وداعًا يا سيْف
(جزء من كلمة فريد غانم، خلال مراسيم تشييع جثمان الشاب سيْف سمير اسماعيل غانم، يوم الإثنين 13.10.2014)
اسمحوا لنا، أمامَ هذا الفقدانِ الفادحِ، أن نقولَ كلاماً مرّاً، أمرَّ من الحنظل.
فقد بُحّتْ حناجِرُنا، وانكسرتْ أصواتُنا وتصدَّعَ الصّدى، وما يزالُ الموتُ السريعُ المجّانيُّ الخاطفُ يقصفُ أزهارَنا وأعمارَنا، ويجفِّفُ مآقينا ويشرخُ الصدورَ والبيوتَ بمن فيها.
والآن، اليومَ، ها هُنا، في المغار، يشطرُ قلوبَنا سيفٌ ويقطِّعُ نياطَها، ويشّظيها وينغرسُ، حسرةً مستديمةً، في الحلقِ وفي الخاصِرة.
ولكنّنا، لا نقولُ، مثلما قالوا في زمنٍ مضى:
سبقَ السيفُ العذلَ.
فسيفُنا من ذهبٍ.
الآنَ، ها هُنا، على هذا السّفحِ القديمِ، نسفحُ دموعَنا وآهاتِنا الحَرّةَ، على سيفِنا الذي راحَ ولم يتركْ لأمِّهِ جبيناً تُقبِّلُهُ، ولا زنداً لأبيه يتكئُ عليه. ولم يُمهَلْ قليلاً، لكي يزرعَ أمام البيتِ ساقيْهِ، عُكّازين للجدّينِ وعصاً للجدةِ، قنديلاً لطريقِهم وزاداً للخريف.
ولا نقولُ: سبقَ سيفٌ العذلَ.
فسيفُنا أغلى من الذهبِ.
ولا نلومُ أحداً مفرداً ولا نُعاتبُ، وإنما نحاولُ أن نعتبرَ.
أسمَوْهُ سيفاً،
فكانَ حاداً بحدِّهِ، لا يُفلُّ ولا يُثلمُ،
وخفيفاً فلا تَرى له ظلاً،
ورشيقاً كأنّهُ الفكرُ،
وهادئاً كأن العالمَ غِمدُهُ أو كأنَّما تقفُ على حدِّهِ العصافيرُ.
وكان سيفٌ باسمَ الثغرِ دوماً كأنّهُ رجلٌ نما على بسمةٍ مفتوحةٍ على كلِّ النواحي والفصول.
ولا نقولُ: سبقَ العذلُ السيفَ.
فسيفُنا نورٌ لعيونِنا وسوفَ يظلُّ لأهلِهِ وخلِّانِهِ مِشكاةً، بمصباحٍ، بزجاجةٍ، تُضيءُ من زيتونةٍ، لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ ولا شماليّةٍ ولا جنوبيّةٍ.
وحبا اللهُ سيفاً بحديقةٍ خضراءَ تسكنُ العينيْن، وبِسُمْرةٍ كأنها سهولُ "الحمرا" وسهلِ حزّور، وحباهُ بنسمةٍ هادئةٍ كأنَّ على رأسِه الطيرُ.
ولا نقولُ: سبقَ العذلُ سيفاً.
فلا عَذْلٌ ولا مَلامَةٌ،
لكنّنا نحاولُ أن نعتبِرَ.
وها هي العبرةُ مركونةٌ خلفَ الباب وخلف كلِّ موتٍ صاعقٍ.
غداً يصادفُ عيدُ ميلادِ سيفٍ الواحد والعشرين. كنا نعتقدُ وكان خلّانُهُ يعتقدون، بانّهُ سيطفئ، على بعدِ استدارةٍ واحدةٍ لعقاربِ الساعة، واحدةً وعشرين شمعةً. وها هو ينطفئُ ويُشعلُ فينا الأسى.
دعونا نهبطُ من ذُرى البلاغةِ، ونترجَّلُ عن صهوةِ المجازِ والاستعارةِ وسَرجِ العِبارة.
راحَ سيفٌ، وسوف يبقى غيابُهُ شوكةً في القلبِ. فعسى أن يكونَ موتُهُ، هكذا، بالمجانِ، في لمحِ البصر، على بعدِ شبرٍ أو أقلَّ من رموشِ الوالديْن - عسى أن يكونَ موتُ سيفِنا ناقوساً يُدقُّ في نواحينا فيدفعَ الموتَ عن شبّانِنا ويُغلقُ الجهاتِ على الفواجِع.
وعسى أن يدفعَنا هذا الموتُ الباهظُ، نحن هنا الآن وفي كلِّ مكانٍ وزمانٍ، إلى التعقُّلِ قبل التوكُّل. وعسى أنْ يدفعَنا موتُ سيفٍ، من هنا ومن هذه اللحظة، إلى إطلاقِ صرخةٍ مدويةٍ، تمتدُّ ولا تتنهي، لحظةً لحظةً، على مدارِ الساعة والسنة القمريّةِ والسنةِ الشمسيّةِ:
كفى لهذا الموت،
كفى لهذه الحربِ على الشوارع،
كفى لتكسيرِ القلوب،
وكفى للثَّكَل واليُتْمِ ودكِّ أركانِ البيوت، بلا مقابل.
ولا نقول سبقَ السَّيْفُ العَذْلَ.
فقد سبقَ الموتُ سيْفاً.
ولَكَمْ سبقتْنا النصالُ إلى أعناقنا ولَكَم نزفنا، مرةً تلوَ المرةِ، ولَكَمْ سكَتْنا، وما عادَ من الصوابِ أنْ نسكتَ بعدَ اليوم.
