لم يرحم قلمي مسيرة شيخ الكرامة كما استفقد له قلبي في الأيام الأخيرة. ولكن هذه هي طبيعة صراعي المستمر مع قلمي وأطباعه الغربية الباردة، وحقيقة الإنسان الشرقي الدافئ الذي يقف من ورائه. كم كنت أتمنى بأن يكفّ حبره عن الهيجان وأن يهدأ الإعصار الذي تملّكه في السنوات الأخيرة فأعيد علاقاتي الأخوية مع من تسبب لي بالإحراج معهم.
ولكن وبالرغم من سوء التفاهم المستمر بيني وبينه فلا يمكنني أن أدّعي بأنني لا أفهمه وأنني غير متعاطف مع دوافعه. فقد سافر آلاف الأميال، وقطن بلاد الغربة لسنوات محاولاً التحرر من نفس القيود التي منعته في الماضي من مناقشة مواضيعنا السياسية والاجتماعية بشكل واضح وصريح، ومن وجة نظر جديدة ومميزة، لربما ليست على صواب دائماً، ولكنها بالطبع صادقة.
ناهيك بأنه لا يكفّ عن معاتبتي فيسألني مرة تلو أخرى كيف لي أن أحلم بطائفة معاصرة وفخورة دون تطوير نقاش صريح مع من لهم القدرة على التأثير على مجرى حياتها؟ وكيف لي أن أتقاعس في استعمال سلاح الكلمة اتجاه من يهدد هذا الحلم؟ وما الفائدة من قراءتك ودراستك إذا لم تشارك بها المجموعة الثقافية التي تنتمي إليها؟ وما هي مصداقية أبحاثك إذا اكتفيت يوماً بالانضمام إلى موكب قيادتها وبدأت تملأ إعلامها بصور وخطابات فارغة؟
لم يكتفِ قلمي بعدم الانصياع، بل إنه لا يكفّ عن معاتبتي، فيسألني للمرة الألف فيما إذا كان قد تعدى على الخصوصيات الشخصية أو العائلية لأحد، وكيف أصرُّ في كتاباتة على مناقشة مواضيع اجتماعية وسياسية ومناقشة من يزعم خوضهما، معترفاً بأنه بمثل هذه الأجوبة جعلني أقف على الحياد أنا ومركبات شخصيتي التقليدية والشرقية، ليستفرد بكتابتها بمفاهيمه الغربية، وللبرودة الإنجليزية التي دخلت عروقه في مواجهة كل معارضة لخطابه، لطالما يذكرني بخيل عربية أصيلة فشل فارسها بجميع محاولات الترويض معها.
هكذا أيضاً رفض قلمي التنازل عن مناقشة الصراع الذي دار بين القيادات الدينية العاملة في السويداء في السنوات الماضية وكتب مقالًا بعنوان "السويداء وأهل الكرامة"، حذّر من خلاله خطورة الانزلاق إلى هاوية الطعن والتخوين في العمل السياسي والعسكري بين القوى الدينية والسياسية في ظل الصراع المستمر على الأراضي السورية.
وهو نفس القلم الذي كان من وراء مقال آخر نشر في مجلة العمامة بعنوان " مشايخ الكرامة" والذي تناول به ضعف القوى السياسية والعسكرية العاملة على الساحة السياسية في السويداء بعد أن تحول الصراع السوري إلى صراع إقليمي، وإلى صراع قوى عالمية لها مصالح وأطماع، فتشد خيوط القوى العسكرية تارة، وتلعب بالخيوط الدبلوماسية تارة أخرى. الأمر الذي يجعل إمكانية التأثير للقوى المتنازعة على الأرض ضعيفة ودون أهمية، فيما لو قررت القوى العظمى، إعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية في سوريا من جديد.
ولكن بالرغم من الموقف الحيادي والأكاديمي الذي اتخذه قلمي لفهم الحالة السورية بشكل عام واتجاه القوى الدينية والسياسية العاملة في منطقة السويداء بشكل خاص، علي أن أعترف بأنني كثيراً ما تسللت خفية من ورائه وتواصلت مع مقربين من الشيخ أبو فهد وأعوانه في أوروبا وعلى الأراضي السورية واقترحت عليهم تقديم المساندة والدعم بالشكل والوقت الذي يلبي احتياجاتهم.
لقد طالت أيادي الغدر الشيخ أبو فهد البلعوس قبيل أن ألتقي به فأزدادت حسرتي مرتين. الأولى أعتذر بها من مواقف قلمي الحيادية وتحليلاته الأكاديمية وبذلك عدم كشف حقيقة شجاعته وموقفه الرجولي كما ورد من أقرب جنوده. والثاني في فسح المجال وامكانية تكريمه بوسام الكرامة قبيل رحيلة.
وإن كان لا بد من كلمة أخيرة فإني أعترف بأن قلمي الإنجليزي البارد كعادتة لم يذرف دمعة واحدة منذ أن غادرنا شيخ الكرامة، ولكنني كالكثيرين من محبيه سرعان ما انفردت بغرفتي لأبكي فقدانه.
رحمك الله شيخ الكرامة.