(تشخيصاتٌ ومقترحاتٌ أوّلية)
ما حدثَ في قرية أبو سنان ليلَ الخامس عشر من الشهر الجاري هو مظهرٌ واحدٌ من مظاهر العنف القبليّ، الجسديّ والكلاميّ، التي قد تنفجرُ في وجوهنا في كلِّ لحظةٍ ومكان. وما تفاجأنا، بكلِّ أسف.
غيرَ أنَّ هذا المظهر أو هذه المظاهر، التي طفت على السطح في أكثر من مناسبَة وقد تطفو على السطح في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ موقعٍ، تُخفي تحتَها محيطاً من الاحتقانات والعصبيّاتِ المذهبيّةِ والطائفيةِ والعائليّةِ والقبليَّةِ، مما قد يؤدّي إلى انفجارٍ يأكلُ الأخضرَ واليابس.
مما لا شكَّ فيه أن هنالك سلسلةً طويلةً من العوامل التي ساهمت وتساهمُ في تأجيجِ هذه العصبيّات، وعلى رأسِها اعتمادُ الشرطة والسلطة المركزيّة سياسةَ "فرّق تسُدْ" و"فخّار يطبّش بعضُه"، ومناخ العنصريّة والتحريض العام على أعلى المستويات، وأصداءُ المجازر التي تُرتكبُ في دول المنطقة والتي تنفّذُها أو تؤازرُها الكثيرُ من الأنظمة وتشاركُ فيها تنظيماتُ سلفيّةٌ وغيرُ سلفيّة، وتواطؤُ دولٍ عظمى عالميّة، أو دولٌ ذاتُ مطامع إقليميّة، مع الفوضى العارمة، أو مساهمةُ هذه القوى في تدبيرِ الفِتن أو إذكاء النيران.
ومما لا شكَّ فيه أيضاً أن لوسائل التواصل الاجتماعي، ومنها الفيسبوك والتويتر والأجهزة المتقدمة، دوراً في جرِّنا إلى هذا الدّرك الأسفل وتهديدِ مجتمعنا كلِّهِ، بكلِّ طوائفِهِ وأطيافِهِ، بالانهيارِ والدَّمار. فكلُّ فتى،أو فتاة، يستطيع، اليوم، أن يتحوّلَ واحدُهما إلى كاتبٍ ومحرِّضٍ وداعيةٍ إلى القتال، عبر شاشتِه الصغيرة. ويستطيعُ كلُّ عابثٍ أن يثير الفتن، سواءً بالتعرض للأعراض أو بشتم هذا النبيِّ أو ذاك. ويستطيعُ كلُّ مُغرِضٍ أن يعمِّمَ الافتراءات وأن ينسجَ المكائدَ، عبرَ جهازِه الخليويّ.
من السهلِ أن نتّهمَ، حتى وإن بحقٍّ، المخابراتِ الأميركية أو إيران أو أردوغان أو المملكةَ َالسعودية أو قَطر أو حكومة نتانياهو وغيرَها من الأطراف الدوليّة والقُطريّة بالمسؤوليّة عمّا يجري عندنا أو بالمسؤوليّةِ عن وقوفِها موقف المُتفرج. لكن، ما هي مسؤوليتنا؟
إنَّ الوضعَ الراهن، والمخفيُّ فيه أخطر ُوأعمقُ ممّا طفا على السطح، هو وضعٌ استثنائيٌّ. والوضعُ الاستثنائيُّ يحتاجُ إلى خطواتٍ استثنائيّة، سواءً على المدى القصير أو على المدى الطويل. وبكلِّ الأحوال، لم يعدْ بإمكاننا التهرّبَ من مسؤوليتنا عن الوباء الذي يتفشى بيننا أو الاكتفاء باتهام الغير وببعض الخطابات والبيانات والمجاملات والعناقات.
قمت، مساء أمس، برفقةِ مجموعةٍ من المشايخ ورجالات المجتمع، بزيارةٍ إلى قرية أبو سنان، والتقينا رئيسَ المجلس المحلّي ومجموعةً من القيادات القطريّة. وكانت لي، قبلئذٍ وبعدئذٍ، اتصالاتٌ مع عددٍ من قادة المجتمع العربي، بكلِّ طوائفه. والحقيقةُ أنَّ أوساطاً واسعةً، قياديينَ سياسيينَ ودينيّين، دفعت بنفسِها لتساهمَ في تهدئةِ الخواطر وعقد راية الصلح. ونرجو ونتمنى، من جهتنا، أن يتمَّ ذلك في أسرع وقتٍ وأن يتماثلَ الجرحى للشفاء العاجل والكامل.
تهدئةُ الخواطر وعقدُ رايةِ الصلح هما من الأمور المستعجلة، التي لا غنى عنها والتي تحتلُّ، بدون شكٍّ، رأسَ سُلَّم الأولويّات من حيثُ التوقيت على الأقل. ومن المهم، وهو ما قلناهُ للقيادات المحلية والقطرية التي تسنى لنا التحدث معها، أن تشاركَ في الصلح جميعُ القيادات والشخصيات القيادية، الدّينيّة والسّياسية، وأن تتوجَ موقفَها ببيانٍ مشتركٍ وليس ببياناتٍ متفرّقة. كذلك من المهم أن يشاركَ في هذه المساعي مجملُ القيادات المحلّية والدينيّة والسياسيّة والمنظماتُ غير الحكوميّة، بدون أية حسابات حزبيّة أو انتخابية ضيّقة.
