بقلم: فريد قاسم غانم
رئيس مجلس المغار المحلي
والناطق بلسان منتدى السلطات المحلية الدرزية والشركسية
سارع الداعون إلى اجتماع "مقام الخضر" عليه السلام في كفر ياسيف، يوم السبت 5.9.2009، إلى تعميم بيان معد سلفا على الرأي العام، على الرغم من تحفظ الكثيرين من المشاركين في الاجتماع من مضمونه والوعد بتغييره. والمسألة لا تتعلق فقط بنبرة البيان وتوقيته وتجاهله لسلسلة من القضايا ذات العلاقة الجوهرية، وإنما أيضا يتعلق الأمر بآلية الدعوة للاجتماع والتغييب الكامل لمسألة المرجعية صاحبة الصلاحية في التقرير وغير ذلك الكثير من النواقص والزلات.
دعا إلى الاجتماع، كما هو معلوم، الشيخ موفق طريف. ولا أحد يعرف لماذا لم يكن منتدى السلطات المحلية الدرزية شريكا كاملا في الدعوة إليه، وبالأحرى الداعي إليه، ولا أحد يعرف ما هي المعايير التي تتحكم في دعوة فلان من الناس وتجاهل علنتان، فيما يبدو أن الفوضى كانت سيدة الموقف في اختيار هويات المتحدثين في الاجتماع، مما يعني أنه لم يفكر أحد في مسألة المرجعية صاحبة الصلاحية ولا في مسألة وضع جدول أعمال للاجتماع، أو بالأحرى تم عقد الاجتماع من خلال انتهاك المرجعيات والصلاحيات.
قلنا، منذ البداية، إن الممثل القانوني والشرعي الوحيد للقرى الدرزية هو منتدى السلطات المحلية الدرزية، لأن الرؤساء في هذه القرى هم الوحيدون الذين انتخبوا دمقراطيا ومباشرة من الشعب، في حين أن القيادة الدينية هي المرجعية الوحيدة في القضايا الدينية. هذه المعادلة صحيحة بغض النظر عن هوية الرؤساء الحاليين وستظل صحيحة حتى إن تغير جميعهم. وهذا القول لا يقلل من شأن ومكانة أعضاء الكنيست أو القيادة الدينية أو الشخصيات الشعبية الأخرى، الذين من المفروض والمتوقع أن يكون لهم دورهم في قضايا هامة أخرى فضلا عن تأثيرهم فيما يتعلق بقضايا القرى الدرزية. أما القرار وصلاحية اتخاذ القرار فيجب أن تكون فقط لرؤساء المنتدى، ومن المفضل بالتعاون والتكاتف مع كل الشخصيات الشعبية والدينية إذا أمكن، وبإشراك شخصيات قيادية أخرى بمن فيهم أعضاء كنيست سابقون وأكاديميون ورؤساء مجالس سابقون. باختصار، المرجعية الوحيدة لبحث والتقرير في قضايا القرى الدرزية هو المنتدى، ما عدا القضايا الروحية التي من المهم تركها للقيادة الدينية.
غير أن الواقع يختلف كثيرا، إثر تكرار الخروقات المباشرة وغير المباشرة لهذه المرجعيات، مما يشكل خطرا محدقا بتغليب الفوضى وانهيار المرجعيات المذكورة خصوصا المرجعية الدنيوية. ويتحمل المسؤولية الأساس، في هذا السياق، منتدى الرؤساء بتركه فراغا، حيث يمتلئ الفراغ بطبيعة الحال بما هب ودب لمجرد تركه، وكذلك بموافقة المنتدى على أن يقرر آخرون مكانه. ولعل الطريقة التي انتهى بها نضالنا مؤخرا واجتماع "مقام الخضر" يوم 5.9.2009 هما دليلان صارخان على اختلاط الحابل بالنابل والفوضى التي تسود الموقف فيما يتعلق بمرجعياتنا. فمن حق بل من واجب أعضاء الكنيست والقيادة الدينية أن يبدوا وجهات نظرهم فيما يتعلق بنضال السلطات المحلية، ولكن ليس لهم الحق في اتخاذ القرار مكان المنتدى. ومن حق الشيخ موفق طريف أن يدعو من يشاء لأي اجتماع، ولكن ليس من حق أي إطار أو اجتماع أن يقرر بدلا عن منتدى السلطات المحلية، وليس من حق أي كان أن يحتل مكان المنتدى. ويتحمل المنتدى أيضا مسؤولية سكوته إزاء تحويله أو تحويل أعضائه إلى مجرد مدعوين لبحث قضايا هي في صميم مسؤوليات المنتدى.
