"وأبو صابر صابر صابر صابر
ويعيش على الأمل الحب، الاصرار...
ويرى التاريخ، يشم الأرض
ويبوس الأرض"
(شكيب جهشان)
إهداء
أستاذي شكيب جهشان، أهديك هذه المقالة لأُعبر لك عن شكري وتقديري بعد خمسين سنة. غرست فِيَّ محبتي للأدب وتذوقه، أكسبتني الانتماء والوطنية ومحبة الانسان. في كل محاضرة أو درس أُقدمها ، أتذكر وقفتك في الصف وتفاعلك مع الموضوع، وكنت أتساءل: ما هذا؟ كيف؟ أهو صديق للمتنبي ولأبي العلاء المعري ولجبران خليل جبران وغيرهم؟ ليرحمك الله، يا معلمي، وليسكنك فسيح جنانه.
توضيح:
عرفت هذه القصيدة في ربيع 1978 عندما نُشرت لأول مرة في مجلة "الأسوار" – عكا، أدبية فكرية، (ص61-70) ونَشرتُ في العدد نفسه مقالاً يلخص دراسة أكاديمية قمت بها أثناء دراستي العليا في الجامعة العبرية وعنوانها " عن التلميذ الموهوب. هل هو مشكلة في المدرسة؟ ص 71-75". ومنذ ذلك الوقت أدهشتني هذه القصيدة وما زلتُ منشغلا بها. وأتساءل: كيف جاءته الفكرة؟ وكيف عاش معها؟ وكيف استطاع تحمل عبئها؟ وكيف ألَّفَها؟ وكيف وكيف وكيف؟
العنوان: "أبو صابر والمطر والتاريخ"
العنوان بالنّسبة للمؤلّف، كما ترى فحماوي وتد (2013) ، يمثّل أكثر من مجرّد قراءة، بل يمثّل خيارًا لما يريد لنصّه أن يقول. ويعبّر عمّا يمثله النّص بالنّسبة إليه كمنتج له. يؤسّس المؤلّف علاقته هو بالنّص من خلال العنوان. يتأوّل المؤلف العمل لوضع العنوان قبل أن يتناول المتلقّي العنوان من خلال النّص.
نحن نرى بأنّ عنوان النّص هو كاسم المولود، فأحيانًا نختار الاسم قبل الولادة وأحيانًا ننتظر إلى ما بعد الولادة وأحيانًا نسّمي المولود تيمّنًا بشخصيًة نقدًرها أو تأمّلًا مستقبليًا وفي جميع الحالات الاسم/ العنوان الّذي نعطيه للمولود/للنّص يعكس فكرنا وأحاسيسنا تجاهه ، وما يجول بعالمنا نحن.
"أبو صابر والمطر والتاريخ" عنوان بثلاثة أعمدة يرتكز عليها متن القصيدة. وهو أول شيء يتلقاه المتلقي ويحتوي على ما يريد الشاعر إيصاله لقارئه وهو بمثابة المدخل للبيت، فأحيانا يكون المدخل جميلا وجذابا وداخل البيت عكس ذلك وأحيانا يكون مدخل البيت بسيطا أما وداخل البيت جميلا، والافضل ان يكون الاثنان جميلين وجذابين.
نحن نعتبر العنوان "أبو صابر والمطر والتاريخ" كما حدده طه (2009) وكما جاء في فحماوي وتد(2013) "عنوانا مرجعيا داخليا" (Internal Reference) يحتوي على مجموع العلاقات المعقدة والمتشابكة بين العنوان الأدبي وجسد النص".
يحتوي هذا العنوان على مضمون يقوم بوظيفة تساعد المتلقي على فهم النص واستيعابه. وهو مركب من ثلاثة عناصر ينتقل فيها الشاعر من الخاص الى العام، ومن الفرد الواحد الى المجموعة :
- أبو صابر: كُنْيةُ الشخصية المركزية ويمثل الفلسطيني.
- المطر وهو الضروري لبقاء الشخصية المركزية أي الفلسطيني العام.
- التاريخ وهو الجذور التي تنتمي اليها الشخصية المركزية أي الجذور الفلسطينية.
