الشبوبية والفتوَّة والقوة هي ما يشعر به الفتى الشاب أو الشابة في مُقتبل اعمارهم ، وهذه الظواهر قد تدفعهم إلى اقتحام المخاطر وخوض غمار بعض المحرمات والمُنكرات ، وعدم قبول نصيحة الناصحين ، بل قد يتجرأ الواحِد منهم، قولاً أو فعلاً ، على من يُحاول نصحه أو محاسبته مُتقدماً لدعوته أو توجيهه ، من المُقربين أو الغرباء ، فكان لا بُد ، ومن المهم أن يعي الناصح ، خاصة رجال الدين مِن الناصحين ، أن النُصح والهداية للشباب ، في ايامنا هذه ، يختلف ويتميَّز بعض الشيء عن نصح وهداية غيرهم مِن الناس ، ولذلك ، على من أراد أن يدعو الشباب الى الطريق الصواب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، أن يراعي ما هم فيه مِن تخبطٍ في هذه الفترة العُمرية مِن حياتهم ، ويتعامل معهم بما يناسبها .
وكمثلٍ على حُسن التوجُّه في الخطاب ، في مُخاطبة هؤلاء الشباب ، أذكُر ما فعله أحد عِباد الله الصالحين ، رحمه الله ، الذي كان يخرج للتَعَبُّد في الجبال يومياً ، ما فَعَلهُ مع مجموعة من الشباب كانوا دائماً في لهوهم يلهون وفي غيهم يمرحون ، حين مر بهم يوماً وهم كعادتهم في اللهو مستغرقون فسألهم ، بعد تحيَّتهم ووعظهم بالرفق واللين ، قائلاً : أخبروني عن قوم أرادوا سفراً ، فحادوا بالنهار عن الطريق ، وناموا الليل بطولهِ ، متى يصلون غايتهم ؟ فلا يجد الجواب ، فكان يعاودهم السؤال في كل يومٍ مِن جديد ، وذات يوم ، حين مر بهم ، أعاد نفس السؤال عليهم ، فقال شاب منهم : يا قوم ، إنه والله ما يعني بهذا غيرنا ، فنحن بالنهار نلهو ، وبالليل ننام ، ثم اتبع الرجل الصالح ، وسار خلفهُ ، ولم يزل يرافقه إلى الغار ، ويتعبد معه حتى افتقدهما المولى فأخذهما الى جواره ، رحمهما الله .
إنها ولا شك قصة تحوي الكثير من الدروس والعبر ، واذا تفهمنا اعماقها نجد أنه على الانسان المؤمن عدم الانطواء على نفسه ، واكتفائه بإصلاحها ، بل لابد من المشاركة في العمل والسعي إلى محاربة المنكرات ، والدعوة الدائمة للعمل بالمعروف والنهي عن المُنكر . يقول ابن القيم ، ر : " وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة ، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله ، وأكثر الديانين لا يأخذون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس ، وأما جهاد النفس والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والنصيحة لله ، ونصرة الله وأنبيائهِ ، ودينه الحنيف ، دين التوحيد الحق ، فهذه الواجبات قلما تخطر ببالهم ، وأقل الناس ديناً، وأبغضهم إلى الله من ترك هذه الواجبات ، وإن زَهِدَ في الدنيا جميعها ، وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء " ، وَذُكِرَ أن الله ، سبحانهُ وتعالى ، أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية كفر أهلها وسلكوا طريق المُنكر ، فقال المَلَك : يا رب إن فيهم فلاناً العابد الزاهد ! فقال تعالى : " به فابدأ ، وأسمعني صوته " ، والسبب في ذلك أنه لم ينهى القوم عن ارتكاب الخطايا واجتناب المنكرات والمُحرمات .
فنعلم من هذا خطورة ترك محاسبة النفس والغير خاصة على من ظن أن الدين عبارة فقط عن صلواتٍ يؤديها ، أو تسبيحات يتلفظ بها ، وغفل عن أن الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدمه الله في الذكر قبل أمور عظيمة ، يقول سبحانه : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " - سورة التوبة:71 - ، فقبل أن يذكر الله سبحانه الصلاة ، وطاعة الله ورسوله ، ذكر الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
ومما نستفيده من هذه القصة كذلك تجديد أساليب المُحاسبة ، للنفس أو للآخر ، فقد يظن أحدهم أن المحاسبة لا تكون إلا بالقوة ، وبالتهديد والوعيد ، وليس هذا بصحيح بل لكل مقام مقال ، فالأسلوب الذي سار عليه ذلك الرجُل الصالح الذي ذكرته في بداية المقال مع الشباب كان بالكلمة الطيبة غير المباشرة ، وفيها الموعظة الحسنة ، والتذكير الراقي ، وضرب الأمثال ، وهذا ما نحتاجه خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيه المغريات ، وكثرت فيه سبل الشر ، وسُبُل الخطيئة ، بل وتعددت أساليب ترويج المنكرات ، فمن قنوات فضائية إلى مواقع إلكترونية إلى صُحُف ومجلات هابطة ، وكل هذه التقنيات تحتاج في مقابلتها تجديد في أساليب المُحاسبة ، وتنويع في طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ونستفيد كذلك من قصتنا أعلاه أهمية الاستمرار وبذل الجهد الدائم في الوعظ والمحاسبة ، وعدم اليأس والقنوط ، فقد كان ذلك الرجل الصالح لا يمر على أولئك الشباب إلا ويذكرهم بالله ، ويعظهم ، حتى فتح الله سبحانه قلوبهم .
إن صلاح حال ذلك الشاب الذي تاب بعد النصيحة المستمرة مِن ذلك الرجل الصالح لباعث لكل شخص على حُسن الظن بالناس ، وعدم الحكم المسبق بعدم استجابتهم للوعظ اذا وعظوا ، وعدم قبولهم للحق ، فكم أصلح الله من أناس قال الناس فيهم: لا يمكن لهذا ، أو لهؤلاء ، أن يتوبوا ، لكن أمر الله فوق كل شيء . والأمثلةُ كثيرةٌ كثيرة .
وعلى كل شخص منا أن يعلم أنه لابد أن يوجد في كل مجموعة ، من الذين يجتمعون على المنكرات ، من يحب الخير ، ومن له قلب حي يسمع الموعظة ، ويستجيب للنصيحة ، وعليه فعلينا أن لا نتجاهل أحداً لانتمائه الى تلك الشلة ، أو تلك العُصبة ، ففيهم ، بإذن الله من سيستجيب ويعمل بما يرضي الله ، بل وقد يصبح من الدُعاة أعوان الخير ، الداعين إليه ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، فالى جانب الحذر من شر الأشرار لابد أن نجدد الدعوة لهم ، ونأتيهم من كل طريق نستطيعه .
ولا يكفي أن يدعو أحدنا فلانا الى الخير حتى إذا انتهى عن المنكر يتركه ، ولم يدر في أي طريقٍ يسير ، بل لابد من متابعتهِ ، ولابد من الاهتمام به لأنه يحتاج إلى ارتباط موَثَّق بالصالحين ، وتواصل مع العلماء والدعاة والمصلحين ممن يحملون أمر هذا الدين ، دين التوحيد ، وقد يحتاج ، وهذا أمر مهم جداً ، إلى رفقة صالحة تدعوه إلى الخير وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، كي لا يعاودهُ ماضيه ، وتغطي عنده الفراغ الذي قد يجده من ترك الرفقة السيئة ، فهذا سبب عظيم من أسباب الثبات على الدين ، وعدم العودة إلى المنكرات . يقول الله جل وعلا : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " - الكهف:28 .