبتسم لي؟
لا، لا. إنها منقوشة هناك بلا وعي... بلا معنى... بلا هدف.
أشرف.
اسمه أشرف. نعم، الآن تذكرت.
وقف يتأملني بعينيه الرماديتين، البراقتين، الساحرتين. يذهلني. كأنه يعرفني. هل يعرف أنني من القرية؟ هل رآني من قبل؟ ربما رآني أتردد الى بيت سعاد. كيف لم أنتبِه إليه في القرية من قبل؟ حتى عندما تحدثتْ عنه سعاد لم يثِر فيّ ذكرُه أي فضول أو اهتمام.
حدّقتُ فيه... كأني أبحث في عينيه عن شيء ما أجّلته طويلا. ملامحه الرقيقة، ابتسامته العجيبة، نظرته البهيجة... كل شيء فيه جذّابٌ، أخّاذٌ، خلّابٌ، يشبه الرجل الذي طالما ظننتُ أنني سأحب يوما ما. 
ما أوقحني! ماذا أفعل؟ استدرتُ للذهاب، يبلّلني الخجل.
وفجأة...
سمعتُ صوته: "نادية!"
استدرتُ الى الوراء، مبهوتة. رمقتُه طويلا... رشقتُه كثيرا.
تقدّم نحوي خطوةً واثقة. عيناه تحدقان في وجهي. "أنا سعيدٌ برؤيتك." قال.
تسمّرتُ في مكاني وقد شلّتني الصدمة وانقطعتْ عني أنفاسي تماما. لم أقل شيئا.
لحظات طويلة وقفتُ هناك عاجزةً عن النطق، مشدوهةً، مأخوذةً بالذهول.
"ما بك؟" اندهش.
تهدّلتْ شفتاه، فجأة، واضطربتْ عيناه بقلق بالغ.
وأخيرا، استجمعتُ كل قوتي أمامه. "معذرة." تمتمتُ. "نادية... مريضة اليوم... أنا شادية... أختُها... سأرسل لها سلامك."
وانقلعتُ بسرعة من أمام عينيه.

كفر كما
[email protected]

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2439
//echo 111; ?>