التقيت الرجل هكذا صدفة وعلى غير معرفة ودون سابق إنذار أمام دكان لبيع السجائر، وفاجأني إذ قال: أنت فلان... صحيح ؟!
أجبت: نعم !
وما كدت، حتّى سألني هكذا دون مقدمات ولا استئذان: هل سمعت عن عرب الرّمَاضِين ؟
ولم يعطني الفرصة أن أجيب كاشفا عن جهلي أو حتى أن أسأله عن اسمه، وكأن ليس هذا المهم في الأمر، و-"على الواقف" بادرني: اسمع...وراح يروي:
لم يُعرف حتى اليوم ما الذي جعل حمار هوّاش المرهج ابن الرماضِين، أن يقطع رباطه ويترك الزريبة في ذلك الصباح الباكر ويقتحم أراضي المستوطنة الجارة متخطٍ الأسلاك الشائكة، حاطّا حياته على كف حافره. وربما لبقيّة في حياته، أو لأن الله ستر، لم يلقَ حتفه على الأسلاك رميا بالرصاص لاحقا الكثيرَ من أبناء جلدته الذين دفعوا حيواتهم لمثل هذا الشطط، فقد كان الحمار لحسن حظّه عاريا من جُلّه أو جِلاله كقولكم في شمال فلسطين، ولولا ذلك لظنّ الحراس في حشوة جلاله الظنون وكان دفع حياته ثمن شططه هذا، ويد حرّاس المستوطنة خفيفة على الزناد مع الناس فكم بالحري مع حمار يدوس على وهرتهم ويدنّس حرمة حماهم.
دخل محدثّي القصّة هكذا من أوسع أبوابها معتقدا على ما يبدو أني ضليع بأسماء القبائل من أبناء شعبنا، ويبدو ولأن الفاتحة أخذتني لم أشأ أن أوقفه في انطلاقه، لكنه استدرك من تلقاء نفسه وعرّج عنها:
عرب "الرماضِين" هم عرب ككل عرب بلادنا أحبّوا الفضاء الواسع وعاشوه، إلى أن استكثرته عليهم الدولة فقاسمتهم إياه تنفيذا للوعد الإلهي لأهلها، متكرّمة ببقعة حشرتهم فيها جنوب شرق مدينة قلقيلية قريبا من الخطّ الأخضر، الذي كرهناه حتى العظم مرّة ونموت اليوم حبّا به حتى نخاع العظم، وليس قبل أن زرعت حصتها الإلهيّة والأكبر طبعا، في هذا الفضاء بمولودة أسمتها "ألْفِي مِنَشِّه".
على كلّ وعلى ذمّته:
تكرّم أهل ألفي مِنَشّه انطلاقا من إنسانيتهم وحقّا للجيرة وبإيعاز من الدولة، بأنبوب مياه مع عدّاد، يتقاسم "الرماضِين" ما يصلهم منه من مياه لا تسدّ الرمق إلا لماما من عين الرّماضِين، ويدفعون الأثمان لمجلس المستوطنة بواسطة وكيل منهم ائتمنوه اتفاقا متعهدا ألا يظلم أحدا لا في التخصيص ولا في الدفع، وياما أحتاج إلى كلّ طاقاته ليقنع "الرّبْع" أن انقطاع المياه المتكرر ليس لذنب ارتكبه في حق الأمانة.
صحيح أن الأنبوب يسوق المياه من عين "الرماضِين" التي اتخذت اسمها من اسمهم أو العكس والله أعلم، ولكن العين "طلعت في القسمة" هكذا قضاء وقدرا ولسوء طالع ربّما، من نصيب أهل ألفيه منشّه، وهذا الرابط التاريخي بين اسمهم واسم العين لا يقلّل من قيمة المكرمة التي اجترحها أهل الجارة الجديدة إنسانيّا وحقّا للجيرة تجاههم.
