منذ ألف عام ونيف ، بدأت دعوة التوحيد , ونشأ الكيان الدرزي في هذا الشرق الحبيب , وراح هذا الكيان يسير مع الزمن ويتطوّر ويتقدّم , على هدى الإيمان والفضائل والقيَم التي يُجسدها دين التوحيد في عيد الأضحى المبارك , بكل معانيها وجوانبها , وأهدافها الاخلاقية والاجتماعية والدينية . مع اقتراب العيد المبارك الميمون تبدأ النفوس التي تتحلى بالتوحيد , بالتوقع , والترقب , وانتظار حلول ليالي العُشر المباركة , وتصبو , في نهايتها , إلى استقبال الأضحى بالشعائر الدينية , التي تليق بمقامه المبارك المجيد .
ما أجمل تلك الأوقات , التي يلتقي بها إخوان الدين , في رحاب الخلوات الطاهرة المتواضعة , التي تشعّ بالتقوى والإيمان , اللذان يكتنفان المجتمعين والمصلين في ربوعها , وما أجمل أن يعلم كل مؤمن يتربّع في باحة الخلوة , أنه يشارك آلاف المؤمنين من أهل التوحيد , صلواتهم وابتهالاتهم واستعداداتهم لاستقبال العيد المبارك , فهذا الشعور يكسب الإنسان الثقة والقوة والمعرفة أنه ينتمي إلى طائفة لها جذور وعراقة وأصالة , ولها طقوس ومناسبات وأعياد , وأهداف عليا تُعلل الحياة البشرية , وتطلعات الانسان فيها , وأعماله . هذا الشعور , حينما يتشبّع بالصلوات القدسية , وبالأشعار الروحانية , والجو الديني الصافي , الذي يسود الخلوات في ليالي العشر وفي السهرات التي تسبق ليالي العشر ,
هذه الأيام المباركة , الأيام العشرة الأوائل مِن ذي الحجة , والتي قال فيها الرسول الكريم : " أفضل ايام الدنيا أيامُ العُشر " وقال : " ما مِن أيَّامٍ , العمل الصالح فيها أحَبُّ الى الله مِن هذه الأيام ".
هذا الوضع , يسمو بالنفوس وبالأفكار إلى أرقى درجات الإيمان , وإلى أجمل وأعظم مباهج الحياة التي تحوي الارتقاء إلى أسمى ما يمكن أن يبلغه إنسان , من ناحية العقيدة والمعرفة والتمازُج والأحاسيس القدسية الأصيلة .
كل جلسة روحية , في السهرات القدسية , تعزل الإنسان عن المحيط الذي يعيش فيه , فيتحد مع باريه , وتُبعه عن الهموم والمشاكل العادية المألوفة , وغير العادية , المتواجدة عند كل إنسان , وتكسبه متعة روحية فريدة من نوعها , تدفعه إلى الاندماج والمشاركة والمتابعة , مع باقي إخوان الدين , في هذا الجو الروحاني المنبسط الرحيب .
مِن خلال مشاركتهِ في السهرات الدينية , ربما يتمكن الفرد منا أن يتغلّب على مشاكله وهمومه الشخصية , وربما يستطيع هذا الجو الروحاني أن يكسبه التصميم والعزيمة والقدرة على تسوية كافة العقبات الشخصية والمشاكل , لكنه لا يستطيع أن ينسيه الهموم والمشاكل والأخطار التي تواجه الطائفة ككل . وهذه الهموم والمشاكل تتطلب التعامل معها بأسلوب يناسبها , مبني على التكاتف بين جميع أبناء الطائفة في كل مكان وزمان , ورص الصفوف من أجل مواجهتها والتغلب عليها . وقد استطاع الموحدون الدروز , والحمد لله , مزوّدين بعقيدتهم وإيمانهم , خلال مئات السنين , أن يتغلبوا على كافة الصعوبات التي واجهتهم , والحمد لله تعالى , وأن يستمروا في مسيرتهم التوحيدية حتى يومنا هذا , لكن الأخطار المحدقة , بالطائفة , خاصة في الآونة الأخيرة , وخاصة بإخواننا دروز سوريا , هي جسيمة وحقيقية , وهناك خطورة في وجودها ومِن تفاقمها , من حيث ظهرت في العالم العربي الحديث , وللأسف , عناصر جديدة , تكفيرية فتاكة و تهدد العالم بأسره , وسكانه , باسم الاسلام زوراً وبهتانا , بالدمار والخراب , وبما في ذلك أبناء الطائفة الدرزية , وهذه العناصر , لا تعرف الرحمة , ولا العدل ولا العدالة ولا الحرية , ولا صلةَ لها بالإسلام الذي تدَّعي , والذي تقوم باسمه بأبشع وأفظع الكبائر التي نهى عنها الله , تعالى وتبارك , والإسلام منها براء ، خاصة وأنها تعتبر كل من ليس منهم كافرا يستحق القتل والتعذيب والتنكيل , تماما مثلما كان في أحلك الظروف والأوقات الغابرة , التي مر بها الجنس البشري . ونحن , وفي مثل هذا الحال , ومن هذا المنطلق ، لا بُد لنا مِن