بسم الله الرحمن الرحيم
يتزامن في هذا الشهر، حدوث ثلاث مناسبات دينية عزيزة علينا، نحتفل بها، وتعيدنا إلى جذورنا وأصولنا التوحيدية، وتنعش فينا العقيدة والإيمان، وتهدينا إلى التعاون والمحبة وحفظ الإخوان. وهذه المناسبات الثلاث هي : الزيارة السنوية التقليدية لمقام سيدنا سبلان عليه السلام، وحلول أيام العشر المباركة وعيد الأضحى السعيد، ومرور ثلاث وعشرين سنة، على رحيل المرحوم سيدنا المفضال الشيخ أمين طريف، شيخ الجزيرة، وشمسها المنيرة.
ويكفي في كل مناسبة من هذه المناسبات، أن نتأمل ونعتبر بما منّ الله تعالى علينا من نعم لا تحصى، وأسماها هدايتنا الى معرفته وطاعته بواسطة رسله وأنبيائه وأوليائه، فهم مصابيح البصيرة والشموس المنيرة، فأحرى بنا جميعا أن نحاسب أنفسنا من جديد ونقومها على صراطهم المستقيم، فنزرع الألفة والمحبة والتسامح في قلوبنا ومجتمعاتنا، ونسلك سبيل التقوى والديانة، لتدوم علينا النعم، وتنأى عنا المصائب والمحن.
وليس غريب عن البال، أننا نعيش في هذه الآونة، في فترة صعبة حرجة من تاريخ طائفتنا المجيد، حيث يتطلب الأمر منا، أن نكثف من مساعينا وأن نقوم بواجباتنا، ونعمل كل ما بوسعنا، لنخفف عن إخواننا وأهالينا الأعباء المثقلة بالأسى والقلق جراء فساد القيم والحضارات، واعتماد الجور والعنف والعداوات. أن تكون ضمائرنا نقية، وأن تكون نفوسنا طيبة، وأن تكون نوايانا صادقة، وأن تكون أعمالنا من أجل المصلحة العامة والخير والسعادة للجميع. وأن لا نسعى الى تقوية فئة على فئة، من أجل أغراض دنيوية رخيصة، وأن لا نكون غرضا لتحقيق غاية الأشرار. فالله ورسوله يلعن كل من يسعى الى التفرقة والفتن في مجتمعنا التوحيدي الأصيل، وأن يأخذ بناصية قادته وأبنائه أينما كانوا الى السلام والبر والفلاح.
ولا يسعني هنا، إلا أن اتقدم من جميع ابناء الطائفة الدرزية، بالتهاني والمباركات بهذه المناسبات، راجيا من الله، أن تنجلي عن سماء الطائفة، كافة الغيوم الملبدة، وأن تنقشع وتزول الهموم التي تهدد إخواننا في سوريا ولبنان، وأن تحل البركة والخير والنعيم في كل بقعة من أراضينا، وأن ينعم جميع أبناء الطائفة وجميع السكان، بالطمأنينة والهدوء والسلام وراحة البال.
وعندما نجتمع في رحاب مقام سيدنا سبلان عليه السلام، هذا المقام الشامخ المنيف، وهذه الزيارة التي انتهجت قبل عشرات السنوات، تجعلنا نتمسك بمعاقلنا إلى جوار الصقور، في أعالي الجبال، لنحافظ على كياننا، وعلى عقائدنا، وعلى رسالتنا أن تظل نقية طاهرة دون أي شائبة. وهذه الزيارة التي تقرر ميعادها في بداية فصل الخريف، هي زيارة هامة، تجمع الشمل، وتوفق بين الإخوان، وتغرس في النفوس البهجة والحبور، في موقع توحيدي هام. وزيارة سيدنا سبلان عليه السلام، هي حلقة من حلقات الزيارات الموسمية السنوية، التي تقرب بين إخوان الدين وبقية أبناء الطائفة، وتجمعهم في الرحاب القدسية، وفي الربوع النبوية، في جو من التعالي والتآخي والتقوى والإرشاد.
زيارة مقام سيدنا سبلان عليه السلام تزداد هذا العام بهجةً وروعةً وقدسيةً، بحلولها في أيام العشر المباركة، والتي تجمعنا قبيل حلول عيد الأضحى المبارك، لنقف وقفة تأمل ورجوع واستعادة لما فعلناه، فإن كان في عملنا شيء من الإساءة الى إخواننا والمجتمع، او سوء نية تجاههم، فنطلب السماح والغفران من الله ومنهم، ونبتهل إلى الله سبحانه وتعالى، أن يساعدنا، أن تصفو نفوسنا، وأن تنقى أفكارنا، خاصة ونحن مغمورون في قدسية وطهارة ليالي العشر المباركة، التي تجعل الإنسان يوما بعد يوم، يتألق حولها إلى ذروة الإيمان والعقيدة والخشوع والخضوع إلى الله سبحانه وتعالى. تهافت رجال الدين وأبناء التوحيد إلى زيارة الخلوات المباركة في ليالي العشر، تضفي على القرى كلها، أجواء مفعمة بالتقوى والأيمان ، وتجعل من هذا الحدث أمرا يبعث إلى الخشوع والطهارة.
