قبل سنوات عديدة، لا أذكر متى بالضبط، صدرت تعليمات وزارة التربية، وزارة المعارف يعني، بإلغاء ما كنّا نسمّيه يومها "المحفوظات". كانت المحفوظات، وأحيانا تسمّى "الاستظهار"، تتمثّل في حفظ التلاميذ لبعض النصوص الشعريّة، وأحيانا النثريّة، غيبا. هكذا نشأنا وتعلّمنا نحن. حفظنا الكثير، من عيون الشعر العربي ونثره، غيبا. بل كنّا كثيرا ما "نتساجل" في الشعر، متّكئين على محفوظاتنا الشعريّة تلك.
درّست "المحفوظات" بنفسي أيضا، حين كنت لسنوات طويلة معلّما في أكثر من مدرسة ابتدائيّة. كنت أختار بنفسي نصوصا متميّزة، قديمة ومعاصرة، ليحفظها التلاميذ غيبا، بعد قراءتها وفهمها على أحسن وجه . وبعد أن يكون المدير مهرها بتوقيعه طبعا، لئلا تكون "ملغومة".
كثيرون يومها، وكثيرون اليوم ربّما، اعتبروا إلغاء موضوعة "المحفوظات" نهجا تقدّميا معاصرا. لماذا نثقل على التلميذ بحفظ النصّ غيبا، كانت الحجّة. يكفي أن يقرأ التلميذ النصّ ويفهمه. إلا أن المحفوظات كانت عاملا، بل عاملا هامّا، في تنشئة الصغار على القيم اللغويّة والمثل التي تحملها تلك النصوص. لذا، شكّل إلغاؤها عاملا في إضعاف الملكة اللغويّة عند التلاميذ، من ناحية، وفي حرمانهم من تعرّف القيم التي تحملها تلك النصوص المختارة، من ناحية أخرى. لكن كلّ شيء جائز إذا كان ملفوفا بالمعاصرة وأساليب التربية الحديثة!
المحفوظات الله يرحمها. قتلوها حتّى دونما جنازة، لتبيان حسنات وسيّئات "الفقيد"! اليوم جاء دور قواعد اللغة العربيّة أيضا. قبل أيّام تلقّيت رسالة من الأستاذ صالح أبو عيشة، على غير معرفة سابقة بيننا. الرسالة المذكورة هي نسخة مصوّرة لردّ السيّدة راحيل متوكي، القائمة بأعمال رئيس السكرتارية التربويّة. في الرسالة تلك تبلّغ السيّدة متوكي الأستاذ أبو عكر" ثانية، أنّه ألغي تعليم القواعد[العربيّة] بشكل مستقلّ في المدارس الابتدائيّة العربيّة، ولذا لن يكون كتاب خاصّ لتعليم القواعد". بكلمة أخرى، وبأسلوبنا نحن، يلغى تعليم القواعد العربيّة، كموضوعة مستقلّة، في المدارس العربيّة الابتدائيّة. المقصود طبعا، وهو ما لم نجده في الرسالة المذكورة، أن يكون تدريس القواعد العربية ضمن درس النصوص الأدبيّة. تذكرون دروس "الشامل" المرحومة؟ شيء من هذا القبيل طبعا!
رغبت في فهم المسألة على نحو أوفى. عثرت على مقالة للدكتور محمد خليل، في موقع "الموقد" النصراوي، تتناول المسألة ذاتها. يذكر الدكتور خليل في مقالته تلك أنّ المنهج الجديد " يلغي بشكل تامّ استخدام الكتب المدرسيّة الخاصّة بتدريس مادّة القواعد العربيّة". يضيف الدكتور خليل بعد ذلك في مقالته، بحقّ، أنّ "مثل هذه الخطوة، سوف تلحق، حاضرا ومستقبلا، تراجعا خطيرا، وضررا فادحا في واقع لغتنا العربيّة على المستويين الفردي والجمعي".
حتّى إذا افترضنا حسن النيّة والتسرّع، في خطوة وزارة التربية، فنتائجها على تلاميذ العربيّة ستكون مدمّرة. إذا كانت العربيّة، حتّى في الظروف الراهنة من تأكيد القواعد وتدريسها منفصلة، تعاني الويلات على ألسنة وأقلام المثقّفين والتّلاميذ، فكيف ستكون حالتها إذا جعلوها ملحقة بدروس الأدب؟ ثمّ إنّ إلحاقها بموضوعة الأدب لا مبرّر له. بل هي فرصة لمعلّم العربيّة، إذا كانت نفسه تكره النحو بتحدّياته الدقيقة، مثل كثيرين بيننا، لتهميش النحو تماما وقصر الوقت كلّه على الأدب. ولا يهمّ في هذا المجال ما يكتب رسميّا، بل ما ينفّذ في الصفّ!
ثمّ إنّ القياس على العبريّة لا يمكن أن يؤدّي إلا إلى الأحكام المجحفة. فالعبريّة تخلّصت من شكل الآخر، وفقا لمبنى الجملة، كما هي الحال في العربيّة. وشكل الآخر، للمتحدّث والكاتب في العربيّة، عبء وأيّ عبء! حتّى الشكل الداخلي للفظ في العربيّة تعتريه أحوال مختلفة أكثر منها في العبريّة. وإذا كان "حماة اللغة" في العبريّة أيضا يشكون من هفوات و"شطحات" قادتهم اللغويّة، فكيف سيكون حال العربيّة على لسان أصحابها، من سياسيّين ورجال مجتمع وأصحاب مهن؟ الله يستر!
ثمّ إنّنا أخيرا لا نفترض حسن النيّة في المسؤولين في وزارة التربية، ولا في غيرها. هؤلاء لا يصدرون أوامرهم وتعليماتهم و"تجديداتهم" اعتباطا. يدرسون كلّ "تجديد" من جميع جوانبه، ويقدّرون سلفا منافعه ومضارّه!
لست من المتعصّبين للغة الفصيحة، بنحوها وصرفها وتعقيداتهما، كما يعرف كثيرون. لكنّها ما زالت حتّى هذا اليوم وعاء ثقافتنا وآدابنا، وعامل وحدتنا وحافظ تراثنا. لذا أجدني، حيال هذه الهجمة عليها ، مضطرّا إلى الدفاع عنها والتحذير من المساس بها، عمدا أو عفوا. فيا أصحاب العربيّة ومحبّيها: كونوا على حذر!!