أيها الحشدُ الكريم.
نحنُ، ذوي وأقاربَ وعائلةَ الشابِّ الطيّبِ والخلوقِ، سَيْف سمير اسماعيل غانم، َلمِنَ المؤمنين الصابرين الذين إذا أصابتْهم مصيبةٌ قالوا: إنا لله وإنا إليهِ راجعون.
ونحن، مثلُكم، نؤمنُ بأنه لا تدري نفسٌ في أيِّ أرضٍ تموت، ولا على أية شاكلة تعودُ إلى ربِّها راضيةً مرضيّةً.
وَأَنهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ.
ونؤمنُ، أيضاً، كما تؤمنون، أنَّ الرِّضا والتسليم نهايةُ العلم والتعليم.
غيرَ أننا نؤمنُ بالمقابل، مثلما تؤمنون، بواجبِ وفريضةِ أن نعقلَ قبلَ أن نتوكّل.
وأنه علينا أن نلتزمَ بمسؤوليتنا الأولى في أنِ اعقلْ، ثمّ اعقلْ، ثمّ اعقلْ، ثمَّ توكّل.
ولهذا اسمحوا لنا أنْ نوجهَ كلامَنا إلى الشُّبّان، فلذاتِ أكبادِنا ومستقبلَنا، لنقولَ لهم:
ارحموا من في الأرض يرحمْكُم من في السماء،
وارحموا أنفسَكم يرحمْكم من في الأرضِ ومن في السماء،
وارحموا ذويكم وأهلَكم، يرحمْكم من في الأرضِ ومن في البيتِ ومن في الهواءِ ومن في السماء.
ولكننا، مع ذلك ورغم ذلك، لا نقول: سبق سيفٌ العذلَ.
ولا نقولُ: سبقَ العذلُ سَيْفاً.
فسيفٌ، ابنُ الواحدةِ والعشرين، بنى نفسَه على راحتيِّ والديْهِ وصُدورِ جدّيْهِ وجدَّتيْهِ وعيونِ أشقّائِهِ وأحبّائِهِ، من السَّريرِ إلى الحبْوِ إلى المشيِ إلى الركضِ إلى الكدِّ، حتى صارَ شاباً يافعاً، وسيماً، خَلوقاً، مُحبّاً ومحبوباً، واعداً وفياً لما وعدَ ولمنْ وعد.
وكان سيفٌ يعلو وينمو، خليّةً خليّةً، عرقاٍ عرقاٍ، قسَمةً قسَمةً، وينثرُ ابتساماتِهِ، على امتدادِ حياتِهِ، على مدى حوالي سبعمئةِ مليونِ ثانية.
وفي أقلَّ من ثانيةٍ مضى.
وسيفٌ حبيبُنا، وحبيبُ أمِّهِ عفاف وأبيهِ سمير، وجدَّيْهِ حمزة واسماعيل وجدَّتِهِ الباقية وجدَّتِه الرّاحلة، وآخرُ عنقودِ أشقائِهِ نزار وراغد وفرسان وشقيقتِهِ سامية، وخليلُ أقربائِهِ وجيرانِهِ وأصدقائِهِ ورفاقِ دربِهِ.
لا نلومُ أحداً مُفرداً، وقد بقي واحدُنا، بعد سيفٍ، مثلَ السّيفِ فَرْداً.
فليس هذا وقتُ العَذْلِ والمَلامَةِ.
لكنَّنا نضربُ على صدورِ مجتمعِنا بأكملِهِ، ونطلبُ منه إنْ يصرخَ ملءَ الدُّنيا ضدَّ سفكِ الدماءِ على الشوارع.
فنحن، في البدايةِ وفي النهايةِ، لا نريدُ بعدَ اليومِ أن يسبِقَنَا الموتُ الفجائيُّ ليقصفَ زهرَ الرَّبيعِ، في عُلَبٍ سريعةٍ نسمّيها سيارات، وعلى التفافاتِ الأفاعي السامة التي نسميها طرقات. فالموتُ لا يلعبُ، ومصيرُ أبنائنا مرهونٌ بنا، على الأقلِّ في هذا المجال. وقد آن الأوانُ أن نقولَ كلمتَنا، لنحقنَ بها الدماءَ، دماءَنا.
السَّيْفُ أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ
في حدِّهِ الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ.
ويمضي سيفٌ، ويسقطُ من بين أصابعِنا، بين الجِدِّ واللَّعِب.
وهذا هو الموتُ الكريهُ كريهٌ، لكنه صادقٌ لا يلعبُ ولا يُغلب.
فلنبتعد عنه حين يأتينا من الطرقاتِ، والعُلَب.
إنما نقفُ هنا لنمسحَ العَبَراتِ ونستخلصَ العِبَر، ولكي نقولَ: إن موتَ بعضٍ قد يدفعُ الموتَ عن الآخرين.
فرحمةُ الله على الرَّاحلين، الذين ماتوا قبلَ أوانِهم، بعيداً عن الدِّيارِ أو قابَ قوسيْنِ من حُضنِ الوالدة أو قابَ قوْسِ من دفءِ البيت.
رحمةُ الله على الراحلينَ، ورحمةُ الله علينا جميعا، أحياءَ ميِّتين.
ولتكن رحمتُنا علينا، وعلى أهلِنا.
وعسى أن يكونَ سيفٌ، سيفُنا، حداً فاصلاً،
فيكونَ أخيرَ المبَذَّرينَ على الطُّرُقاتِ وآخرَهم.