لم تلق عليها التحية، جلست "هند" أمامها ونظرت إلى عينيها مباشرة.. ومن نظرتها هذه، توجست "زكية" خوفا.. فهي تعرفها جيدا وتعرف ما هي قادرة على فعله.. فـ"هند" تربية يديها.. ومنذ تفتحت على هذه الدنيا وهي تنهل منها شتى أنواع العنف وألوان التهديد الكلامي..
قالت "هند": هل تذكرين يا "زكية" المستبدة والمنيعة، كيف كنت تهددينني إذا أخطأت، بأني سوف أقتل كما قتلت جدتي من قبل.. جدتي التي لم يبق منها في مخيلتي إلا بقايا صور من ماض بعيد.. فتجعليني أنوح من تهديداتك، وأخاف أن أقتل وتنتابني الأحلام المرعبة في الليل، واستحضر مقتل جدتي وهي في أحضان رجل آخر، كان من الصعب جدا تخيل هذا المشهد الهمجي، المرعب.. ولكي أبعد عني الخوف، ابتدعت أغنية، دمدمتها بصوت منخفض: "قالت لي ستـّي/ في صغري: تجني ما تزرع يا ولدي/ تزرع قمحا/ تحصد قمحا/ تزرع حبا تحصد حبا/ لكن من يرعب أطفال/ يُلعن، يُلعن، يُلعن"..
هذه هي المرة الأولى التي تزور بها "هند" "زكية" في ملجأ العجزة، الذي يقبع على تلة تشرف على مياه البحر الأبيض المتوسط، المكان مجهز بالتقنيات الحديثة وتفوح منه رائحة النظافة، وانتشرت الممرضات وطاقم العاملين في كل مكان وكأن المكان فندق بخمسة نجوم وليس مصحة للعجزة.. عندما دخلت عاملة النظافة إلى الغرفة، ونظرت إليها "زكية" مستنجدة، وضعت "هند" أصبعها على شفتيها فحسب، مشيرة إلى ضرورة أن تلزم زكية الصمت، وبدأت تغني أغنيتها: "قالت لي ستـّي"، ووقفت بينهما وواصلت الغناء بصوت عال، وكأنها تسليها.. شعرت عاملة النظافة بأنها تقتحم وحدتهما، فابتسمت محرجة وخرجت بهدوء.
جلست "زكية" على كرسي وأمامها طاولة، كان رأسها مدلى على صدرها، وسال اللعاب من فمها بشكل متواصل، صدر عنها بعض الهمهمات، لم تفهم "هند" كنهها، ونظرات متألمة في عينيها، فاقتربت منها وقالت لها: ماذا تريدين أن تقولي؟ لن يخرج من فمك غير الشتائم والتهديد والوعيد، فحتى عندما تكونين هادئة و"غزالتك سارحة" وتصبحين أكثر لطفا ورقة، كنت توبخينني أو توبخين إحدى أخواتي، فتقولين: سوف أضعكن على الشرفة وأعريكن من الملابس، وأجلدكن بقضيب الرمان على مرأى من الجيران.. عندها كنت أثور وأخاف وألهث وكأنني في سباق، كما وكأني على وشك الغرق في مياه البحر. وأزداد سخونة ويجف حلقي وتتسارع نبضات قلبي وتصطك أسناني، خوفا من تعريتي أمام الجيران. لم أكن أخاف من جلداتك، فجسدي الصغير الغض، قوي ويتحمل الضرب الذي اعتدت عليه.. جل ما كان يرعبني، هو تعريتي والكشف عن ثديين صغيرين لم يتعد حجمهما حبة تين لم تنضج بعد، نهداي الصغيران تحت قضيب الرمان.. لكنني لم أتمكن من قول شيء، سوى: "قالت لي ستـّي/ في صغري: تجني ما تزرع يا ولدي/ تزرع قمحا/ تحصد قمحا/ تزرع حبا تحصد حبا/ لكن من يرعب أطفال/ يلعن، يلعن، يلعن"..
اقتربت "هند" من "زكية" وبدأت تخلع عنها ملابسها قطعة، قطعة وهي على مقعدها المتحرك، ارتعدت، فأخذت تئن بأصوات خافتة. وازداد سيلان اللعاب من فمها.. لم تنظر "هند" إلى عيني زكية حتى لا تأخذها بها رحمة، وقالت: سأطوف بك في أرجاء المصحة وأخرج بك إلى الشارع وأنت عارية، قولي لي ماذا تشعرين؟ أو انك لا تهتمين لعريك الآن، بعد أن هزل جسدك وترهل.. القدر الغامض، وضعنا وجها لوجه الآن، لنتحاسب ولربما نتصافى..
أحبت "زكية" التسفع تحت أشعة الشمس، ولكي تضايقها "هند" أكثر، قامت بإسدال الستارة لإخفاء أشعة الشمس عنها، وبدأت تتبختر ذهابا وإيابا في الغرفة..
"زكية"، ذات ثروة لغوية غنية جدا بالشتائم اللاذعة ولم تتميز عن جميع أفراد عائلتها وعائلة زوجها، ذكورا وإناثا، فحتى الجيران وجميع أهل البلدة عرفوا بلسانهم السليط وقلة حيائهم، كانوا يبتكرون الشتائم ويتلذذون بصياغتها وسماعها..
كانت زكية تفقد عقلها، كلما خطبت وتزوجت أي صبية في العائلة، بينما أنا وأخواتي في البيت بدون زواج.
- أيتها المعتوهة، لو كان الزواج بيدينا، كنا سنترك البيت مع أول رجل يطرق بابنا ولكن لم يحالفنا الحظ لأنك لم تتركي لنا فسحة من الأمل والسعادة لنتمكن من جذب أي شاب. زرعت بنا إحساسًا سيئا لم ينفك يغلي بنا بعنف حتى يومنا هذا..
