(قبل البداية، ها هو خبرٌ شبهُ عاديٍّ، مخادِعٌ ككلِّ الأخبار، أو هو فانوسٌ للطّريق مضاءٌ باليَراعة أو سِراجِ الّليل:
"تشوري" هو اسم التحبُّب، أو الاختصار، لجَسَدٍ كونيٍّ يطلِقُ أحياناً ذَنَباً من الضوء حين يقتربُ من شمسِنا، جرّاء تبخُّرِ غازاتِهِ الجليديّة. فهو، لذلك، مُذنَّبٌ. والشمسُ، حينما تغضَبُ، تحرِقُ ذنبَ العصفور وتُطلِقُ ذنَبَ النجمةِ وجناحَ الكوكب.
عرضُ تشوري بضعةُ كيلومتراتٍ وطولُُه بضعُ عشراتِ الكيلومترات. وهو يشبِهُ البطّة ويُفرِزُ روائحَ تشبِهُ رائحةَ البيْضِ الفاسدِ وروْثِ الحصانِ وبعضِ العناصر الكيميائيّة التي لا نُتقِنُها.
وهو يبعدُ الآن حوالي خمسمئة مليون كيلومترٍ عن أمِّنا الأرض وحوالي مئةٍ وثمانين مليونِ كيلومترٍ عن شمسِنا.
و"فيلاي" هي مِسبارٌ، أو طائرةٌ فضائيّةٌ صغيرةٌ، هبطت عصرَ الأربعاء، الموافق 12.11.14, وفق توقيتِ القدس، على سفحٍ مُنحَدِرٍ من سفوحِ تشوري.
وفيلاي الصغيرةُ انطلقت ِمنْ، ومِنَ المؤمَّلِ أن تعودَ إلى، المرْكبَةِ الفضائيّة الأوروبيّة الأم "روزيتّا".)
هنا نختتمُ النبأ.
أما بعدُ،
وأمّا قبلُ،
قبلَ قليلٍ، في السّاعة الثانيةَ عشرةَ عندَ منتصفِ الّليل، في الدقيقةِ التي ضحِكتْ فيه ساحراتُ ماكبث(١)على بِساطِ القشِّ والأمونيا وخلطْنَ الشرَّ بالخيرِ، والقُبحَ بالجَمال، والدماءَ المالحةَ بمياه المحيطِ المالحة؛
في الدقيقةِ التي سقطَ فيها حذاءُ سندريلَّلا على قلبِ الأميرِ الصّغيرِ وجرَّهُ إلى نهايةِ العِشْقِ السَّعيد؛
وفي اللحظةِ التي يكتملُ فيها القمرُ ويعوي الامبراطور "كاليجولا"(٢) على لونِ الفضّةِ وينطلقُ الذئبُ من جلدِ ابن آدم؛
قبلَ قليلٍ، في تمامِ التقاءِ عقربِ الساعات بعقربِ الدقائقِ وعقربِ الثواني في قمَّةِ ساعةِ الحائط؛
في اللحظةِ التي ينتهي فيها البثُّ في مذياعٍ قديمٍ بموّالٍ قديم؛
في اللحظةِ التي يصحو فيها شعرُ الذَّقنِ ويبدأُ في التأهُّبِ لحِلاقةِ الصباح؛
وفي اللحظةِ التي يتسابقُ فيها العشّاقُ إلى التهنئةِ بيومِ الميلادِ ويتبادلونَ القلوبَ الحمراءَ والورودَ الافتراضيّة؛
قبلَ قليلٍ، في منتصفِ اللّيل، حين تدقُّ ساعةُ "بيغ بِن" الدّقَّةَ الرابعةَ والعشرين؛
في اللحظةِ التي تكونُ فيها الأمّهاتُ قد نقلنَ أطفالهنَّ من حضنٍ إلى كومةٍ مُبعثرةٍ من الأحلام؛
في اللحظةِ التي ينتصفُ فيها النهارُ في الجهةِ المُوازيةِ من الكرة الأرضيَّة؛
في اللحظةِ التي تغتسلُ فيه شجرةُ استوائيةٌ على رذاذٍ دافئٍ تحت شمس الظهيرة؛
وفي اللحظةِ التي يهبطُ فيهِ الوحيُ على الأنبياءِ والشعراءِ والكابوسُ على الأشقياءِ والبؤساء.
