منذ أن وجد الانسان على الأرض وهو ينكر الحقيقة. آدم أنكر أمام الله حقيقة أنه أكل من شجرة المعرفة التي نهاه عنها. وقايين أنكر حقيقة أنه قتل أخاه هابيل، وأطلق مقولته التي ذهبت مثلا "أحارس أنا أخي؟". دول وممالك أنكرت ما قامت به من جرائم وقتل. حكام أنكروا حقيقة ظلمهم للبشر. الاحتلال أي احتلال، ينكر حقيقة سجنه واعتقاله للمقاومين وتضييقه على الشعب المحتل. دائما ضاعت الحقيقة في دوامة الأحداث وتواترها، ودائما عمل من له مصلحة على اخفاء الحقيقة أو تشويهها على الأقل حتى تضيع أو تنسى إلى أن تنشأ قضية جديدة. مذابح ومجازر وقعت بحق شعوب وأفراد وضاعت حقيقتها.
لفيلسوفنا العربي الكبير جبران خليل جبران، أقوال بليغة تصلح لحالات وأزمنة عديدة ومتفاوتة، ومن أقواله الحكيمة "الحق يحتاج إلى رجلين: الواحد لينطق به والآخر ليفهمه." كم كان جبران صادقا في قوله هذا، وكم نحن بحاجة الى من يفهم قول الحق، لكن في زمن غابت فيه "شمس الحق"، بات يحق لكل مدع أو كاذب أن يقلب الحقائق رأسا على عقب، أو يطلق أكذوبة وينشرها وبالتالي يصدقها على أسلوب جحا، تلك الشخصية الأسطورية التي طالما أثارت ضحكنا واستغرابنا من سلوكياتها، وكم من جحا اليوم يعيش بين ظهرانينا؟!
ان أكثر ما يثير السخرية هو نقض الحقيقة بالأكاذيب وتحويل الكذب الى حقيقة، ويبدو أن هذه فلسفة متعلقة بثقافة "الاحتلال"، ألا تقلب اسرائيل الحقائق يوميا في الأراضي المحتلة، عندما تحول الضحية إلى مجرم، والقاتل الى ضحية، من خلال رواياتها التي ترددها صبحا مساء، وتشتغل ماكينة الاشاعات والأكاذيب لتغرس الأقاويل الكاذبة في نفوس وذاكرة الناس، وتضيع الحقيقة في عالم غابة الأكاذيب،ويخاف البعض من بطش الحاكم فيرتدع عن قول الحقيقة، وهنا يتصدى الرحابنة في احدى مسرحياتهم لينبهوا الناس بقولهم على لسان أحدى الشخصيات "الملك ما بخوّف، الحقيقة بتخوّف". وقد صدق في هذا الصدد الأديب الروسي الكبير مكسيم غوركي حين قال " نستطيع خداع كل الناس، لكن لا يمكننا خداع الحقيقة."
وينسحب الأمر ذاته على الصراعات الصغيرة التي تنشأ بين مجموعات من البشر لمختلف الأسباب، فيعز على المذنب الاعتراف بذنبه، فيأخذ بالمكابرة وبعدها اختلاق الأكاذيب ليبرر ذنبه، وفي هذا النوع من البشر قال القرآن الكريم "لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون." فالكاذب في هذه الحالة يعرف بينه وبين نفسه أنه يكذب، ويظن لسذاجته وضعة نفسه أنه يقنع الناس بأكاذيبه، وهو لايستطيع سلوك طريق الحقيقة لأنه من الجبناء، وفي هذا يقول القائد والحكيم الهندي غاندي " طريق الحقيقة طريق الشجعان، ويعجز عن سلوكها الجبناء." وأكد الحكيم الصيني كونفوشيوس على جبن من يسلك طريق الكذب "مَن رأى الحقَّ ولم يأخذ جانبه فهو جبان." بينما يظن الطرف الكاذب أنه يملك الحق لأنه يملك القوة، لكنه تناسى ما قاله المثل الانجليزي "ليست القوة هي الحق، بل الحق هو القوة."