حقيقة حيّرتني لهجة محدّثي في كلامه وجعلتني أتنازل مؤقتا عن "بنت الرئيس والحمار"، آخذا الأمر مني جهدا ليس بقليل كي أعرف إن كان يطلق هذا الكلام جادّا أو سخريّة أحدَّ من سخرية الأقدار، لكني وبعد أن شردت رسوت في النهاية على أن محدّثي جدّي كل الجدّ بسخريته المخلوطة برزانته الظاهرة في الكلام، لكن دون أن أفقه لا حينها ولا اليوم ممّن يسخر جادّا، ويبدو أن محدثّي انتبه إلى شرودي، فصمت.
تابع محدّثي وليس قبل أن يعطيني الفرصة لأعود وانتباهي:
أمّا اسم العرب وعلى ذمّة أهل اللغة فهو من صيغ الجمع الكثيرة لرمضان، ورغم ذلك لم يشفع لهم اسمُهم حين بلاهم حمارٌ من لدنهم، لا عند ذوي قرباهم العرب ولا عند جيرانهم المستوطنين اليهود.
المهم في الحكاية أنه ورغم الاجتهادات الكثيرة، لم يُعرف حتى اليوم سرّ قطع الحمار رباطه وترك الزريبة والدخول إلى المستوطنة، وبعد أن نفوا اشتهاءه لخضرة حدائق المستوطنة إذ لم يكن هواش المرهج بالبخيل على حماره وهو معوانه المخلص. قال البعض أنه ربّما حنينا لمراتع "كرِّيَتِه" في الأراضي التي وُلد ونما فيها إلى أن صار جحشا، وبعض آخر ذهب إلى أنه لا يمكن كان أن ينجح بقطع رباطه من المرس المتين لولا أن دافعا قوّيا دفعه وهو في عزّ فحولته من رائحة أتته عن بعد أو نهيق شجيّ نبّه أسماعه يستأهل منه هذه المخاطرة.
ما صعّب على هوّاش المرهج وربعِه معرفة السبب، أن الحمار لم يصل إلى هدف معيّن يعينهم على الخُلاصة، ولم يكن حبّ المعرفة هذا ناتجا عن رفاهيّة في الاجتهاد المعرفيّ وإنما لما سبّبه لهم هذا الخروج غير الناتج عن إهمال من قبل هوّاش بعد أن ثبُت أنه كان شدّ الوثاق، وكل ذلك ليس قبل أن يعود الوكيل بالحمار.
فقد أفاق عرب الرَّماضِين ذلك الصباح على انقطاع المياه في بيوتهم دابّين الصوت على الوكيل وظانّا البعض فيه الظنون، رغم أن بعض الظن إثم، أن يكون تصرّف في أثمان المياه ولم يوصلها إلى مجلس المستوطنة. وكالمطلوب منه إثبات البراءة أقسم الإيمان الغليظة أن الأثمان مدفوعة ل-"آخر بارة" ومع وصولات إثبات، ولأن خيانة الأمانة ليس بالأمر العرضيّ وصك براءته في المستوطنة، يمّم نحوها حاثّا الخطى والقوم يرقبون وفي الانتظار.
ما كان لانتظارهم أن يطول كثيرا لولا أن الدخول إلى المستوطنة مهمّة ليست بالسهلة وبحاجة لاتصالات وموافقات وفحص وتدقيق. وأخيرا وبعد طول انتظار طلّ الوكيل عن بعد جارّا وراءه حمارا ببعض ما تبقى من رباطه المقطوع والحمار "يَعْرُج"، ودون سابق إنذار انبرى من بين القوم هواش المرهج وقد اشتبه في أن الحمار القادم حماره، وما كاد يصيح: "هذا الِمَّلْعَنْ حماري... وكفانا الله الشرّ"، حتّى حطّت عليه كلّ العيون.
