(لذكرى المرحوم والدي الذي غادرنا قبل 4 سنوات )
اقترب موعد السفر،الأيام تسير بسرعة كبيرة،مضت الأسابيع وبقي على موعد سفره بضعة أيام،لم يسافر إلى خارج البلاد من قبل،إنها المرة الأولى،قرأ العديد من الكتب عن دول وأماكن عديدة،حلق في كتب التاريخ وتسلق الجبال في دروس الجغرافيا شارك نابليون والاسكندر حروبهم التاريخية وتأثر بها ،كره الحروب عندما علم ما جنت وما حصدت من شباب وما خلفت من دمار، فكر :كيف يمكن للإنسان أن يكون بهذه البشاعة؟وما هو الشيء الذي يساوي حياة الإنسان؟فعرف ان الإنسان هو القيمة العليا وقرر الا يكون محاربا وإلا يخدم في الجيش ،تاثرعندما قرأ الإنجيل وصارت كلمات "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم فلسفته الخاصة ،أحب جميع الناس من غشه ومن ساعده وغفرلمن سرق عرقه وتعبه ، ،حلم بدولة سويسرا المحايدة وبمناظرها الخلابة وثلجها الأبيض ،قرأ العديد من الكتب التي طالبت بتحرير الإنسان ،أحب الثورات التي غيرت التاريخ ،تأثر بالأدب الروسي ،قرا لتولستوي وتشيخوف ودستويفسكي وشولوخوف ،وتأثر بتشي جيفارا ولنين ،قرأ عن الشيوعية التي لا تفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان وأعجبته فكرة الأممية تعرف على رفاق يهود وقفوا في خندق العرب ،وعرب تنكروا لعاداتهم وتقاليدهم وباعوا أنفسهم بباخس الأثمان وخدموا أعداء شعبهم،
حلم كما حلم توماس مور وسان سيمون ،وحاول فهم النظرية الماركسية ،تعرفت على الشعر والأدب المقاوم ،قرأ لتوفيق زياد وسميح القاسم وأميل حبيبي ومحمد نفاع ومحمود درويش ،تفاعل مع أغاني مرسيل خليفة والشيخ إمام وفيروز ،سمع عن معركة البقاء وقرار التقسيم وعن الجيش الذي جاء لينقذ البلاد فإذا به بحاجة لمن ينقذه من فساده ،وجد نفسه مدمنا على حب قريته الصغيرة بطوائفها الثلاث وبحاراتها وسفح جبلها وشمسها المشرقة فوق البحيرة صباحا ،المودعة حاراتها غربا .
اقترب موعد السفر ،لم يصدق والده انه مسافر،كان وبحنان الأب وعطفه ينكر فكرة سفر ابنه ،وعندما تحدد موعد السفر أصيب الأب بحيرة كبيرة وقال "لا تسافر يابا،ببيع كل رزقي وأعلمك في بلادنا،اترك موضوع السفر ،اشفف علينا ،نحن كبار في السن ولا نستطيع فراقك ثم إن ديننا ضيق ولا يتحمل الخطأ ،قد تفقد نفسك وتتزوج في ألغربه فتفقد دينك ودنياك،"،حاول تلطيف الجو "كلها 6 سنوات وأعود .
بصوت هامس وحزين أضاف الأب وكأنه يحدث نفسه:أخاف عليك ماذا ستفعل هناك؟في بلاد لا تتحدث لغتها ،في ارض لا تعرفها؟
ترك الأب البيت غاضبا دون أن يبين وجهته،وفي المساء جاء احد الأصدقاء وبكى وهو يخبر صديقه كيف زاره أبوه عارضا وساطته في محاولة يائسة ليقنع ابنه بعدم السفر ،وقال له صديقه لقد بكى والدك في بيتنا وطلب مني محاولة منعك من السفر.
تأثر بكلمات صديقه وبكى ،دموع والده عزيزة عليه ،ولكنه أجاب بإصرار"إنا مسافر والقرار نهائي.
حاول الأب مع جميع أصدقاءه دون جدوى.والإصرار على السفر كان يزداد .
بضعة أيام تفصله عن السفر ،يجب إنهاء جميع المسائل العالقة ،وبدا المودعون في القدوم ،هو أول طالب يسافر للدراسة في الاتحاد السوفيتي من قريته،وكان العادة ان يقوم الجيران والأصدقاء والأقرباء بتوديعه والتمني له العودة بالسلامة.
قبل يومين من سفره قام والده بدعوة الأقرباء والجيران لوليمة كبيرة،جاء الجميع في الموعد المحدد وكان الصغار يتراكضون والرجال يسالون عن أدق التفاصيل ،متى السفر؟في أية ساعة ،كم ساعة ستسافرون؟وكان يجيب بهدوء وبابتسامة.
حان موعد العشاء،تجمع الجميع حول المائدة وطلبوا من والده أن يبارك الطعام،وقف الأب تنحنح وتفرس في الوجوه وبصوت مخنوق قال:"اشهدوا يا هلربع،إذا عاد ابني مع أجنبية سأطلق عليه النار في مطار بن غوريون"،كانت كلماته حازمة واضحة مهددة فتحول المرح إلى وجوم،أما المسافر فارا د ان يعيد المرح والفرح للحضور فأجاب:"لا عليك يا والدي إذا عدت مع أجنبية فسأعود عن طريق ميناء حيفا"
تنهد الأب وقال:"اسمعوا يا هلربع ،علي الحرام إذا تزوج أجنبية وعادوا على ظهر عقاب الجو ،سأطلق عليه النار وعليها وعلى من يحملهم سأقتله لو عاد برا او بحرا او تحت الأرض لن اغفر له:.
ضحك الجميع وضحك معهم ،تناول كسرة خبز مباركا:بسم الله الرحمن الرحيم سبحان من قسم الأرزاق ولم ينسى من فضله احد تفضلوا يا أهلنا.
بدا صوت الملاعق والصحون ،تناول الجميع الطعام أما والده فكان مهموما ،كان يبكي في أعماقه ،رفض فكرة ابتعاد احد أبنائه عنه ،وعندما كانوا يسالوه عمن أحب أبناءه يجيبهم "المريض حتى يشفى ،الصغير حتى يكبر ،الغائب حتى يعود "ألان هو يودع احد أبناءه إلى بلاد غريبة كل ما يعرفه عنها إنها بلاد الثلج والبرد والغربة ، بعد العشاء وفي نهاية السهرة غادر الجميع قائلين:دير بالك على حالك ،أما هوفغادر بعد يومين متذكرا كلمات والده وابتسامته ،وغادر تاركا خلفه أما باكية وأبا عطوفا .