الاسم أبو صابر:
وهو الكُنْيةُ ما يجعل عَلَمًا على الشَّخص غير الاسم واللقب، إلا أنها ليست اسما، ويشترط بالكنية أن تبدأ بأحد الألفاظ الآتية: أب، وأم، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، وعم، وعمه، وخال، وخالة. نحو: أبو خالد، وأم يوسف، وابن الوليد، وبنت الصديق، وتستعمل مع الاسم واللقب أو بدونهما، تفخيمًا لشأن صَاحبها أن يذكر اسمُهُ مجرَّدًا وتكون لأشراف الناس. والكنية "أبو صابر" هنا هي ما نسميه Apotronym وهو كما نقول "اسم على مُسمى" وهو اسم يختاره الكاتب، غالبا لحاجات أخلاقية للحض على التمسك بالأخلاق الحميدة، أو للتهكم وحتى للسخرية اللاذعة، وذلك حسب مهنة الشخصية أو صفاتها أو سلوكها، أو ميولها وغيرها. يرى البعض أن هذا اسلوب سلبيٌّ وذلك لأن الكاتب يحدد سلفا صفات وسلوك ومصير الشخصية وهم يفضلون أن يستنتجها المتلقي خلال قراءة النص الأدبي وبعده ، ويدعون أن حبكة الاحداث وتطورها جاءت كي تؤكد الاسم كما حدده الكاتب سلفا. ومن ناحية اخري يحبذ الكثيرون هذا الاسلوب وكثيرا ما يميز انتاجهم، ومنهم مثلا حنا مينة في روايته "نهاية رجل شجاع" اسم بطل الرواية "مفيد الوحش" (لأنه قطع ذيل الجحش) بسبب رهبته، و"عبدوش الداشر" لأنه كان داشرا/ شاردا/فارا من الجيش الفرنسي. وفي الادب العبري الاديب شموئيل يوسف عجنون وفي الادب العبري المعاصر الاديب أ.ب. يهوشوع.
الصَابِرٌ : الْمُتَجَلِّدُ الَّذِي يَتَحَمَّلُ بِصَبْرٍ الْمَصَائِبَ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ.
صبَر الشَّخصُ: رَضِي، تَجَلَّدَ، تَحَمَّلَ، اِحْتَمَلَ، انتظر في هدوء واطمئنان دون شكوى ولم يتعجَّل. الصَّبْرُ: التجلُّد وحسن الاحتمال.
يَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ: لاَ يُظْهِرُ شَكْوىً مِنْ أَلَمٍ أَوْ بَلْوىً(قاموس المعاني).
الصبر هو حالة من القدرة على التحمل في ظل ظروف صعبة، والتي يمكن أن تعني المثابرة في مواجهة الاستفزاز. الصبر هو الصمود المستمر على الأشياء المؤلمة نفسياً ، وتحملها بروح عالية ونفس طيبة دون اظهار ملامح الاستياء والانفعال على الوجه بحيث لا تكون مرئية او محسوسة من قبل الاخرين وهو واجب عند المصائب(ويكبيديا).
أرى أنّ أبا صابر هو معادل موضوعيّ(Objective correlative) للفلسطينيّ الّذي عاش النكبة والحروبات وقاسى وعانى طويلًا، ومات ودفن وعاد يبسم ويُزهر من قبره مع المطر، فالمطر في الأرض منذ سنوات، وهذا المطر يعرف كلّ الحكاية والتاريخ لا يموت حتّى لو مات سكّان حقبة تاريخيّة معيّنة، فالتاريخ ينبض دومًا والمطر المتجدّد من باطن الأرض يعيد الحكاية ويعيد الناس أصحاب الأرض.
المعادل الموضوعي هو مصطلح في النقد ويُشير إلى وسيلة رمزية يستخدمها الشاعر للتعبير عن مفاهيم مجردة كالعواطف. يوفر هذا المصطلح عنواناً للطريقة التي يقدم بها الادب مجموعة من الاغراض التي قد لا يُصرحُ بالعاطفة فيها، لكنها تعبر عن هذه العواطف.
يقول إليوت: «الطريق الوحيد للتعبير عن الشعور فنياً هو إيجاد معادل موضوعي له، أو بعبارة أخرى، إيجاد مجموعة أشياء، أو حالات، أو سلسلة أحداث تؤلف مكوّنات ذلك الشعور المحدد، فعندما تقدم تلك الحقائق الخارجية، التي يجب أن تنتهي بتجربة حسية، فإن الشعور يستثار في الحال»(عبد الواحد لؤلؤة، الموسوعة العربية).
بودي الإشارة إلى انه يوجد تماهي بين أبي صابر وشجرة الزيتون العربيّة الّتي قلعوها، ومجرّد إزهارها ثانية في آخر القصيدة أدّى أن يبسم أبو صابر ويبوس الأرض، فالاقتلاع من الأرض، اقتلاع الإنسان الممثّل بالزيتون حتّى لو مرّ عليه ألاف السنين، يبقى متأصلا بالذاكرة، فالإنسان لا ينسى أصله.
