الوقفة الأولى... مع فان جوخ
بدأ الرسام الهولندي حياته، على ذمّة بعض المصادر، خوريّا أضاف مهمةّ خاصّة لمهامه فصار يزور العمال في المناجم يواسيهم فيما يقاسون من ظلمٍ، ولعلّ لوحته الشهيرة "البُسطار- حذاء العمل ذو الساق الطويلة" لاحقا هي من وحي ذلك، فثارت حفيظة آكلو الثروة الوطنيّة "أصحاب المناجم"، فاشتكوه إلى البابا بجريرة تحريض "العبيد على أسيادهم"، فأرسل الأخير له تنبيها في صلبه: "إنك بدخولك المناجم تسيء إلى لباس المسيح"، فردّ فان جوخ على ذمّة المصدر: "إن كنت بعملي هذا أسيء إلى لباس المسيح فأنت بقولك هذا تسيء إلى دين المسيح"، والنتيجة طبعا كانت محتومة فألقي على فان جوخ الحِرمان وخُلّع لباس المسيح.
بقيّة القصّة أن فان جوخ راح يعمل في التجارة عند أحد التجار ولم تطل رحلته، فتركها للجوع وخرج بقوله الشهير: "إن التجارة هي السرقة المشروعة"، وراح يسكب دم قلبه في رسومات لم تشبعه من جوع ولم تروه من عطش، إلى أن انتهى الأمر به كما انتهى، ولعلّ في الرواية، إن صحّت، عن قطعه "شحمة" اذنه تقدمة لرفيقته إذ استفزته قائلة: "لو كنت تحبني لأعطيتني اذنك" الشهادة على ما انتهت إليه حياة هذا الذي يخشع البشر اليوم وقوفا أمام رسومه.
فكم فان جوخ يعيش بين ظهرانينا مقاطعا يعاني الحِرمان؟!
الوقفة الثانية... مع "اليهود الفَلاشة"
هذا هو الاسم الذي أطلق على اليهود الأثيوبيّين يوم جيء بهم ليشاركونا "الوطن" وبعمليّات صنّفها الساسة الإسرائيليّون وما زالوا بالبطوليّة، وقامت اليوم القيامة بينهم ودون أن يذكرهم أحد باسمهم الأصليّ "الفلاشة"، وبغض النظر، فالمتابع منّا وسائل الاتصال عندنا على أشكالها، يرانا انقسمنا ما بين معسكرين غالبين اثنين: مؤيّد متضامن مع اختلاف المنطلقات انسانيّة أو طبقيّة، وما بين متشفٍّ قائل: "بقر الدير في زرع الدير".
ولّعت المظاهرة بالأمس على شارع نهر "أيَلُون" (نهر العوجة للتذكير) العرق الرئيسي لدولة تل أبيب، وانطلاقا إلى ميدان "رابين"، واحتلت ناصية نشرات الأخبار، حتى في الميادين – قناة العروبة بحق وحقيق. المهم أن ما يضيع عادة في معمعان هكذا حدث بعض الأمور التي تبدو صغيرة ولكنها كبيرة وكبيرة جدّا، قال وكرّر أحد المنظمين النجوم الإعلاميّين لهذه المظاهرات من على وسائل الإعلام العبريّة أن العديد من الشبكات الإذاعيّة والتلفزيونيّة العربيّة توجهت إليه لإجراء مقابلات فرفض على حدّ قوله وبما معناه حتى "لا يتشفّى أعداؤنا علينا وعلى دولتنا"!
لو كان الأمر مقلوبا لكنت ترانا نتزاحم على الشبكات وخصوصا الفضائيّة الإسرائيليّة، منتقين أحسن ما في خزائننا من "بدلات" وربطات العنق من آخر ما صرخت "الموضة"، ولا نقبل إلا أن نمرّ في طريقنا على أحسن "كوفيرة".
البعض منّا ممن أدلى بدلوه تعقيبا على المظاهرات قال: "يجب أن نتعلّم منهم كيف نسيّر مظاهراتنا"، ألا يجدر بنا أن نتعلّم أولا قول نجمهم الإعلامي المذكور؟!
الوقفة الثالثة... مع حق التعبير عن الرأي.
إن قيّض لك وحضرت اجتماعا شعبيّا أو ندوة وأيّا كان نوعها، أو مؤتمرا يتناول الحريّات الديموقراطيّة ومعانيها، وكان من المحاضرين فيها قائمون على أو محرّرون لبعض الصحف المحلية، ستسمع منهم وحسب مراكزهم في الصحيفة، بسياق وبغير سياق، كلّ ما احتوته قواميس اللغات من تعابير "من قاع الدست" عن الاستعمار الحيّة ورأسها الأميركيّ، والرجعيّة والصهيونيّة، وعن حريّة الرأي وقداسته المُهانتين عندهم رغم تشدّقهم بالديموقراطيّة، والمًكرمتين في صحفهم أحسن تكريم قمّة للديموقراطيّة!
وتدق فيك الحماسة كقول محمد الماغوط على لسان أبو نارة، أنت المُبتلي في أنك "مش عارف تمشي في التلم صْحيح"، وتدبّ ما في قلبك في مقال أو قصّة أو قصيدة حتّى، اعتمادا على كرامة حريّة الرأي والابداع في صحيفة الخطيب المحاضر، لتكتشف سريعا أن "السكرة" بقيت تائهة في أروقة قاعة الحدث بعد أن تركه، وجاءته "الفَكرة" بمجرّد أن جلس على كرسيّ التحرير ورأى اسمك يتذيّل النص الذي بين يديه، فيرميه طبعا حفاظا على الديموقراطيّة وحريّة التعبير عن الرأي، وإن تعشّمت خيرا في محرر ما يقول لك: "راجع الهيئات"، وتصلك الصحيفة وتقرأ بعض ما فيها فتضحك من شدّة "هَبلِك".
الوقفة الرابعة... "تْعِبت وبدّي أقعد وبس أقوم بَحكي!"
أوائل أيار 2015
سعيد نفاع