أخرجت "هند" قضيب رمان صغير، جمعته على شكل دائرة من داخل حقيبتها، وما أن سحبته حتى طقطق بطراوته.. وأخذت تلّوح به فوق رأس زكية وقالت لها: هذا القضيب له وقع مدوّ على حياتي، أين أجلدك الآن.. على ظهرك أم على صدرك المترهل الذي يصل حتى ركبتيك.
جفلت زكية، طأطأت رأسها أكثر.. ولم تفهم "هند" إذا كانت تفعل ذلك خوفا أم خجلا منها أم أن ضميرها بدأ يعذبها..
- "قالت لي ستـّي/ في صغري: تجني ما تزرع يا ولدي/ تزرع قمحا/ تحصد قمحا/ تزرع حبا تحصد حبا/ لكن من يرعب أطفال/ يلعن، يلعن، يلعن".. والآن، إذا بكيت يا "زكية".. فلا تشمتي بي، فأنا اذرف الدمع الغزير كلما استحضرت هذا المشهد..
ضربت "هند" بقضيب الرمان على الطاولة التي أمامها، فقفزت زكية من مكانها وتدحرج كرسيها المتحرك إلى الخلف..
- هل تذكرين "مروان".. الذي كنت معجبة به؟ جلس مع أخي وزمرة من الأصدقاء في بيتنا، وكنت أسترق السمع إلى أحاديثهم من الغرفة المجاورة. وأتمتع بصوته وهو يضحك بصوت عال، وأنظر إليهم خلسة من ثقب الباب الفاصل بين الغرفتين، ولا اذكر ولا أدرى أي جرم اقترفته حتى جئتني فجأة، وجررتني إلى المطبخ، وأنهلت بالحزام ضربا على رأسي، وفي نقطة واحد.. تألمت كثيرا، فأنا لم أجهز نفسي وجسمي للضرب كالعادة، كان جسدي منتشيا ومرتخيا ومحلقا مع "مروان"، لم أستطع أن أجاريك كالعادة، خفت لئلا يراني مروان بهذه الوضعية بين يديك، فاستسلمت وقلت لك هامسة خائبة مستشهدة ومقتولة ومنتحرة: استحلفك بالله ورسوله يا "أمي" أن تكفي عن ضربي.. لم تكفي يا مجنونة، إلا حين تعبت، لم أأن، لم أبك ولم أصرخ، زرعت بي الخوف.. الغضب والخجل.. أقنعت نفسي بأنني انتصرت عليك في هذه الجولة بقدر ما هو الموقف محزن.
سقطت دمعات حارة من عيني "هند" وقالت: قلت لك بأنني سأبكي.. "قالت لي ستـّي/ في صغري: تجني ما تزرع يا ولدي/ تزرع قمحا/ تحصد قمحا/ تزرع حبا تحصد حبا/ لكن من يرعب أطفال/ يلعن، يلعن، يلعن"..
توقفت "هند" عن الغناء وتناولت حقيبتها وقالت: أحضرت لك هدية خاصة يا أمي..
مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت هدية ملفوفة بعناية بورق ذهبي وألصقت عليها وردة بلون احمر، اعتقدت زكية أن الجولة انتهت، وأن أبنتها أكملت محاسبتها، فبدا بعض الارتياح في عينيها الذابلتين، لكن عندما فتحت "هند" الهدية دب الفزع بها، وفغرت فاها بقوة ولم تفلح بإصدار صوت واحد ما عدا بعض الهمهمات المجبولة باللعاب الذي لا ينفك يسيل من فمها.. لقد أخرجت حزامًا بنيًا تعرفه جيدا.. كان لوالدها حزامان من الجلد، الأسود يلبسه يوميا أما البني، المعلق على المسمار في غرفة النوم كان يلبسه في المناسبات الخاصة، وهذا الحزام أكل من جلد "هند" وأخواتها حتى شبع.. كانت تستله "زكية" من مكانة بسرعة البرق وتنهال به على ساقي وفخذي "هند" شمالا ويمينا، وكانت أختها الكبرى، عندما ترى الحزام في يد "زكية"، يغشى عليها فورا، فتنال "هند" قسطها وقسط شقيقتها من الضرب.. وكانت "هند" تصوب نظراتها إلى عيون أمها كالقداحة الوقادة، نظرات تستفزها، فتزداد بضربها، وإن صح القول، حاورتها بنظرات عيونها في كل مبارزة.. لم تتزحزح من مكانها، ولم يرمش لها جفن و"زكية" تلهث من شدة تعبها. ويعتريها شعور بالراحة الوهمية.
اقتربت "هند" من أمها وقالت: انظري يا "أمي" إلى أكوام الملابس المتكدسة على جسدي والتي أغطي بها رأسي، خوفا من أن تتكشف عورتي لأحد، حتى زوجي لا يرى جسدي، عريّتني كفاية في صغري أمام الناس، أنا حالة مستمرة من القلق، بل ساحة معركة، ليال هجرها النوم، شكلت غنائية الرعب بالنسبة لي صدمة والى الأبد، منحتني مناعة ضد كل الصدمات، وجعلتني أتكيف في كل موقف وانساب في كل المناسبات، لم أنجب الأطفال خوفا من أن أسيئ إليهم كما فعلت معي.. غني الآن أغنيتي وإلا جلدتك..
- "قالت لي ستـّي/ في صغري: تجني ما تزرع يا ولدي/ تزرع قمحا/ تحصد قمحا/ تزرع حبا تحصد حبا/ لكن من يرعب أطفال/ يلعن، يلعن، يلعن"..