المطر:
المطر ضروري للبقاء وله دور اساسي في الحياة، لأنه يعطي الماء للكائنات الحية والنباتات، والمناطق التي تعاني قلة الماء، أو قلة سقوط الأمطار عليها تكاد تنعدم فيها مظاهر الحياة. وبالنسبة للفلاح من امثال "ابو صابر" المطر ضروري جدا ولهذا انشد الفلاح أغان شعبية عديدة يرجو فيها سقوط المطر وغنت له فيروز "شتي يا دنيا تَ يزيد موسمنا.." وايضا توجد صلاة الاستسقاء وهي صلاة نافلة تصلَّى طلبًا لنزول المطر ليقطع الجفاف أو يقضي حاجة أخرى في نية المصلي.
من دلالات " المطر" أيضا في الشعر الحديث أو على الأقل عند بدر شاكر السياب" أنشودة المطر" وعند محمود درويش في قصيدة" مطر ناعم في خريف بعيد" في ديوانه "العصافير تموت في الجليل" له دلالة الثورة. وقصائد كثيرة كان للمطر فيها معنى الثورة أو التغيير للأحسن والتجديد.
التاريخ:
التاريخ اصطلاحا: جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، على الفرد أو المجتمع, كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية(المعجم الوجيز، القاهرة 1998).
والتاريخ هو معرفة للأحداث التاريخية وفهما وتحليلها ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث ويحللها بهدف الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي و الحاضر من أجل التخطيط للمستقبل. والتاريخ في القصيدة هو الرواية الفلسطينية والتي مركزها الجذور الفلسطينية التي ينتمي اليها ابو صابر.
الحكاية:
"أبو صابر والمطر والتاريخ" قصيدة قصصية تعتمد في مضمونها على ذكر وقائع وحوادث في ثوب قصة لها افتتاحيتها وجسدها وخاتمتها، وتعرض صورها وتتحرك وتفعل وتنطق شخصيتها. فالشاعر القصصي يعرض أمامنا حدثا مِعينا/حالة معينة يتفاعل معه وتتجاوب له مشاعره، فيصور هذا الحدث/الحالة كما رآه ويعرضه لنا شعرا في قصة إيقاعية.
تحكي القصيدة قصة ونحن نقرأ فيها شعراً وقصة. فبحكم أنها قصيدة، لابد أن تَكون شعراً وبحكم أنها قصصية لابد أن تنقل إلينا قصة. فهي شعر وقصة في آن واحد. اِنّما تستفيد القصة مِن الشعر الإيقاع والموسيقى ويستفيد الشعر مِن القصة الحدث /الحالة. وهكذا تحدث استفادة متبادلة.
ابو صابر شيخ في التسعين يحمل كل هموم الدنيا، صابر على الاحداث التي تجري حوله وأبو صابر (صابر صابر صابر) ويرفض الآخ، إنه يعيش على الأمل والحب والإصرار، عنده خمس زيتونات وهن كأولاده واحدة زرعها امس والأخريات نمت بشكل متتالٍ: نصبة، عمرية، رومية وعربية. إنه شيخ مهزوم من عدوه ولكنه منتصر بمحبته لأرضه وخاصة لزيتونته العربية. انه يحميها بصدره بعد أن صدرت اوامر عدوه وانهار التاريخ ووقعت الزيتونات الاربع.
ابو صابر يتماهى مع الطبيعة/أرضه/بلده/وطنه، عيناه بلون السهل، بلون الفأس، سمراوان، عيناه بلون الأهل، يداه سمراوان، اسمر كالأرض، إنه أسمر مثل جميع الفلاحين، يقدس حبات الطين. إنه الشيخ، الأرض، الجبل، السهل- إنه كل هذا. والاهم أنه يرى العالم في حضن البيت الطيني ويعتز كثيرا بالأرض، والحضن أمين فبيت الانسان قلعته. يحيا فردا شعبا.
أبو صابر إنسان متسامح يؤمن أن الأسمر والأشقر سيان، وأن الإنسان أخو الإنسان. يؤمن أن الجيرة فرض ويصون العرض، يؤمن أن الغربة عار والموت على أرض الأوطان عقيدة فإن الحضن أمين.
يؤمن أن الدنيا دولاب وحاليا يطلب من رب الكل أن يحمي الزيتونات الخمس وينهي بقول السيد المسيح عند الصلب: "فلتعبر عني هذي الكأس"(متى 39:16) }وهو في حالة الحزن والاندهاش والاكتئاب أبتعد السيد عن تلاميذه ثم جثا على ركبتيه أمام الله حاملاً ثقل خطايا كل العالم، وصلى قائلاً: "يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت{.