قبل قليلٍ، عند منتصف اللَّيل هنا أو منتصفِ النَّهار هناك، أو على مقربةٍ منهما، بالضبطِ قبلَ أكثر من أربعةِ مليارِ وستمئة مليون عامٍ، وقعَ الانفجارُ(٣).
وانتثرَ النُّثارُ.
وما زال ينتشرُ الغبارُ.
وفي زمنٍ بعيدٍ، عندَ الساعةِ السادسةِ مساءً بالتقريب، يوم الثاني عشر من نوفمبر للعام ألفين وأربعةَ عشرَ لميلادِ السيّد المسيح وفقاً للتقويم الغريغورياني؛
التاسعِ عشر من شهْرِ مُحرَّم لسنةِ ألفٍ وأربعةِ مئةٍ وستٍ وثلاثين هجريّة؛
يومَ "يودْ. طيتْ" من شهر حِشْوان سنةَ "هتِشعاهْ"، تافْ شينْ عين ألِف ها، وفقاً للتقويمِ العبري، حسَبَ توقيتِ الأرضِ المُقدَّسة، بين منتصف النهار ومنتصف اللّيل،
أو عند السّاعة السادسةِ صباحاً وفقَ توقيتِ الأمازون، بين منتصف الّليلِ ومنتصفِ النهار هناك،
حطَّتْ آلةٌ ظريفةٌ من المعادنِ والأمواجِ، على سفحٍِ من رائحةِ البيضِ الفاسدِ وروْثِ الخيولِ.
قيلَ لنا إنّ اسمَ الآلةِ "فيلاي"، وهي ابنةُ "روزيتّا" الشقراء ذاتِ الوجنتيْن المرتفعتيْن والأنفِ الشامخِ والمُدبَّب، وتختلطُ فيها دماءُ الجِرمان والأنجلو ساكسون والسّلافيين والآريّين والأندلسيين.
ولفيلايَ ما يكفي من العيونِ لكي نرى، ومن الأنوفِ لكي نشمَّ،
ومن المجسّاتِ لكي نُحِسَّ بنبضِ قلوبِنا،
ومن المخالب ما يكفي لخدشِ وجنةِ ذَكَرِ البطِّ الكونيِّ،
واقتلاعِ ريشةٍ تطردُ القيظَ عن وجوهِنا المُستعارة.
وقيلَ لنا أيضاً، ونحن إمّا أننا نصدِّقُ أو لا نصدِّقُ، إنَّ اسمَ ذكرِ البطِّ "تشوري". وهو، وفقاً لمن لا يتعاملُ بالمجازِ والاستعارة، كومةٌ من الغبارِ والغازاتِ المتجمِّدة، في حجمِ الجبلِ الأسود، "مونت بلان".
وتشوري يُعاني من الوحدةِ القاتلةِ ويبحثُ، في نظرِ العازبينَ والعازباتِ والمُرتحلينَ والمُرتحِلات، عن صدرٍ حنونٍ وأنفاسٍ في الأذنِ وعن موطئِ قدمٍ وفضاءٍ ثابتٍ لجناحيْهِ، يريحُهُ من قلقِ التَّرحالِ والعَرَقِ الجليديِّ.
وقيلَ، ممّا قد يُصَدَّقُ أو يُكذَّبُ، إنَّ "تشوري" يكونُ، حينَ يعودُ من غيباتِهِ الطويلةِ كسائرِ العازبين، على بعدِ ضربةِ ستٍّ وأربعين دقيقةً ضوئيّةً عن أرضِنا، أو ضربةِ حجرٍ إلٰهيٍّ من سجِّيلٍ(٤)أو غيرِ سِجّيلٍ على طولِ نصفِ مليارِ كيلومترٍ، أو على بعدِ قُبلةٍ من قلبٍ إلى قلب.