مقابل واجب رفض المنتدى التعدي على صلاحياته، باعتباره المرجعية الوحيدة في القضايا الدنيوية لقرانا، فمن واجبه أن يسعى في الوقت نفسه إلى التشاور والتعاون مع الأطر والشخصيات الشعبية وصاحبة التأثير بل لدعم أطر تعمل تحت مظلته لتقديم الخدمات والعون للمنتدى، بما في ذلك التعاون والتشاور مع الشخصيات التي ليس لديها صفات تمثيلية رسمية. لكن، على هذه القوى التي تريد المساهمة وتقديم المعونة، أن تحرص على كونها عوامل مساعدة وأن لا تقلص من صلاحيات المنتدى أو العمل بدلا منه.
ولنعد إلى اجتماع "مقام الخضر". لعل الأمر الإيجابي الوحيد الذي نص عليه البيان هو رفضه العنف وسيلة للتعامل في مجمل قضايا الطائفة الدرزية، ودعوته إلى العودة للمرجعيات لوضع الحلول وعدم التصرف من خارج المرجعيات. لكن هذا الاجتماع يدعو، في الحقيقة، إلى عكس ما يفعله هو. فالاجتماع، إذا أخذنا بالاعتبار تحويله الرؤساء المنتخبين إلى مجرد مدعوين، وانتقائه شخصيات وتجاهله لشخصيات أخرى، إنما يقوم بنشاط – مهما تكن دوافعه صادقة – بدون العودة إلى المرجعيات الحقيقية أو حتى من خلال الالتفاف عليها.
والأدهى من ذلك أن الدعوة إلى نبذ العنف – وهو ما أؤيده بالتمام والكمال– جاءت حصرا بعد الاعتداء على مركز الشرطة في الكرمل، فيما كان من الواجب العمل على وقف العنف منذ سنوات حين كان موجها إلى جهات أخرى، مما يثير الشكوك بأن هذه الدعوة في هذا الظرف بالذات جاءت لإرضاء أوساط معينة حصريا. هذا ناهيك عن أن بيان "مقام الخضر" يتجاهل الأسس المادية والمعيشية وحالة الغليان والاحتقان، التي دفعت الطائفة الدرزية إلى شفا الهاوية ودفعت فئة منها إلى العنف والنعرات القبلية، ولعل أهمها سياسة التمييز والمهانة التي مورست ضد أبناء الطائفة الدرزية منذ قيام الدولة، مما يدفع فئات (لا نتفق معها على انتهاجها العنف سبيلا) إلى سلوكيات مرفوضة ومسيئة أيما إساءة للدروز في المقام الأول.
في إطار النقاش الفوضوي في اجتماع "مقام الخضر"، استمعنا إلى بعض الشخصيات. بعضها دعا إلى استنكار العنف، ليس إلا، باعتبار ذلك يبيض صفحتنا في عيون السلطة المركزية. البعض الآخر ألقى باللائمة على سياسة السلطة وحاول تبرير العنف (ضد أذرع السلطة) باعتبار ممارسيه يردون على ظلم كبير. غير أن البيان الختامي كان مطبوعا قبل النقاش، مما يعني أن النقاش كان مجرد مسرحية فاشلة، على الرغم من بعض الدراما والعنف الكلامي بين شخصين اثنين. المؤسي في الأمر أن البيان كان مطبوخا، قبل السؤال والجواب، فيما كان الطباخون يعملون على تحضير الطبخة بدون أن تكون لهم الصلاحية في ذلك. والآن مطلوب منا أن نأكل ونشكر.
إن مسألة العنف، كان يجب أن تطرح بكل حدة وعمق منذ سنوات عديدة وقبل أن يصبح العنف في مواجهة الشرطة، ولكن أيضا ليس فقط عن طريق الاستنكار. فالعنف ليس موروثا وليس وليد اللحظة، وإنما له امتداداته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية العميقة، ويحتاج إلى معالجة عميقة ووضع برامج وآليات تنفيذ طويلة الأمد. الاستنكار والتنديد مهمان، ولكنهما غير كافيين، بل قد يتحولان إلى "بوميرانغ" أي يسكبان الزيت على نار العنف، خصوصا حين يكون الاستنكار أحادي الجانب مثلما جاء في بيان "مقام الخضر"، وحين يجيئ الاستنكار فقط حينما يكون العنف موجها ضد أذرعة السلطة. وإن كنا تأخرنا في معالجة الموضوع، فما دار في اجتماع "مقام الخضر" على علاته الكثيرة، يؤكد أن بعض قياديينا لم يتعلموا شيئا على الإطلاق.