وجه ابي صابر عتيق كالتاريخ، إنه التاريخ بعينه. ويروي لنا بالإضافة إلى روايته السمراء الرواية الجديدة الشقراء عندما دخل اليها الاشقر. في السفح الاول- الاسمر، تنتصب الزيتونات، أما في السفح الآخر، تعلو ثكنات الجنود والمستوطنات(بيت 4). السفح الاول يصغر والآخر يكبر وتعلو الثكنات والاهرامات . السفح الأول ينهار والآخر يُحَّلِق، السفح الأول يحيا في النار والآخر في الجنة، في الأول هامات مكسورة والآخر يأكل، يشرب، يلعب.
وابو صابر يؤمن أن الدنيا دولاب وجذور الزيتونة العربية تحلم بالمستقبل فالتاريخ يلف ويدور وشجرة الزيتون العربية تزهر في آخر القصيدة وأبو صابر يبسم ويبوس الأرض:
"وعلى القبر المهجور من السنوات الالف
الالفين العشرة
تنمو زهرة
وابو صابر
يبسم في حضن الأرضْ
ويبوس الأرضْ."
المعادل الموضوعي (Objective correlative) يميز هذه الحكاية:
- ابو صابر معادل موضوعي للفلسطينيّ الّذي عاش النكبة وعانى طويلًا، ولكنه متفائلا.
- الأسمر – السكان الأصليون-الفلسطينيون.
- الأشقر – السكان الجدد-اليهود.
- الثكنات – معسكرات الجنود/المستوطنات/ الاحتلال.
- الزيتونة العربية – الرفض والصمود.
البنية الشعرية:
الاستهلال:
الاستهلال أو البداية او الافتتاحية Exposition/Opening)):يولي إدوارد سعيد، حسب فحماوي وتد(2013) "أهمية بالغة للبداية في الشعر، ويرى أن القدرة والموهبة هي القوّة لبدء الشعر، فهي ليست مجرد أشكال، بل معنى يندمج في الظروف الإنسانية. تلك الظروف الممتزجة بالخيال، تبدأ السيطرة المستورة والمتبادلة للذات والواقع، للزمن والرؤيا، حيث يُفرغ كل ذلك في قالب اللغة ليتكوّن الشعر".
بداية قصيدة "أبو صابر والمطر والتاريخ"، تعتمد على تجربة انسانية لها علاقة بالمكان الجغرافي للأحداث. وردت البداية في البيتين الاول والثاني ، يصف بهما الشاعر مكان الأحداث: "بلدي" والذي هو في نظرنا معادل موضوعي للوطن- فلسطين بأسرها. يصف الشاعر بلده بالأجواء الريفية الباستورالية: موال، نشيد، يتسلق الهضاب، ممتلئا بالزيتونات السمر، الفل الدفلى، حبات البيدر، عرق الزعتر وينهي الاستهلال منفعلا: "الله الله.. يحميك الله يحميك الله".
هذه البداية مثيرة للمتلقي بحيث أنها تدفعه للاستمرار بالقراءة كي يكتشف باقي الأمور. نستطيع اعتبار هذه البداية ممهدة لجسد القصيدة:
"بلدي
موَّالٌ في الآفاقْ
يتسلق كل هضاب اللهْ
يُنشدُهُ الدوريُّ الاغبرْ
يُرجعُهُ الحسونُ فيكبرْ
تحضنه الآهُ وراء الآهْ
يا بلدي، الله، اللهْ
* * *
بلدي والسفحُ يُطلُ يُطلْ
والزيتوناتُ السمرُ، الفُلْ
الدفلى، حباتُ البيدرْ
يا بلدي، يا عرق الزعتر
يا عقد الطلّ
يحميك الله
يحميك الله ؟!!"
جسد القصيدة- ما بين الاستهلال والنهاية: الابيات الثالث حتى التاسع عشر.
في هذه الابيات نجد جسد القصيدة والتي نتعرف فيه إلى الشخصية المركزية "أبو صابر" وصفاتها وسلوكياتها وعقيدتها وأمنياتها ومهنتها، ونتعرف أيضا إلى بداية الصراع وقدوم الطرف الآخر العدو وتصرفاته، كما جاء في اول المقال:
"وابو صابر
شيخٌ يحبو نحوَ التسعينْ
يحملُ كلَّ هموم الدنيا فوق الرأسْ
عيناه السمراوان، يداه السمراوان
بلون السهل، بلون الاهل
بلون الفأسْ
..............................
