صدرَ مؤخرا الترجمةُ العربية لكتاب " رائدة من الحي العجمي " - تأليف المرحومة " ناديا حلو" المستشارة لشؤون وقضايا المرأة العربية وعضو برلمان سابقا ... وكانت السيدة ناديا حلو قد أصدرت هذا الكتاب باللغةِ العبريَّة قبل ثلاث سنوات ( قبل سنتين من وفاتها ) وقام بترجمةِ الكتاب للعربيةِ الإعلامي والكاتب والفنان والأديب القدير الأستاذ " نايف خوري".
والجدير بالذكر أنَّ الأستاذ نايف خوري متمكنٌ وضليعٌ جدًّا في اللغتين العربيّة والعبريَّة وترجمتهُ للكتاب جاءت دقيقة جدًّا وحافظ على المستوى الفنِّي الراقي وعلى الجماليَّة والدقة في المعاني وعلى اللغة الأدبية المنمقة في الترجمة،وقد نجدُ بعضَ المترجمين عندما يترجمون كتابا أدبيًّا أو ديوان شعر أو سيرةً ذاتيَّة تأتي ترجمتهم جافة جدًّا وبلغة ركيكة وتكون الترجمة مجردَ جمل وصفحاتٍ تقريريَّة تفتقرُ للطابع والأسلوبِ الجميل وللغةِ الأدبيّةِ المنمَّقةِ وللمستوى الفني وكأنَّ الترجمة هي كتاب آخر لمؤلف آخر يختلف كليًّا عن الكتاب الأصلي الذي قاموا بترجمته .
يقول الأستاذ نايف خوري في تقديمهِ للكتاب ( الغلاف من الخلف ) : (شعرتُ وأنا أترجمُ الكتابَ إلى العربيَّة أنَّ ناديا تقفُ إلى جانبي وتخاطبني بكلِّ كلمة وردَت فيهِ فكنتُ أدوِّنُ على لسانها وكأنه لساني لأنها تجاوزت الحدودَ الشَّخصيَّة المنكفئة على نفسها فانطلقت تخاطبُ الجمهور عامة والإنسانيَّة جمعاء ..وهذا يخلد ما يقول الكاتب ويدخل كلّ عقل ويلج كل فؤاد..إنها مثال المرأة العصاميَّة التي شقّت طريقها من نقطةِ الصفر بمجرَّد أنها رأت مجتمعها بعين المسؤوليَّة والإنتماء والصدق والإخلاص وعبَّرت عن مبادئها بالفعل لا بالقول فقط . وجعلت أعمالها وأقوالها متطابقة مع كلّ إنسان يريدُ الخير لبلادهِ والصلاح لمجتمعهِ ) . ولقد صدق الأستاذ نايف في كلامه هذا.. وهذه المقدمة تعكس وتجسد المرحومة ناديا بالضبط ..تجسِّدُ ..شخصيتها وأحلامها وطموحاتها ومبادئها وإصرارها وكفاحها لأجل نصرة قضايا وحقوق المرأة العربيَّة بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام الذي قسمٌ ووشريحة كبيرة منه ما زالت تعيش في ظروفٍ إقتصاديَّة صعبة في الداخل .
يقع الكتابُ المترجم للعربيَّةِ ( ترجمة نايف خوري ) في 136 صفحة من
الحجم الكبير، ويوجدُ على وجهِ الغلاف صورةٌ للمرحومةِ ناديا حلو وعلى الناحيةِ الأخرى للغلاف من الخلف صورة أخرى للمرحومةِ ناديا مع مقدمة صغيرة للأستاذ نايف خوري. والجدير بالذكر أنَّ الأستاذ نايف كانت تربطهُ صداقة وزمالة مع أكرم حلو زوج ناديا والإثنان أصلهما من قرية الرامة الجليليّة وكانا زميلين على مقاعد الدراسة في المرحلة الإبتذائيَّة والثانويّة .. وبعد أن انهى أكرم حلو دراسته الثانوية تابع دراسته الأكاديميَّة وتعرف على ناديا وتزوَّجا وسكنا في مدينة يافا .
إنَّ هذا الكتاب هو سيرةُ حياة ومسيرةُ كفاح طويلة ٍ للمرأةِ العربيَّة العصاميَّة والرائدة السيّدة ناديا حلو التي انطلقت كمبادرة، طلائعيَّة ورائدة بتشجيع والدها العطوف، ووالدتها الحنون،وزوجها المحب وبناتها البارَّات. واستخدمت وكرِّست افكارَها التحرريّة،واستعانت بقدراتها الذاتيَّة كي تنطلقَ بمجتمعها كله نحو الأمام، لبناء مستقبل أفضل..وذلك بعد أن لامست ورأت عن كثب هذا المجتمع المتخبط والغارق في ديجور الفقر والظلم والإجحاف والتمييز . رفضت هذا الواقع وقرَّرت تغييرَهُ .. ثارت ناديا على الأوضاع ، أبت أن تجلسَ مكتوفة الايدي، بل راحت تقودُ المجتمعَ من حال إلى حال، وأظهرت لفئاتِ المجتمع أنه بوسع المرأة أنَّ تتولى زمامَ الأمور،وتخاطبها: إذا أنا استطعتُ فأنتِ تستطيعين أيضا .. ( حسب ما جاء في المقدِّمة ) .