ولأن محدثّي اعتبرني على ما بدا أني لا أفهم في الحمير، خرج عن النص قائلا:
و-"الِمَّلْعَن" هذه "دعوة" بالسوء على الدواب اعتمدها الفلاحون حين يغضبون على دوابهم وفي الكثير من الأحيان لا بل في غالبها لا لذنب ارتكبته الدواب وإنما "قصر ذيل يا أعور" فياما راحت عجولنا ضحايا عدم قدرتنا على الثيران. المهم أن أصل "الِمَلْعَن" في مخص يصيب بطون الدواب، سمَّوه "الملعون" كما نسمّي اليوم نحن السرطان "المرض الخبيث"، فما أن يغضب أحد على دابّته حتى يدّب في ظهرها: "ملعون يْمَلِعْنَك"، ولكن ما أن تُصاب به وبغض النظر عن لعنته إياها في ساعة غضبه، حتى يروح والهمّ راكبُه "دابّا الصوت" على ربعه مفتشّا عن بعض ملح إنجليزي ليصنع منه "شَرْبِة" يدلقها في حلق الدابّة المنبطحة غصبا عنها وسريعا وما أن تصل الشربة أمعاءها حتى تتفاعل مع ما فيها فتُفرغ ما في بطونها فترتاح، وإن لم يجد فيكون عوضه على الله، فالملعون سريع أخذ حيوات الدواب.
طبعا هوّاش المرهج وبغض النظر عن لعنته الحمار راح يحث الخطى لملاقاة الوكيل الذي كان قارب أن يصل، والكل في انتظار ما عاد به، وراحت هباء كل محاولات هوّاش فيما تبقى من مسافة للوصول، أن يعرف من الوكيل شيئا تحسبّا وخوفا على حماره وقد رآه مصابا ودمه يسحّ من صدره وإحدى قائمتيه الأماميّتين، ويدبّ على ثلاث.
لم يُعط الوكيل فرصة لالتقاط أنفاسه وانهالت عليه الأسئلة من كلّ صوب خصوصا وإنه ذهب ليأتيهم بالمياه فأتاهم بحمار، لم يصمت القوم إلا بعد أن رفع يده إشارة لهم بالصمت، وراح يحكي:
"الحمار عمل حادث طرق مع سيّارة بنت الرئيس... صدم السيّارة... السيارة جديدة جايبها الرئيس لبنته على عيد ميلادها وما لحقت تفرح فيها... وتضررت... والله يستر وتطلع سليمة مع البنت... مع أني شفتها زيّ الشيطانة... وطعمتني كم مسبّة من قاع الدست... وهذا عقابنا على راي الرئيس ..."
ليس المهم ولم يعد هذا مهمّا، والحالة هذه، أن يُعرف لماذا فعلها حمار هواش المرهج، المهم أن هوّاش وحماره أكثر منه وبعد أن ثبُتت مسؤوليّته، علقا علقة ساخنة وإن اقتصرت على الكلام المرّ والملامة الحارقة، خاف البعض العاقبة إذ راح هوّاش يدرأ عنه وعن حماره التهمة بشراسة، وعلا الهرج والمرج وقارب الاشتعال لو لم يوقفه صياح عاقل: "اعقلوا يا قوم... لمتى بدنا نظل نحمل الحمير كل مصايبنا... يعني انتم مصدقين إنه الحمار صدم السيّارة؟!".
وصمت محدّثي والذي لم تبدر عنه حتى ابتسامة لا وهو يحكي ولا بعد أن أنهى، ولم يجاريني حين اغتصبتني ابتسامة عريضة، فابتلعتها ووجدتني أقول، ربّما لمحدثّي أو لنفسيّ:
لم يصدق من قال: "شرُّ البليّة ما يُضحك".
لم يعلّق محدّثي وأدار ظهره وبعد أن ابتعد فطنت أني نسيت حتى أن أسأله عن اسمه.
وعلى ذمّة الراوي، لم تعّد المياه لعرب الرماضِين رغم الجاهة الكبيرة التي وجهوها للرئيس طالبين ألا "يحط عقله قبال عقل حمار"، إلا بعد أن تدخّل نائب في مجلس الدولة، وبعد أن امتلأت قاعة المجلس ضحكا من الحضور مُشارَكةً للوزير الذي اجتهد كثيرا كي يتمالك نفسه من الضحك، قبل أن يجيب مبرّئا الحمار، حين استُجوِب.
سعيد نفاع
أواخر تشرين الثاني 2014