والآن، في هذا الوقتِ الذي نواصلُ فيه إساءةَ حسابِ الوقت، يواصلُ الكونُ تثاؤباتِهِ وتتَّسِعُ ثيابُهُ ذاتُ الشكل البيضويّ.
والبيضةُ، كما تعلمون، تعصى على القياسِ.
تشوري، يا أيّها البَطُّ المُذَنَّبْ.
هل تراني، ها أنذا هنا،
ساكنٌ في جوفِ كرسيٍّ.
نافذتي مصوّبةٌ إليكَ
في غرفةٍ بلا مرايا،
في بيتٍ مُكعَّبْ.
تشوري، يا أيها الطيرُ المُعذّبْ،
هل تراني، ها أنذا هنا،
في آخرِ الشارعِ العشرينَ
فوقَ أرضٍ رماديّة
تحتَ ريحٍ رماديّة
بينَ البيوت الرماديّة
عند القرى الرماديّة،
قربَ مدينةٍٍ تبحثُ عن لونِها،
في وطَنٍ مُعلَّبْ.
تشوري، يا أيُّها الشكلُ المضبَّبْ.
لك مني هديّة
ومنتجَعٌ خالدٌ،
فأهلاً قدِمتَ ووطِئْتَ سهلاً.
صحراءُ نيفادا دافئةٌ في النهارْ
وربعُنا الخالي في انتظارْ،
ولكَ بلادُ البطريقِ من ثلْجٍ مُذهَّبْ.
لكنَّ تشوري شاردُ الذهنِ، ويغطُّ في فراشٍ من الصقيع.
هو يعرفُ أنَّهُ سَقْطُ الغُبارِ، ويرى أبعدَ من منقارِه.
وهو يعرفُ أنَّ أرضَنا الإهليليجيّة(٥)، بجبالِها وسهولِها ومحيطاتِها وحيتانِها وحساسينِها وأبراجِها وأبطالِها، هي أقلُّ من حبَّةِ غبارٍ في هذا الكونِ المتثائب خارجَ لا نهايتِهِ.
لكنّهُ لا يعرفُ أننا الآن، في هذا الوقت الذي نواصلُ فيه إساءةَ حسابَ الوقتِ والمكان، نتقاتلُ
على حجرٍ عتيقٍ
في زقاقٍ عتيقٍ
في مدينةٍ عتيقةٍ
في بلدٍ عتيقٍ
في قارّةٍ عتيقةٍ
في كوكبٍ يساوي أقلَّ من هَبْوةٍ(٦)
في كونٍ رضيع، ما يزالُ يحبو.
وتشوري، الطيرُ المُذنَّبُ، لا يجيدُ الكلام. لكنَّهُ، قد يتمنى لنا أن نجمعَ الألسنَ التي تبعثرتْ عند بابل(٧)،
وأن نرى أبعدَ من عُقدَةِ الحاجِبيْنِ،
وأن نشعرَ بأكثرَ من حكَّةٍ على أرنبةِ الأنف.
إضاءات:
١. ساحرات ماكبث يلتقين في الحظيرة ويفتتحنَ مسلسلَ القتل الذي يتورَّطُ فيه ماكبث، بطلُ مسرحية شكسبير الشهيرة.
٢. الامبراطور الروماني كاليغولا، سفّاحٌ بامتياز، كان يأمرُ القمر بالنزول إليه ويُقالُ إنَّهُ كان يعوي على القمر، مثل الذئاب.
٣. الانفجار الكبير، وفق أشهر النظريات، هو الانفجار الذي تشكّلت منه المجرّات والكواكب وما زالت تتشكّلُ.
٤. حجارةٌ من سِجِّيل، حجارةٌ صلبَةٌ وشديدة (كلمة فارسيّة) التي ضربَ بها الله الكفّارَ المعتدين (قرآنٌ كريم).
ه. الإهليليجيّة =البيضويّة.
٦. الهَبْوةُ هي حبَّةُ الغبار أو الغَبَرةُ، التي تلمعُ في الضوء. والهباءُ هو الغبارُ اللامع.
٧. بلبلةُ الألسن، بعد أن أسقطَ اللهُ برج النّمرود في بابل (توراة).