تعود فكرة هذه المقالة، إلى اتصال هاتفي، وصلني من صديق من أصل سوري، وتحديدًا من مدينة السويداء في الجبل، وقد قام بالاتصال بي، ليعبّر عن سخطه وتذمره، اتّجاه تعليقات غير لائقة، ومداخلات غير مناسبة، من على صفحات الفيسبوك التي تدار، على الأرجح، بأيدي نشطاء من بعض المواطنين الدروز، الذين يقطنون الأراضي المقدّسة، حيث قامت هذه الزمرة، في الأسابيع الأخيرة، وبشكل مستمر ومكثف، بالترويج وبنشر أخبار رجال ومشايخ وشخصيات فعّالة على الساحة السورية، تحت شعارات ونعوت وأوصاف مثل: " شيخ الكرامة،" و "شيخ الجبل،" و " صقر السويداء" وغيرها.
وكان مصدر انزعاج صديقي، من هذه التعاريف، نابعا من الظلم والغبن والتقصير، اتجاه المشايخ الذين ضحوا بأرواحهم،في سبيل الوطن والطائفة، وكان من بينهم أحد المشايخ من أقاربه، والذي استشهد في إحدى المعارك، التي دارت في الأسابيع الماضية، مع واحدة من الجبهات المعادية لمنطقة السويداء وأهلها، ليسألني الصديق، مرة تلو الأخرى، فيما إذا كان المجد والتخليد، عند أبناء الطائفة الدرزية، قد أصبح موهوبا لأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، ويحترفون الخطابة! أم لأولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الآخرين!
لقد أصبحت ظاهرة التبجيل المتزايدة، في كنف الشبكات الاجتماعية، مزعجة ومضرة، وتحمل في طياتها أبعادًا سلبية على نسيجنا الاجتماعي. وهي تحمل، في نظري، مخاطر سياسية، قد تعود بالضرر على المجموعة، على المدى القريب، في ظل الظروف القاسية، التي نمر بها، ونحن بصددها، وتحديدًا عند أهلنا في الجبل.
ففي مثل هذه التعاريف، إقصاء وتجاهل، لقوى دينية وسياسية أخرى، تعمل بجدية وإخلاص، بعيدا عن الأضواء،وليس بقصد الشهرة والجاه، ليلاً ونهاراً، وذلك من أجل مصلحة المجموعة، ومن أجل الحفاظ عليها كشريحة ثقافية ودينية في أرضها وأرض أجدادها منذ القدم. إن محاولة البعض، إلصاق ألقاب، أو التعريف بفئة من المشايخ، بكونهم " مشايخ الكرامة"، يعني أن بقية المشايخ الآخرين، لا يحملون الكثير من الكرامة،وهذا بعيد كل البعد عن الحقيقة والصحة، ففي نظر الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة الدرزية، وبغض النظر عن موقعها الجغرافي أو الزمني، فهي ترى بأنها تستمد كرامتها من كرامة مشايخها عمومًا.
الكل يعلم ويلاحظ أن الوضع السياسي مليء بالخطورة، والموقف العام حرج جدا وهذا الأمر يتطلب الوحدة على جميع أشكالها، ومن قبل كافة شرائح المجتمع، بما في ذلك المشايخ العقال، والأفراد الجهّال، والمتعلمون والمنتسبون لكافة الأطر والمجموعات، في حين إن مثل الخطاب المذكور أعلاه يوسّع الهاوية في المجتمع الواحد الذي كان متراصا على مدى التاريخ، ولو تمادينا في هذا الأمر فسرعان ما سنغرق في مستنقعات العصابات ضد بعضنا البعض؛ منّا من هم في صف رجال " شيخ الكرامة" والبعض الآخر من رجال "شيخ الجبل" وهلم جرا...
ولكن الأنكى والأخطر من كل ذلك هو أن مثل هذا الخطاب،يشتت الأفكار، يُضعف الموقف، يزيل الفروق بين المهم والتافه، ويطوّر بشكل حتمي، "سياسة المزايدة" بين القوى السياسية والدينية العاملة في الطائفة فتـنشغل مرجعيات اتخاذ القرارات بسطحيات عديمة الجدوى، هدفها الحفاظ على ألقاب فارغة، بدلًا من تداول الأساليب الأنجع والحلول الأصح لمواجهة الواقع الخطر الذي تواجهه الطائفة في الظروف الراهنة. كلنا يعلم وجميعنا نعرف كيف فشلت أغلبية القيادات العربية في تحقيق برامجها السياسية، بسبب خطاب المزايدة، في حين نجحت القوى الغربية في جميع برامجها، لابتعادها عن هذا النهج. هكذا نجح تشرشل في إنقاذ بلاده من النازية، دون أن يعرفه الإنجليز "بصقر لندن"، وهكذا حرّر ديغول بلاده فرنسا ولم يعرفه الفرنسيون " بشيخ باريس" ...
لا شك أن خطورة خطاب المزايدة، تزداد في ظل غياب حلّ واضح للوضع السياسي الرّاهن في سوريا، وتحوّل الصراع المستفحل فيها إلى صراع إقليمي، وإلى صراع قوى عالمية لها مصالح وأطماع، فتشد خيوط القوى العسكرية تارة، وخيوط اللعبة الدبلوماسية تارة أخرى. وهذا الوضع، يجعل إمكانيات التأثير عندنا محدودة، ويجعل كذلك موقف مجموعة موالية لقيادة معينة غير مؤثر وغير ذي أهمية، فيما لو قررت القوى العظمى، إعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية في سوريا من جديد.
الأخطر من كل ذلك هو أن خطاب المزايدة، يضعف أهم عنصر في أي حوار سياسي معاصر، وهو قدرة الأطراف على الحوار بشكل سليم، وإلقاء الضوء على النواقص دون الشعور بالخوف من ردود فعل الأطراف غير الراضية.إن مجرد تعريف قيادات دينية وسياسية بألقاب خيالية " كصقر الجبل" تضعف من إمكانية كاتب مثلي من أن يلقي الضوء على نهج أو قرار اتخذته مثل هذه القيادة، وكيف لي ذلك وأنا لا أستطيع أن أطير في السماء مثلهم!!!
بناء عليه، واحتراماً للمشايخ الذين قدموا أغلى ما عندهم، ولتبقى الصفوف موحدة، أعتقد بأنه علينا الكف عن استعمال تعاريف التبجيل وخطابات المزايدة، واحترام قرارات المشايخ الفعّالين على اختلاف آرائهم، لأنهم في النهاية جميعًا معنيون بسلامة الجبل وأهله، كل واحد في مفهومه وطريقه، ويظل التعاون والتنسيق والتكتل هو الأنجح والأجدى..