في السفح الآخر من بلدي
تعلو، تعلو، تعلو ثكناتْ
بلدي وجهانْ:
الاول أسمر
والثاني اشقر
الأسمر إبنُ الجارية البلهاء
والأشقر إبنُ الساداتْ
............................
والسفحُ الآخرُ يكبرُ
والثكناتُ الأهراماتْ
تعلو
والسفحُ الاولُ يصغرُ
.............................
لا يفهم كيف يحلِّقُ سفحٌ واحدْ
والثاني ينهار
.............................
لا يكفي ان يحيا السفحُ الأولُ في النار
والثاني في الجنه"
النهاية Ending) )
النهاية او الإنهاء حسب فحماوي وتد (2013) (معتمدة على مصادر اخرى) "تعني الوحدة الأخيرة التي يمكن تحديدها في العمل الأدبي: المقطع، السطر، الفصل، الصفحة، الفقرة، الجملة، وهي تشكل النهاية النصيّة الفعلية للعمل الأدبي والتي لا يجد القارئ بعدها ما يقرأه بشكل فعلي".
نهاية القصيدة جاءت على شكل سيرورة تبدأ ببيت تمهيدي سريع الإيقاع بل اكثر إنه خاطف بإيقاعه:
"والمطر التاريخ يفور
ينشقُّ القارُ
يمورُ الجذرُ
يطل الجذرْ
ينشقُّ الزفتْ
ويشبُّ الدهرْ"
وتسير النهاية مسرعة نحو الهدف الذي يعلن الخبر السعيد:
وتمر السنواتُ العشرون ، المائةُ ، الألفْ
والجذر ينام
والتاريخ ، يلفُّ ، يلفُّ ، يدور
والمطر النائم تحت الاسفلت يدور
...............................................
تنمو زهره
وابو صابر
يبسم في حضن الأرضْ
ويبوس الأرضْ."
هذه النهاية السعيدة تؤدي إلى استنتاج مُرضٍ للمتلقي وهو ما نسميه "حسن الختام" وهو ليس جزءاً من النص إنما هو عبارة عن عملية إدراكية- ذهنية عند القارئ، وكما يصفها طه(2002) حسب فحماوي وتد "نشاط ما بعد النهاية من قبل القارئ"(Post ending activity).
الموسيقى الشعرية والإيقاع
1. التكرار:
تمتاز هذه القصيدة "أبو صابر والمطر والتاريخ" بالتكرار كأسلوب تعبيري لإبراز المصيبة الآخذة بالحدوث والتضخم وتأكيدها وتكثيفها ولزيادة الترغيب في التعامل معها، لاستمالة المخاطب، لتناسق الكلام وجعله اكثر ايقاعا، للحث، لإثارة الحزن في نفس المخاطب، للتهويل وغيرها ويحدث ذلك بذكر الجملة مرتين او ثلاث مرات فصاعدا، او بتكرار الكلمة الواحدة. التكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي وبذلك يعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة التكرار والذي يمثل إحدى الأدوات الجمالية التي تساعد على فهم مشهد، صورة او موقف ما. إنه يعكس الأهمية التي يوليها المتكلم لمضمون الجمل والتعابير واللفظات المكررة باعتبارها مفتاحاً لفهم المضمون العام الذي يتوخاه المتكلم. اضافة إلى ما تحققه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه(طنوس، 2014).ونطرح بعض الأمثلة:
• تكرار الصدارة أو القافية الاستهلالية (Anaphora) وهو تكرارا للفظة الواحدة في أوائل جمل متعاقبة غرضها بلاغي كما يلي:
- بلدي(سطر1، 8)، يا بلدي(سطر7، 11). بلون (19، 20)، يحمل (17، 22) يؤمن ( 32،39 ،44 ، 59 )، صابر(68، 69، 70) لا يكفي أن(120، 121، 122) وغيرها.
• تكرار النهاية(Epiphora) وهي عكس سابقتها تكرار كلمة او مجموعة كلمات في نهاية السطر للتوكيد والإثارة، مثلا:
- يحميك الله ( الأسطر 13،14)، ألآخ(51،53)، ألأرض(92، 94، 95)، الاعماق(154،155)، يدور(187، 188)، الجذر(192، 193)، الارض(200، 201).