تتحدَّثُ ناديا في الكتاب عن جذورها وعن عائلةِ جدِّها لأبيها(عائلة قديس) وعائلة جدِّها لأمِّها ( عائلة منيّر) قبل عام 1948 - عام النكبة . فتستعرض تاريخ العائلتين زمن حكم الإنتداب وبعد عام النكبة وكيف أن البعضَ من أقاربهَا في يافا واللد قد سافر إلى خارج البلاد أثناء اندلاع الحرب عام 1948 ولم يتمكن هؤلاء من الرجوع بعد قيام دولة إسرائل وانقطع الإتصال والتواصل معهم لفترة طويلة . وتتحدثُ كيف تمَّ التعارفُ بين أبيها وديع قديس وأمها سلوى منيّر وزواجهما... وتتحدثُ ناديا عن طفولتها الأولى وبيتهم القديم عندما كان الأخوة ( والدها وأعمامها والأبناء جميعا ) يسكنون في نفس البيت ومن ثم أنتقال عائلتها إلى منزل آخر أوسع ..تتحدَّث بتوسع عن والدها وشخصيته القويَّة والمُحِبَّة وأنه إنسان مثقف وكان دائما يدعم أولاده ويؤازرهم ويشجعهم في سبيل النجاح والتقدم وكان يعملُ مدرّسا وصحفيًّا..ولشخصيَّتهِ المميَّزة تأثيرٌ كبيرعلى ناديا وأخوتها،وأيضا شخصية أمها الإنسانة الواعية والمدركة والمثقفة والمحبَّة لأولادِها لعبت دورا كبيرا ... وتستعرضُ بشكل مسهب مراحل طفولتها وكيف كانت نشيطة وفعالة وذكيَّة وتتمتعُ بشخصيَّةٍ قويَّة وكانت مجتهدة في المدرسة ومحبوبة من الجميع ... تتحدَّثُ عن دراستها الإبتذايئَّة والثانويَّة والجامعيَّة فيما بعد واختيارها موضوع العلوم الإجتماعيَّة وتعرفها على السيد أكرم حلو الذي أصله من الشمال من قرية الرامة وزواجها منه ومسكنهم وإقامتهم في مدينة يافا قريبة من أهلها وذويها وعائلتها وإنجابها لبناتها الأربع وتربية بناتها بمساعدة أمها ودراسة البنات حتى المرحلة الجامعيَّة وزواجهنَّ . إلخ . وتدخلُ ناديا في الحديث بشكل موسع وسردي،في كتابها،عن مسيرة كفاحها الطويلة بعد تخرجها من الجامعة حيث حصلت على القب الثاني( الماجستير في العلوم الإجتماعيّة) وكانت تعمل في البداية- بعد الدراسة الثانويَّة وأثناء دراستها الأكاديميّة - موظفة في البنك، وبعد ذلك عملت في المجال الإجتماعي لتتمكن من مساعة أبناء مجتمعها، وخاصة في مدينة يافا التي كان يعاني الكثيرمن سكانها من الفقر وتردِّي المستوى التعليمي والثقافي وغيره من الأمور الحياتيَّة، ووضعت أمام نصب عينيها بشكل خاص المرأة العربيَّة وقضاياها لأن وضع ومكانة المرأة العربيَّة قبل أكثر من ثلاثين سنة كان مترديا جدا .