غيرَ أن مواجهةَ الأعاصير لا يمكن أن تتكلَّل بالنجاح، لا بالبيانات ولا برايات الصلح وحدَها. فالوضعُ غيرُ الاستثنائي يستلزم سلوكاً استثنائيّاً، غير عاديٍّ، على امتداد السنين، وعلى رأس ذلك:
١. إقامةُ هيئةٍ تمثيليّة، من كل الطوائف والمذاهب والأطياف، تجمعُ القيادات السياسية، الرسمية وغير الرسمية، والدّينية والاجتماعية، الرسمية وغير الرسميّة، والمنظمات غير الحكوميّة الفاعلة. ومن المهم أن تبلورَ هذه القيادات ميثاقاً مشتركاً، بروح الاحترام المتبادل ونبذ كلِّ صوتٍ يدعو إلى التشرذم أو يسيء إلى الغير أو رموزه.
كذلك، يجدر بهذه الهيئة التمثيلية، أن لا تنتظر الحرائق لإخمادِها، وإنما أن تبادرَ إلى نشاطات مشتركة، ومنها إصدارُ نشرات دوريّة، لتعميقِ روح التسامح واحترام الآخر وتعميق الروح الجمعيّة لجميع الأطياف.
٢. وضعُ مسألة التسامح والاحترام المتبادل، وبالمقابل نبذ العصبيّات والقبليّات، على رأس سلّم الأولويّات، وخصوصاً أولويّات أعضاء البرلمان والأحزاب والسلطات المحلّية، قبل القضايا السياسيّة والاقتصاديّة وقضايا الحرب والسلم والنظام العالمي، وترجمةُ ذلك بفعاليات تربوية وتثقيفية مشتركة، تجمعُ ممثلي وجمهور كل الأطياف، سواءً في القرى والمدن المختلطة أو في غيرها.
٣. المسارعة إلى سلسلةٍ من النشاطات، بمشاركة ممثلين وقياديين سياسيين ودينيين واجتماعيين وتربويين محليين، وبدون محسوبيات، وبمشاركة من الهيئة التمثيلية العليا. ومن المهم أن تقامَ نشاطاتٌ متنوعة، دوريّة، وبإدخال وسائل وأشكالٍ جديدة من شأنها ضمان مشاركة الجمهور الواسع.
٤. تكثيف النشاطات المشتركة في المؤسسات التعليميّة، وتوسيع نطاق النشاطات غير المنهجيّة، خصوصاً في القرى والمدن التي يعيشُ فيها أبناءُ أكثر من طائفة، ولكن مع الحرص على لقاءات بين أبناء جميع الطوائف أيضاً في القرى والمدن التي يعيشُ فيها أبناءُ طائفة واحدة, وذلك من خلال زيارات متبادلة.
٥. تعميق مفهوم المسؤولية الفرديّة، بمعنى التوقف عن "الفزعات" وسياسة "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ونبذ كلِّ من يدعو إلى التميُّز والاستعلاء على الآخرين. وهذه المهمّة هي على عاتق الهيئات القطريّة والمحلّية.
٦. رفضُ جماعيٌّ ونبذُ كلِّ من يتعاملُ مع التحريض المذهبي والديني والعائلي، بشكل مباشر أو مواربة، خصوصاً فيما يتعلق بالانتخابات القطرية أو المحلية. وهذه المهمة أيضاً ملقاةٌ على الهيئات القطرية والمحلّية، ومن المهم تضمين هذا المبدأ في إطارِ ميثاقٍ موحّدٍ وجمعيّ.
٧. العمل على الإرشاد والتوعية فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك إشراك الأهالي وأولي الأمر فيما يكتب أبناؤهم وبناتُهم. وهي مهمةٌ شاقّةٌ، طويلةُ الأمد، وتحتاجُ إلى تخصيص المجهود الخاص، من الهيئة القطريّة والهيئات المحلّية.
وآخراً وليس أخيراً،
٧. إعادة النظر في بعض سلوكيات القيادات السياسية، الحزبية وغير الحزبية، وعلاقاتها بعض ببعض وإهمالها القضايا المجتمعيّة وقضية الانتماءات الجمعيّة، وإعادة النظر في سلوكيات ونهج بعض الهيئات والتنظيمات الدينية.
ويجدرُ بالهيئة القُطريّة والهيئات المحلية أن تبحث هذا الموضوع بكل شفافية، والتوقف عن كلِّ ما من شأنِه أن يؤدي إلى خسارة المجتمع وتمزّقه، من أجل توسيع رقعة التأييد لهذا الحزب أو ذاك أو لهذه الهيئة أو تلك.
مرّة أخرى نعود ونُحذّر بأن الوضعَ غيرُ عاديٍّ، ويحتاجُ إلى خطوات غير عادية، ولمدى طويل. وهذه الخطوات تشمل، كما أسلفنا، تغييرات جدّية في السّلوكيات وتغييرات جذرية في سلَّم الأولويّات وإطاراً جمعيّاً، يكون قدوة للمجتمع، ويعمل على مدار الساعة ولا يكتفي باتهام الغير أو ببعض المواعظ العابرة.
إن كانت هذه المقترحات مقترحاتٍ أوّليّة، فإنّ الواجب يدعونا، بدون تأجيل، أوّلاً إلى إدراك أن الأزمنة تغيّرت كثيراً مما يستوجبُ تغييراً في التعامل معنا ومعها، ويلزمُنا أن نرى الحقيقةَ القبيحة، بأننا مهدّدون بأعصار.
فما شهدناهُ إلى الآن هو زوابعُ مؤلمة. ولكن، في مواجهة الإعصار نحتاجُ إلى أكثر من شمسيّة.