هذا هو دأب صندوق البريد ، تارة يزعجني بأوراق الدفع المختلفة ، وطورا يفرحني بما يحمل إليّ من إصدارات محلية في الشعر و النثر .
بين يديّ من إنتاج الشاعر نقولا أديب مسعد ، ديوان " ترانيم العشّاق " ، وآخر " وهج الحنين " .
ولكون الشعر في الأساس هو شعر العاطفة راقني أولا الوقوف عند صورة شعرية " ولادة العشق " من ديوانه وهج الحنين :
غاليتي / عندما تنظرين اليَ / تأخذني مسافات عينيك / الى شواطئ العشق / يتوقف قلبي هنيهة / و يعقل لساني / فأرتاح في جنائن نهديك / واولد من جديد .
ثمّة وجهتا نظر في موضوع الغزل ، شعر العاطفة ، فإما أن ينبعث الشعر عن تجربة حقيقية ، أو عن تخيّل التجربة ، تصوّرها . وغالبا فإن المتلقي بفضوله يحاول أن يعرف إن كان ما يقرأ حقيقة أو توهما .. و هذه طبيعة الإنسان حب الإكتشاف .. لكن كيف لنا أن نعرف ؛ في هذه الحالة " يلزمنا " الواجب الأخلاقي أن نتعامل مع النَص على انه حقيقة مر بها الشاعر ، وعندئذ سنتفاعل مع الكلمات بشكل أكثر حميمية . أمّا المقياس الذي آخذُ به : إن كانت الصورة الشعرية جميلة معبرة خالية من الثرثرة – كالصورة التي أوردناها – فهي على الأرجح لا يمكن للتصوّر وحده أن يخترعها .
والى صورة أخرى من نفس الديوان ، نثبتها ثم نغطيها بما يقتضيه الحال :
تجتاحني موجات حبكِ / التي لا تقاوم / فهي أقوى من أمواج البحر / التي تلاطم الصخور / فيضعف جسمي / وتتفتت أحشائي / كما تتفتت الصخور / أمام أمواج البحر .
الوصف غير موفق ، الصورة باهتة وضعيفة ! كنتُ على استعداد لإيجاد ثغرة في النقد تجيز لي تجميل هذه الصورة ؛ لكن القارئ ذكي ولن يسلّم بسهولة !
قصيدة " إغفاءة عاشق " من ديوانه ترنيم العشّاق ، مسبوكة جيدا ، توحي بأنها صادرة من أعماق الشاعر ، وهي تبعث على الشعور بالمتعة ، وقد مُزجت بألوان عدة : الإحساس المرهف ، الفرح ، الغبطة ، الطمأنينة ، الطير و الطبيعة :
وأرتوي من شهد شفتيك / ساعات طوال / وأتحسس جسمكِ الغض / حريرا ناعما يبعث فيّ الهناء / وأرفل شعركِ المنساب خصلا تلامس جسمي باشتهاء / تتطاير كأسراب حمام / فوق قرميد بيتي / فأقبّلك وأهمس في أذنيك / لحنا عجيبا / تهتز له الأشجار / في الغابات / وتتراقص الأغصان / فتطرب البلابل نشوى / تتمازج بشدوها تأوّهاتنا / وأتنشق فوح عطركِ الياسميني / عُصارة كل ورود الروض / وأغفو على كتفيكِ / مستسلما بين يديك / حتى الصباح ...
يتضح من قصائده الغزلية أن الشاعر نقولا يهتم بالمرأة اهتماما بالغا ، ينشد اليها جسدا واشتهاء ، ولعل هذا الإندفاع الشديد الى المرأة هو ما حدا بصاحبنا الى سلوك قد يعتبره البعض سلوكا غير لائق ! كقوله في قصيدة " ثورة نهد " من ديوانه وهج الحنين :
نهداك سر غامض ما كنت أفهمه أنا
نهداك كنز عامر فيه ملذات الدنيا .
الى أن يقول في موضع آخر من القصيدة :
الثوب شفاف و زهر ناعم قد برعما
فترفقي في ثورتي لما أذوب عليهما
كأني به وَدَّ لو يجردها من ملابسها ! في هذا الصدد قال المازني ما معناه : لا فرق أن نصف امرأة وصفا جنسيا ، أو نعريها في الشارع !
وفي خضم ولع الشاعر بالمرأة وصفا وحماسا ، يكتشف فيها صفة أو صفات سلبية :
ويقودنا الألم الى / هلاك الجسد / فيفتك بنا / كما تفتك النساء / في عقولنا كل يوم / أيتها المرأة جميلة أنت / لذيذة أنت بهية / شهية كطعم الشهد والترياق / لكن طباعك صعبة / كألم الجسد / لا تطاق .
لا نعرف كيف توصل الى هذه النتيجة ولماذا ؟ !
الانسان لغز محيّر !!
والشاعر نقولا لا يقف في مسار شعره عند أبواب الحب و الغزل فحسب ، فهو يرتاد موضوعات أخرى سياسية و اجتماعية يتوافر فيها الإتجاه الانساني و الفكر الحر :
كلما قُرعت أجراس الكنائس / و سُمعت أصوات الآذان / في الجوامع / أتذكر أننا شعب واحد / لرب واحد ...
قصيدة " يا فرحنا كل العصور " من ديوانه ترنيم العشّاق ، هي بمثابة نداء أو دعاء يحمل الكثير من التفاؤل و الأمل :
يا بسمة الأيام عودي / واملأي الدنيا سرور / يا نسمة الأرياح موجي / وابعثي فينا الحبور / قد ضاقت الدنيا بنا / وسئمتُ من زمن مرير / فيه الهموم تكاثرت / وتشتت العيش القرير / يا محنة الأحزان زولي / وابعدي عنا الشرور / أفراحنا في الجو طيري / مثل أنسام الزهور / يا فسحة الآمال هلّي / مثل هبات العطور .
بالرغم من أن بعض قصائد نقولا مسعد ينقصها عنصر التشويق الذي هو من المقومات اللازمة للأدب عامة ؛ فقد أضاء بالكثير من أوراقه الشعرية مساحة طيبة من وقتي واهتمامي .