كانت ناديا حلو المستشارةَ الأولى لقضايا المرأة العربية من قبل السلطات المحليَّة وكرست منصبها هذا للدفاع عن حقوق المرأة من جميع النواحي : الحياتيّة والإجتماعيّة والثقافيَّة والإنسانيَّة وساهمت في الكثير من النشاطاتِ والفعاليَّاتِ والندوات وبإقامة المهرجانات لدعم المرأة وتعزيز مكانتها وتوفير أماكن عمل مريحة لها تضمنُ كرامتهاومعيشتها،وافتتحت الكثيرَمن المراكز والمرافق الهامة بفضل جهدها وكفاحها وجرأتها وتمتعها بشخصيَّةٍ قويّة ومحترمةٍ ومحبوبة من الجميع. فهي امرأة عصاميَّة بكل معنى الكلمة بدأت من نقطةِ الصفر ووصلت إلى ما وصلت إليه بفضل كفاحها وجهدها وكفاءاتها الفذة، وهي المستشارة الأولى والوحيدة والممثلة والناطقة لقضايا المرأة العربيَّة عامة... وقد وقف إلى جانبها ودعمها كثيرا زوجُها أكرم وبناتها... تتحدَّثُ ناديا في كتابها بشكل موسع عن أعمالها وإنجازاتها والوظائف والمرافق التي عملت فيها ..لقد عملت مديرة ومسؤولة في مركز هيرش للطفولة وقدَّمت خدمات كثيرة لأهالي يافا ولأطفال يافا ولأطفال ولعائلات القرى العربيّة المجاورة قبل أن تصبحَ عضوة برلمان.. وأنا، بدوري ، لقد زرتها بشكل شخصي في مركز "هيرش" وأجريت معها لقاء مطولا نُشِرَ في عدةِ أماكن، وخاصة في مجلة الشعاع . وبعد مركز هيرش أنتقلت للعمل في البرلمان حيث فازت في الإنتخابات بجدارة وكانت قد ترشَّحت ضمن القائمة القطرية في حزب العمل وهي العربيَّة الأولى التي ترشح نفسها ضمن القائمة القطريّة . ومن خلال عملها في البرلمان حققت الكثير من الإنجازات، وخاصة بالنسبةِ لقضايا المرأة العربيّة واقتراح سنِّ بعض القوانين الجديدة التي صودق عليها من قبل أعضاء البرلمان والتي تخدم حقوق المرأة والعامل وغيره .. وتتحدَّثُ ناديا أيضا عن عملها في مؤسسةِ نعمت وفي الهستدروت قبل دخولها للبرلمان وقد عينت بجدارة رئيسة لمؤسَّسة الهستدريت وهي أول عربي يُعيَّن في هذه الوظيفة وقامت بإنجازات لا تحصى في مجال الدفاع عن حقوق العمال والعاملات وإلى عدم التلاعب بأجورهم من قبل أصحاب العمل .وتتحدَّثُ عن مرحلة ما بعد خروجها من البرلمان ورجوعها للعمل الميداني الإجتماعي والثقافي وعن سفرها المتواصل إلى خارج البلاد واشتراكها في الكثير من المهرجانات والندوات والأمسيات الثقافية والسياسة وغيرها لأجل السلام وتحقيق الأمن ولأجل مستقبل زاهر وأفضل لجميع المجتمعات ولرفع مكانة الإنسان في كلِّ مكان .. وقد التقت بالكثير من الشخصياتِ الهامة والبارزة : السياسيَّة والإجتماعية والثقافيَّة وغيرها، مثل : كوفي عنان، والملك عبد الله وآرنولد رئيس ولاية تاكساس بأمريكا .. وغيرهم .. وبقيت تمارسُ نشاطها وعملها لأجل مجتمعها وللإنسانيَّة حتى المراحل واللحظات الأخيرة من حياتها . وقد صدر كتابها وسيرة حياتها بالعبريّة قبل ثلاث سنوات (قبل سنتين من وفاتها ) .
وأخيرا:هذا الكتاب ( رائدة من حيّ العجمي) يستعرضُ بتوسع مسيرة حياة السيدة "ناديا حلو" هذه الأنسانة الفذة ويتحدَّثُ عن كفاحها ونشاطها في شتى الميادين حتى قبل وفاتها بسنتين عندما صدرالكتاب باللغة العبريَّة...إنَّ أسلوب ناديا في الكتابة باللغة العبريَّة شائق وجميل وسلس ولغتها الأدبيَّة راقيىة ومميّزة، فهي فنانة في اختيار المفردات والعبارات الجميلة ومتمكنة جدا في اللغة العبريَّة، وهذا ما كنا نراه ونشهده في حديثها وخطاباتها في قاعة البرلمان وفي كل مناسبة .. ولا يقلُّ عن كتابها الصادر باللغة العبريَّة جودةً وجمالا وروعة الترجمةُ العربيَّة له بقلم الصديق الإعلامي الأستاذ نايف خوري .
لقد توفيت ناديا حلو بتاريخ ( 6 / 2 / 2015 ) بعد إصابتها بداء عضال لم يمهلها طويلا عن عمر يناهز ال61 عاما.. وكتابها،الذي نحن في صددِهِ ،قد صدر باللغة العبرية - كما ذكر أعلاه - قبل وفاتها بعامين، وكان لوفاتها وقعٌ أليم على كلّ الذين يعرفونها عن كثب ، وخسارة لا تعوَّضُ لعائلتها ولزوجها وبناتها ومعارفها والأصدقاء وللمجتمع بأسرهِ،ولقد تركت وراءَها فراغا كبيرا لا يوجدُ من يسدُّهُ ويشغله لأنها بالفعل المرأة الأولى الفذة والرائدة في النضال والكفاح في سبيل القضايا الإجتماعيَّة والإنسانيَّة والإقتصاديّة وفي الدفاع عن حقوق المرأة العربيَّة ولأجل الرفع من شأنها ومكانتها في المجتمع .