ونصيب قائل الحقيقة لا يقل عن نصيب ضحية الأكاذيب، فالناس يكرهون سماع الحقيقة، لأنها مؤلمة وتضع المذنب أمام المرآة عاريا أمام الحقيقة التي لا يستطيع انكارها مهما بذل من جهد وتكرار لأكاذيبه التي توهم أنها تحولت الى حقيقة، وفي هذا يقول الفيلسوف جبران خليل جبران "الحقيقة التي تحتاج الى برهان، هي نصف حقيقة." فالحقيقة تتكلم عن نفسها ولا تحتاج إلى برهان أو دليل لأنها تكون ساطعة كالشمس ولا يمكن اخفاؤها بستار، وكما جاء في أمثالنا فان الحق يعلو ولا يعلى عليه، كما لايمكن الحجز عنها كما تعامل معها الشاعر سعيد عقل بمنظار رومانسي " الحقيقة كالغادة الحسناء، لا يجوز لها أن تظل في الخدر." فالحقيقة لا تحتاج إلى لجان لتبحث عنها أو تفتش عنها، لأن الحقيقة لا تهرب ولا تتوارى، بل هي ظاهرة للعيان واضحة، لا تشوبها شائبة "فقوة الحقيقة في دوامها." كما جاء في أقوال بتحوتب.
ولهذا فان من ينطق بالحق لن يكون محبوبا، خذوا القضاة العادلين، فطرف يخرج مسرورا من عندهم وطرف غاضب، غير راض، ويطعن في حكم وعدالة القاضي، فما بالك بالكاتب أو المحلل الاجتماعي الذي يحاول تحليل الأحداث والتعليق عليها مبينا ما خفي منها وأهدافها ومسبباتها، فانه يجلب لنفسه العداء، وقد صدق الحكيم باسكال حين قال "قول الحقيقة مفيد لمن تقال له ومضر للذين يقولونها، لأنها تجلب لهم البغض." وهذا ما جرى لأحد الأصدقاء، الذي حدثني أنه عندما كتب رأيه الصريح في قضية حساسة ابتعد عنه أصدقاؤه وقطعوا علاقتهم به، الى هذا الحد يمكن أن تصل الأمور بمن يقول الحقيقة، بل أكثر، ألم يتعرض للتهديد والاعتداء عشرات الصحفيين والكتب لأنهم كتبوا الكلمة الجريئة الصريحة الواضحة؟ وها هو أبو ذر الغفاري يجهر بالقول معترفا "قول الحق، لم يدع لي صديقا." فاذا كان الغفاري فقد أصدقاءه نتيجة قول الحق فهل نستغرب هذا في عصرنا، الذي طغت فيه المصالح المادية، وعادت اليه المفاهيم القبلية والعشائرية بشكل علمي وعصري، أخطر بكثير عما كانت عليه في القرون السابقة، لكن الحقيقة تبقى مطلوبة ومرغوبة حتى لو كره ذلك معظم المناس، وها هو عميد الصحافيين اللبنانيين يقول "علمتني الحقيقة أن أكرهها فما استطعت." ومن يختار هذا الطريق ، طريق الحق والحقيقة لا يمكنه التراجع عنه مهما كلفه الأمر لأن هذا نهجه ومنهجه في الحياة وقد عبر عن ذلك شاعر القطرين، خليل مطران حين قال " لا قول غير الحقّ لي/ قول، وهذا النهج نهجي."
هناك من يعتقد أنه ببطشه وسطوته وغطرسته يمكن أن يتغلب على الحق، لكنهم لو سمعوا وفهموا ما قاله الإمام علي بن أبي طالب " من صارع الحق صرعه." لما أقدم على مصارعة الحق ومواجهته، ويبدو أن من يفعل ذلك انما يجهل حقيقة الحقيقة وفي أولئك قال الشاعر الصوفي الحلاج "الإدراك إلى علم الحقيقة صعب، فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟"
ويخطيء من يظن أن قول الحقيقة مدعاة للخلاف وتوسيع الهوة مع الطرف الآخر، فاذا تسلحت الأطراف المختلفة بالوعي وبضرورة المصارحة لمعالجة القضايا العالقة، عندها يكون قول الحقيقة عاملا مساعدا على حل الخلافات وتهدئة النفوس والتوصل لحل مريح ومرض، وقد عبر عن ذلك خير تعبير وبكلمات موجزة وصادقة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، لدى زيارته للأراضي المقدسة في أيار الماضي، حين قال "الحقيقة لا تهدد التسامح ازاء الاختلافات والتعددية الثقافية، بل تجعل الوفاق ممكنا وتثبت النقاش العام في المنطق والنزاهة والوضوح وتمهد الطريق أمام السلام."
(شفاعمرو/ الجليل)