ومن المستهجن أن يتجاهل بيان "مقام الخضر" كليا تصريحات مدير عام ديوان رئيس الحكومة، التي دمغ فيها الطائفة المعروفية بكاملها، وحرض عليها، وأنه – أي البيان - لم يرقَ إلى الإشارة الصريحة لحالة الاحتقان والإحباط والغليان السائدة في أوساط أبناء الطائفة الدرزية، جراء عشرات السنين من التمييز والتهميش والمهانة التي يعانيها أبناء هذه الطائفة المعروفية. وليس أقل إثارة للاستهجان أنني، شخصيا، أوضحت لأولي الأمر أن البيان بصيغته المطروحة غير مقبول وغير متوازن، فوعدوني بعدم نشره، والتباحث حول صيغة بديلة، لكنني فوجئت بنشره في وسائل الإعلام قبل أن تتبدد أصداء كلامي مع القائمين على البيان. وعليه، يبدو أن الذين عملوا كل ما في وسعهم لأجهاض نضال السلطات المحلية الدرزية والشركسية، مؤخرا، لتبييض صفحتهم أمام أسيادهم، هم الذين يعملون كل شيئ اليوم لتبييض صفحتهم أمام أسيادهم دونما أدنى اعتبار للأسباب الحقيقية لحالة الضياع والغليان في أوساط الطائفة الدرزية.
من الواضح أن غالبية الشخصيات القيادية، وليس كلها، في أوساط الطائفة المعروفية غير مستعدة لإعادة النظر في أسس تفكيرهم ونشاطهم. الوضع المزري الذي آلت إليه الطائفة الدرزية، باعتبارها تحتل المواقع الدنيا في كل مجالات الحياة (وأبرزها الاقتصادو والتعليم)، يحتم علينا التفكير بصورة مختلفة تماما وبحث الأمور بشكل مخالف، أولا من خلال احترام المرجعيات وليس الالتفاف عليها، والتعاون مع أطر مهنية خارج المنتدى، وتعميق التواصل مع محيطنا العربي واليهودي، وبحث الأمور بعمق وشفافية، بعيدا عن آيات التملق وتبييض الوجوه أمام السلطة المركزية، والتواصل مع كل الفئات داخل الطائفة المعروفية، بما فيها تلك الفئة التي اختارت العنف سبيلا.
منعا للالتباس، من المهم التأكيد أنني ضد انتهاج العنف سبيلا، سواء في وجه السلطة وأذرعها أو ضد أي كان، وذلك لأسباب أخلاقية وقانونية وسياسية وسلسلة طويلة جدا من الأسباب. بل من المهم التأكيد أنه، إلى جانب واجب خوض النضال الدمقراطي الشجاع باعباره وسيلة حضارية حين يحتاج الأمر، من المهم أن نتعامل مع كل المواطنين على كل انتماءاتهم وطوائفهم بالمعروف والاحترام وأن نعمل، بكل الطرق والوسائل ومع كل الأطراف، لمحو ظاهرة العنف الفردي أو الجماعي.
في ظل الأمور آنفة الذكر، فإن اجتماع "مقام الخضر" كان محطة خطيرة ومسيئة إلى أقصى الحدود. من المهم، إذا أردنا الخروج من الوحل، أن نحترم مرجعياتنا وأن نعمل إلى جانبها، وليس من فوقها أو من وراء ظهرها. ومن المهم أن نتعامل مع وضعنا الخطير باعتباره وضعا خطيرا فعلا، وأن لا نكتفي بتقديم فواتير الوفاء للسلطة المركزية عن طريق اجتماعات عشوائية وبيانات معدة سلفا. ومن المهم أن نبحث عن أسباب أوضاعنا، ولس الاكتفاء بالتنديد إرضاء لهذه الجهة أو تلك، ووضع خطط حقيقية لمعالجة هذه الأوضاع وليس الاكتفاء بعمليات اكسشوار أمام مرايا السلطة المركزية.