أن نعود الى ديننا الحنيف لنعمل بوصاياه لنا , وبالذات الى مَن كانت من اعمدة هذا الدين , وصية حفظ الأخوان , والتي تُحتم علينا الوقوف الى جانب مَن يلحقهُ الضيم مِن إخواننا فنُعاضدهُ ونشد مِن أزره ونفتديه بالنفس والنفيس أينما وُجد , وفي كل زمان ومكان . الى جانب ذلك , وبموجب معنى الأضحى (العيد) , وبناءً على الفضائل التي تشرّبناها خلال ليالي العشر المباركة , علينا أن نصفي نوايانا , ونُطهِّر قلوبنا , ونُنقي أفكارنا , ونمد واحدنا للآخر يد العون والمساعدة , وأن ننسى الضغائن والأحقاد ونترفع عن الصغائر , ونتنحى عن الأطماع الشخصية , والنزعات الفردية , وأن نضحّي ونتسامح ونتصافى , وأن نشعر أننا أهل بيت واحد , هدفنا سامٍ واحد , يتمحور في المحافظة على دين التوحيد وصيانتهُ مِن كل رجسٍ وشائبة , وهو الذي تحيطه أخطار جسيمة في هذه الايام , وعليه , علينا أن نتوحّد لكي نستطيع أن نجابه كل هذه المصائب والأخطار , التي قد تفتك به . كلنا أمل في أن يوحدنا صفاء النفس الذي يسود المصلين في ليالي العشر المباركة , وأن يرقى بنا إلى منازل عالية من التسامح , والأخوة والتضحية . هكذا فقط , يمكننا أن نتجاوز , ما يحيق بنا من محنٍ تُهدد كياننا , ونستطيع , بعونه تعالى , أن نستمر في الحفاظ على مجتمعاتنا , ومعتقداتنا وصلواتنا داخل خلواتنا التي نشعر بداخلها ومن خلالها قُرب الخالِق منا , ونشعُر بعظمتهِ وجبروته الا متناهيتان .
ومما يسعدنا ويشجعنا ويثلج صدورنا هو أننا على يقينٍ أن الطائفة الدرزية تضم بين ظهرانيها طاقات هائلة من الإمكانيات والقدرات والشجاعة , والإقدام , ومن الفضائل والأخلاق والسجايا الحسنة التي بمقدورها أن تجعلنا نتغلب على كل نائبة قد تنتابنا , إذا آمنا بقدراتنا وبثقتنا بأنفسنا , وباعتمادنا على بارينا وخالقنا الذي أراد لنا الوجود لحكمةٍ وإرادةٍ من عظيم جلاله , وأكسبنا ما يميّز طائفتنا مِن علمٍ ودرايةٍ , وبعث إلينا بالرسُل والأنبياء المكرمين , والأولياء والمشايخ الصالحين الذين ببركتهم وبهممهم جعلونا نخترق كل الحواجز , ونذلل الأخطار والصعوبات , ونشقّ طريقتا إلى التوحيد , نور الحق .
بهذه المناسبة الطيِّبة , دعونا نتضرَّع الى العلي القدير , ونصلي جميعًا طالبين العفو والمغفرة , ومن أجل أن نعيش في أمنٍ وأمان وسلمٍ وسلام , في مجتمعٍ متسامحٍ , يحب الواحد منا الآخر , خاليًا من العنف والسلوكيَّات السلبيَّة , خاصة وقد ازدادت في الآونةِ الأخيرة , لجهل الناس بالدين وأصولهِ , وابتعادهم عنه , وهو الذي يأمُرُ بالمعروف وينهي عن العُنف والمُنكر , وتثبيتُ رواسينا على عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة .
في الخِتام , وبهذه المناسبة السعيدة , أتوجه إلى أبنائنا من الجيل الصاعد وأحثهم على التقرب نن الدين والعودة الى الجذور والتمسك بالعادات والتقاليد المعروفية العظيمة , والابتعاد عن البُدع المُضرة بالحياة الفردية والعامة , والامتناع عن العبث واللعب بالألعاب النارية والمفرقعات التي تشكل خطراً مباشراً على سلامتهم وسلامة المحيطين بهم , وأعود وأهيبُ بالجميع نبذ العنف بشتى انواعه وألوانه , اللذي أضحى وباء يعاني منه المجتمع بأسره في كل مكان , ويضمنه قيادة السيارات مِن قبل بعض الشباب الطائش بشكلٍ فيهِ مِن التحدي والغطرسةِ ما لا يُحتَمَل , ضاربين بِالأنظمةِ و القوانين عرض الحائط , والتحلي بالصبر والتروي والتسامح , لتبقى بهجة العيد مخيمة على الجميع , ولتسود روح المحبة والوئام والألفة ابناء مجتمعنا هذا جميعهم , وتُبقي أيامنا جميعاً أعياداً وأفراح .
أختم كلمتي هذه بالمباركة والتهنئة بالعيد المبارك السعيد لأبناء الطائفة التوحيدية والأمة الاسلامية جمعاء , وبالتوسُل الى العلي الأعلى , جل جلالهُ ، أن يُعيد العيد على جميع أبناء الطائفة الدرزية , في كل رُكنٍ مِن اركان المعمورة , بالخير واليُمن والبركات , وكل عام والجميع بالف الف خير.