• تكرار توكيدي وهو عبارة عن تكرار نفس الكلمة بشكل متتابع ووظيفته هي توكيدية وتبئيرية، مثلا: ألله ألله(سطر 7)، يطل يطل(سطر 8)، تعلو 3مرات متتابعة(سطر 24)، يسأل يسأل(سطر101) لا يفهم 3مرات(سطر 104) لا ينمو جذر(168، 169) يلُّف يلُّف(187)
2. الفصل Asyndeton) )
الفصل هو عبارة عن مجموعة من الأسماء أو الأفعال وغيرها معطوفة الواحدة على الأخرى بدون أداة عطف وذلك من اجل إبراز الحزم، التوتر، التوقع، الفزع والهلع والأحاسيس الجياشة وغيرها.(اوخماني، 1979) ونطرح بعض الامثلة:
- عيناه السمراوان، يداه السمراوان
بلون السهل، بلون الاهل
بلون الفأسْ (الاسطر 18-20)
- تعلو، تعلو، تعلو ثكناتْ (24)
- والشيخ التاريخُ الأرضُ الجبلُ السهلُ العرضْ(46)
- لا يفهم ، لا يفهم ، لا يفهم(104)
- يأكل، يشرب، يلعب (118)
- يهدُرُ جرَّارٌ عملاقْ
تنخدشُ الساقْ
يسترخي غصنٌ ، يصرخُ ثانٍ
ثالثْ
تبكي الأرضُ ، تنوح زُهور البريه(147-151)
- وتمر الايامُ ، الاعوامُ ، الاقدار(170) وغيرها.
3. الفعل المضارع
الفعل المضارع هو كل فعل يدل على حصول عمل في الزمن الحاضر أو المستقبل، زمن التكلم أو بعده أي على حدَثٍ يجري مستمرّاً، نحو يتسلق، يحملُ، يؤمن، ولا بد أن يبدأ بحرف من أحرف المضارعة وهي الهمزة والنون والياء والتاء. ونشهد به حركة ديناميكية آنية نشعر بها ونسمع أصواتها. ورد في القصيدة الفعل المضارع 111 مرة مما يجعل منها قصيدة حركية وتحدث ألآن...هنا أمام ناضرنا مما يدفعنا للشراكة والتداخل.
الخاتمة
لم استغرب أن يكتب شكيب جهشان هذه القصيدة لأنني، كما عرفته، استاذي وزميلي في المهنة بعد 4 سنوات. عرفته معلما قديرا وكاتبا ومربيا عظيما. علمنا الادب العربي بكل إخلاص وتفان وخبرة ومسؤولية وغرس فينا الانتماء إلى بلدنا وشعبنا. ادهشتني هذه القصيدة وكتبت عنها لأنني اعتبرها قصيدة مركزية في شعره بالإضافة إلى "أُحبكم لو تعرفون كم!"(1988) ومطولة "أذكر"(1991)، التي قال عنها بروفسور ساسون سوميخ(1991) ما يلي: "تمثل هذه المطولة الشعرية "محطة" هامة في مسيرة شكيب جهشان الادبية، وهي مسيرة طويلة زمنياً، رفدتها موهبة شعريّة واضحة، إلا أنها ظلت سنوات طويلة تتحرك بطيئة في هدوء..." واقتبس هذا لأنني وجدت رباطا كبيرا بين قصيدة "أبو صابر والمطر والتاريخ"(1978) ومطولة "أذكر"(1991)، وكأن قصيدة "أبو صابر.." نصاً أولياً لمطولة "أذكر"، بمعنى أن الكتابة عند شكيب جهشان هي كتابة تسير في سيرورة معينة. بدأت بقصيدة "أبو صابر.." وتطورت إلى أذكر.
أعتبر أن قصيدة "أبو صابر والمطر والتاريخ" متكاملة مضمونا وشكلا جسديا وموسيقيا ايقاعيا. وأُنهي باقتباس وضعه شكيب جهشان شعاراً(Motto) لمطولة "أذكر" يدعو إلى التفاؤل:
"لا شَيءَ يستطيع أَن يُعيدَ لحظة رَونق العشب وبَهاء الزهرة، وَمَع ذلك فَلَن نَحزن بَل سَنجدُ القوة فيما يتبقى"(وليم ووردزورث)
المصادر
1. الكتاب المقدس، العهد الجديد: إنجيل متى ( 39:16)
2. المعجم الوجيز. (1998). القاهرة.
3. أُوخماني، عزرييل. (1979). المصطلحات الأدبية(أ، ب). سفريات بوعاليم. تل-أبيب.
4. جهشان، شكيب. (2013)، الآثار الشعرية الكاملة، المجلد الأول. ص 310-321. اصدار: دار راية للنشر. حيفا.
