اعتقدُ أن من مهام النقد الأدبي والنقد الاجتماعي الالتفات الى الشخصيات الانسانية البارزة في أي مجتمع كان . هذا أقلُّ ما يمكن أن نقدمه لهم وبأقل تكلفة .
من خلال مشواري مع الحياة حظيت بمعرفة الكثير من هذه الشخصيات , وكان لقلمي شرف الكتابة الموجزة عن بعضهم في اوقات سابقة . وراقني اليوم أن أعرِّجَ على المناضل العريق أحد شعراء المقاومة نايف سليم .
حقا أدهشني هذا الرجل بما يملك من ثقافة واسعة في معظم الميادين , السياسة ،الاجتماع، الأدب والتاريخ . وهو أمميٌّ تقدمي في نهجه وتفكيره , انسانيّ النزعة في الدرجة الأولى يزعجه ما يجري في العالم من حروب وآلام , يحلم بغد يعم فيه العدل والسلام فينتهي الظلم والفقر والاستغلال والجوع , ويؤكد بأن هذا اليوم آت بلا ريب لأن الشعوب المقهورة لن تظل ساكتة الى الابد .
أنه متحدث لبق له في كل موضوع نصيب , فإن سألته عن الأوضاع الراهنة في سوريا وماذا سيتمخض عنها ؟ يحلل المسالة تحليلا منطقيا مقنعا رابطا الأحداث بالانتصارات التي حصلت في بلاد الشام على مر الزمن ضد الطغاة والاستعمار , ويختم كلامه بحتمية دحر الجماعات الارهابية المناهضة للأسد .
وان سالته في التراث تجد عنده اشياء جديدة عليك , على سبيل المثال " العِقال " الذي يثبت فوق الكوفية وهو من التراث . يجيبك أن اساس العقال يعود الى معركة " ذي قار " انتصر فيها العرب على الفرس , ولهذا قصة مكانها ليس في هذه العجالة .
واذا انفتحت سيرة الأمثال يقسمها الى قسمين : أمثال صنعها الاستعمار او تخدم الحكومات مثل " الكف ما بلاطم مخرز " واخرى في مصلحة الشعوب التي ابتكرتها .
وان زرته في بيته يلقاكَ بابتسامة ونبرة طيبة فتشعر بالارتياح ويلمع في ذهنك القول المعروف " الابتسامة تنشر الارتياح وتبلسم الجراح " .
من مزاياه المتعددة قول كلمة الحق في كل الظروف , والبحث عن المعلومة الجيدة حتى يصطادها ويدونها كي لا تضيع .
رجل خفيف الظل حاضر البديهة يحب الفكاهة الهادفة , حدث أن كان مع جماعة في مناسبة في قرية مجاورة لقريته البقيعة وانبرى احد الرجال يوعظ واسهب في الوعظ , ولما خرجوا سأله احد اصدقائه رأيه في الواعظ ؟ وبسرعة أجاب : الخص لكم كل حديثه بكلمة واحدة وهي " سُربخ " أي اركع او اخضع للحاكم ! فضحكوا جميعا وقرروا اطلاق لقب سربخ على الواعظ المحترم .
لا غرابة ان الانسان يعشق وطنه ومسقط راسه بالفطرة , وكوْن المشاعر الصامتة غير مسموعة فالأجمل في هذا الباب التعبير عن هذا العشق نثرا او شعرا . لنرى ما يقوله نايف سليم من قطعة قالها في مهرجان الزجل في البقيعة :
" اهل لبقيعة كبارها وزغارها / بيأهلوا وبيسهلوا بزوارها / عا عدد ما غنى النبع ع حجارها / وعا عدد ما رف النحل ع زهارها / وأهل لبقيعة شيبها وشبانها / بيأهلوا وبيسهلوا /عا عدد مر المي في وديانها / وعا عدد رف الميس عا رمانها " .
انه يتماهى مع الطبيعة بطريقة تحفزك على تصوّر الأشياء التي ذكرها فتحس وكأن تلك الأشياء ماثلة أمامك ، هذا مع حرصه على اظهار كرم الضيافة الذي اشتهرت به البقيعة .
ملاحظتي الوحيدة : في الشعر العامي المكتوب تُحذف الالف للجمع المذكر السالم .
بياهلوا وبيسهلوا تكتبان بياهلو وبيسهلو .
ولعل انشداد الشاعر الى طبيعة بلده الخلابة هو ما فتح شهيته سابقا للغزل الرقيق المشبع بالعاطفة :
" يا حاملة الجرة ومروحا تسقي الحبق / يا مفرفحا زي الحبق يا قرنفله / يا مزهرة يا مجمرة خدودك / يا نجمتي الهادي / يا حاملة غمار الحبق للغيم زواده "
لا شك ان القارئ ينسجم مع هذا الشعر انسجاماً ممتعاً ؛ مما يذكرني بقول شاعر فرنسي : ان الشعر لا يكون شعراً الا بالاتصال بين روحين منسجمتين هما روح الشاعر وقارئ شعره .
وشاعرنا حر الطبع يمقت النفاق ومسح الجوخ ، وقد عبر عن ذلك في قالب هجائي :
" يا مساحين الجوخ ، ليش مكيفين / بفرحة الجلاد ؟ / وحتى ان سلخ جلد العباد / يا مداحين الدمى ، ريتن رموز الذل ما كانوا / لا احنا منكو ، ولا حدا من شكالكو منا / وما في حدا عِنا ، بيغني بأجر جيرانه "
بالمناسبة ان الهجاء له قواعد وأصول ، منها – كما مر معنا – ان جوهر الهجاء الناجح ان تجعل ضحاياك يغتاضون ، وتجعل جمهورك يضحك أو يؤيد قولك . نايف سليم قلّما تجاوز هذا الخط في معظم الذين هجاهم . وهذا يدل بأن له خبرة في هذه الصنعة .
ثمانون عاماً قطع نايف سليم من خارطة الزمن ومازال متفائلا معطاء يبحث يكتب وينشر ، وقد أنجز حتى الآن أكثر من ثلاثين كتاباً بين جمع وتأليف ، في الشعر والمقال والطرائف والأقوال والحكم والأمثال .
ربما العبرة في هذه الثروة اللغوية أنك لا تجد ما يدفعك للتساؤل ما جدوى هذه الشطرة ، أو ما فائدة هذه العبارة ، كما يحصل في الكثير مما نطالعه اليوم ! ان الجملة عنده ناضجة وفي مكانها الصحيح ، ولا أذكر أنني تناولت له كتاباً الا ورغبت بالإستزادة من ابداعه ، والسبب ان نايف سليم هو فنان في اختياره واسلوبه ، يعرف كيف يجذب المتلقي من خلال عملية التشويق والعبارة السلسة ، واللافت في هذه الكتابة ان شاعرنا عفوي في بعضها ، وفي أجزاء منها موضوعي وواقعي يتوخى الصدق والكلمة المؤثرة النافعة .