5. حجازي، يعقوب. (1978). الأسوار، مجلة أدبية فكرية، العدد الاول. شكيب جهشان: أبو صابر والمطر والتاريخ. ص 61-70. عكا.
6. سوميخ، ساسون.(1991).ظلال المعاني الكبيرة . في: شكيب جهشان: أذكر. القدس.
7. طنوس، نبيل.(2014). نصٌ أدبيٌ استنكاريٌ. جريدة "الاتحاد" الملحق الادبي، القسم الاول 12.9.2014 ص. 14. القسم الثاني 19.9.2014 حيفا.
8. عبد الواحد لؤلؤة، الموسوعة العربية. https://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=862&m=1 وللتوسع:
عبد الواحد لؤلؤة.(1980). ت. س إليوت: الأرض اليباب، الشاعر والقصيدة، بيروت.
9. فحماوي وتد، عايدة. (2013). في حضرة غيابه، تحولات "قصيدة الهويّة" في شعر محمود درويش. إصدار: مجمع القاسمي للّغة العربيّة، أكاديميّة القاسمي ومكتبة كلّ شيء. حيفا.
***********************************************************
نشر المقال في:
1. جريدة "الاتحاد" الملحق الادبي، القسم الاول 31.10.2014 ص. 15. القسم الثاني 7.11.2014 حيفا.
2. موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ملحق الاتحاد: https://www.aljabha.org/
3. موقع الموقد، موقع الثقافة والفنون:
https://www.almawked.com/?page=details&newsID=6746&cat=2
***********************************************************
ملحق القصيدة
أبو صابر والمطر والتاريخ/ شكيب جهشان
بلدي
موَّالٌ في الآفاقْ
يتسلق كل هضاب اللهْ
يُنشدُهُ الدوريُّ الاغبرْ
يُرجعُهُ الحسونُ فيكبرْ
تحضنه الآهُ وراء الآهْ
يا بلدي، الله، اللهْ
* * *
بلدي والسفحُ يُطلُ يُطلْ
والزيتوناتُ السمرُ، الفُلْ
الدفلى، حباتُ البيدرْ
يا بلدي، يا عرق الزعتر
يا عقد الطلّ
يحميك الله
يحميك الله ؟!!
* * *
وابو صابر
شيخٌ يحبو نحوَ التسعينْ
يحملُ كلَّ هموم الدنيا فوق الرأسْ
عيناه السمراوان، يداه السمراوان
بلون السهل، بلون الاهل
بلون الفأسْ
وابو صابر
يحمل كل هموم الدنيا فوق الرأسْ
* * *
في السفح الآخر من بلدي
تعلو، تعلو، تعلو ثكناتْ
بلدي وجهانْ:
الاول أسمر
والثاني اشقر
الأسمر إبنُ الجارية البلهاء
والأشقر إبنُ الساداتْ
وابو صابر
اسمرُ.. كالأرض
يؤمن أن الأسمر والأشقر سيّان
ويصونُ العرضْ
ويرى ان الإنسان أخو الإنسان
والجيرةَ فرضْ
* * *
وابو صابر
الشيخُ الزاحفُ في اصرار
نحو التسعين
يؤمن بالجنَّة والنار
ويقدّسُ حبات الطين
الوجه عتيقٌ كالتاريخ
والتجعيدة فوق التجعيدة
وابو صابر مثل جميع الفلاحين
يؤمن ان الغربة عار
والموت على أرض الأوطان عقيده
* * *
والشيخ التاريخُ الأرضُ الجبلُ السهلُ العرضْ
يحيا فرداً، شعباً
في بيتِ طينيِّ مقرور
طارت كلُّ الأفراخ
والدُّوريةُ ماتتْ
والعشُّ العامرُ، والأيامُ، ورجعُ الآخْ
وابو صابر
يرفض رجعَ الآخْ
ويرى كل العالم
كل الاحلام هنا
في حضن البيت الطينْ
والحضنُ امينْ
* * *
هذا الشيخ المهزومُ، المنتصرُ الجبّار
يؤمن أحياناً ان الدنيا
دولابٌ دَوَّار
عاصر ايام الطاعون، الجوع الأصفر
راحتْ
والسفن الماخرةُ الدنيا
بالصَّلَف البحريِّ الأشقرْ
إنكفأتْ خلف شواطئها...
والحبلُ على الجرار ؟!!
* * *
وابو صابر
صابر
صابر
صابر
ويعيش على الأمل الحبِّ، الاصرارْ
* * *
يجلس في الصيف على العَتَباتْ
يروي للناس الاخبار
ويوزِّعُ في الأفق الآهاتْ ؟!!
يعتز كثيراً بالارضْ
بالزيتونات الخمسْ
الأولى لم يزرعها الا امسْ
"والنصبةُ" مثل عروس البحر
"والعَمَرية" ...أمُّ الحبات الدرّ
"والروميةُ" اخت الدهر
والخامسةُ الشمّاءُ، الشمّاءْ
في رأي أبي صابر
عربيه
ولدت في رحم التاريخ
ونمت، والنخلَ، على كتف الصحراءْ
* * *
في هذا السفحْ
تنتصب الزيتوناتْ
في السفح الآخر
تنمو ثكناتْ
وابو صابر
يخرج في الصبحْ
ينفُضُ كل هموم الارضْ
تحت "العربيه"
ويرى التاريخَ، يشمُّ الأرضْ
ويبوس الأرضْ
* * *
والسفحُ الآخرُ يكبرُ
والثكناتُ الأهراماتْ
تعلو
والسفحُ الاولُ يصغرُ
وابو صابر
يسألُ ، يسألُ ، كل نهار
لا يفهم كيف يحلِّقُ سفحٌ واحدْ
والثاني ينهار
لا يفهم ، لا يفهم ، لا يفهم
والحيرةُ نار
* * *
يا رب الكل
إحم الزيتونات الخمس
اعبر عني
هذي الكأسْ
* * *
في يوم نيسانيِّ أخضر
قتلوا نيسان
صدر الامر
ابناء الثكنات الزرقُ الصفرُ ،
النوعُ الارقى
يخنقهم جوُّ الثكنات
فالنوع الأرقى
حتى يحيا
يأكل ، يشربُ ، يلعب
* * *
صدر الامر
لا يكفي ان تحيا في ثكنه
لا يكفي ان تسمع في كل صباح موسيقى
لا يكفي ان يحيا السفحُ الأولُ في النار
والثاني في الجنه
حتى يرتاح الجنديُّ الفاتحُ كلَّ الدنيا
افتتح البارَ
وهيءْ للجندي الملعبْ
* * *
صدر الامرْ
ينهار التاريخ على قدمٍ همجيه
تقعُ الغرسةُ
ألنصبةُ
ألعمريّه
الروميّه
ويُلم ابو صابر
كلَّ عذابات التسعين
يحمي بالصدر
يحمي الأخت (( العربيه ))
* * *
يلتفت الجنزير الأولْ
يُكسر
الثاني
يُكسر
الثالث
الرابع
العشرون
ينهزم الجرَّار الاول
الثاني
الثالث
يهدُرُ جرَّارٌ عملاقْ
تنخدشُ الساقْ
يسترخي غصنٌ ، يصرخُ ثانٍ
ثالثْ
تبكي الأرضُ ، تنوح زُهور البريه
والعربيّه
تصمد
تضرب في الأعماق
في اعماق الأعماق
ينفعل الجرّار العملاق
يلتف الجنزير التاسعُ بعد العشرين
تنخلع الساقْ
تندب كلُّ الآفاق
تنهار السنوات التسعون
السنوات الألف ، الالفان ، العشره
* * *
صُبّوا الاسفلتْ
حتى يرتاح الجنديُّ الفاتح كلَّ الدنيا
القاهرُ كلَّ الأمصار
صُبُّوا الاسفلت القار
وبأمر الرب
لا ينمو جذر
لا ينمو جذر
* * *
وتمر الايامُ ، الاعوامُ ، الاقدار
والثكنه تكبر والزفتْ
والموتُ الاصفرُ والنار
والملعب يكبر ...
والهاماتُ المكسوره
تصغُرُ ، تصغُرُ حتى العارْ
والجذرُ النائمُ
يحلم بالتاريخ
وبالمستقبل
والأزهارْ
* * *
وابو صابر
يغفو في حضن الأبديّه
يحلم بالغرسه
بالنصبة بالعمريّة بالروميّه
يبكي الاخت العربيّه
* * *
وتمر السنواتُ العشرون ، المائةُ ، الألفْ
والجذر ينام
والتاريخ ، يلفُّ ، يلفُّ ، يدور
والمطر النائم تحت الاسفلت يدور
والسنوات الالف الالفان العشره
والمطر التاريخ يفور
ينشقُّ القارُ
يمورُ الجذرُ
يطل الجذرْ
ينشقُّ الزفتْ
ويشبُّ الدهرْ
* * *
وعلى القبر المهجور من السنوات الالف
الالفين العشره
تنمو زهره
وابو صابر
يبسم في حضن الأرضْ
ويبوس الأرضْ.
1977