الأجواء الجميلة والمباركة، التي تخيم في جميع القرى المعروفية، خلال ايام العشر المباركة، تكون مشبعة بالنقاء والطهر وعبق الإيمان في كل مكان. وفي هذا الجو، تتصافى القلوب، وتحل المشاكل والعقد، ويحاول كل إنسان، أن تمر هذه الفترة، وهو يشعر بالطهارة والنقاء، وأنه قام بواجبه، وأنه فعل ما هو متوقع منه، كإنسان توحيدي، سواء أكان متدينا أو غير متدين.
ومع حلول أيام العيد المباركة، يخيم في كافة القرى الدرزية، جو من التفاهم والتآخي والتزاور والتقابل، يكسب السكان والمشاركين مخزونا من التقوى والإيمان. وإن ما يثلج صدورنا ويزيدنا عزة وفخارا، هو أننا نسمع ونقرأ عن إخواننا الموحدين الدروز في بلاد الاغتراب، أنهم يقومون بالشعائر الدينية، وأنهم يحاولون أن يتجمعوا، وأن يحتفلوا سويا بعيد الأضحى المبارك، في أجواء تعيد إليهم، ارتباطهم بالقرية والمبدأ والمنشأ والأسرة والعقيدة، والأجواء التي خرجوا منها، حينما تركوا بلادهم. ويسعدنا أن نحيي جميع أبناء الطائفة الدرزية في البلاد، وفي كل بقعة من بقاع العالم، وأن نهنئهم بالعيد السعيد، راجين منهم أن يحافظوا على جذوة التوحيد، وأن يرفعوا رؤوسهم، وأن يشمخوا بأنهم ينتمون إلى طائفة لها كيانها، ولها شموخها، ولها حضورها وقدراتها وصلابتها وأهميتها، حيث أثبتت الأحداث الأخيرة، كيف إذا هبت الطائفة الدرزية المعروفية دفاعا عن العرض والأرض والكرامة، يسمع رنين هباتها في كل مكان. حيث أولياؤها الشيوخ الأفاضل يرجفون قلوب الأعداء بدعائهم المستجاب، وكراماتهم المؤكدة، وعزمهم الواثق. ويزرعون في قلوب أبنائنا جميعا الصبر والشجاعة والقيم والعنفوان.
وفي كل سنة، وفي الأيام الأولى من شهر تشرين الأول، نستعيد الموقف المهيب، حيث رحل عنا فضيلة سيدنا المرحوم، الشيخ أبو يوسف أمين طريف، فاهتزت البلاد، لرحيل الأسياد، فأتاه مودعا الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقريب والبعيد، حاملا في قلبه كل منهم جراح الأسى ترافقها دمعات الفراق السائلة على الخدين، فضاقت الهضاب والوديان بالمشيعين من كل حدب وصوب، وحطت مئات وآلاف المشيعين، بجوار قرية جولس، لوداع فضيلة المرحوم الوداع الأخير. حاملة مآسيها، شاعرة بعظم المصاب لفقد هذا السديق الولي الانسان الحكيم المليء بالمكارم والكرامات، الذي ساد بالفضيلة، وعلا بالعزة والكرامة في الحياة وبعد الوفاة، تاج العصر وسيد الجزيرة، ودرة مشرقة على جبين التاريخ، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في كافة أنحاء الشرق الأوسط، وعند إخواننا أبناء الطائفة الدرزية، وغير أبناء الطائفة الدرزية.
ونتذكر حضور كبار زعماء البلاد من جميع أبناء الطوائف، أصحاب المناصب الحكومية والرسمية والدينية والاجتماعية وعشرات الالاف من سكان البلاد، ليقفوا مع أبناء الطائفة الدرزية، في وداع فضيلة المرحوم. ومئات الشخصيات الدرزية اللبنانية، التي استطاعت الحضور آنذاك، لتشارك في هذا الموقف الرهيب المهيب.
وفي كل سنة نستعيد هذه الذكرى، لنثبت العهد، أننا سائرون في الطريق الذي رسمه لنا فضيلته، من حيث الارتباط بالأرض، والإخلاص للوطن، والتعايش بإخاء وسلام مع كافة أبناء القرى حولنا، والتضحية من أجل الوجود والبقاء، والمحافظة على العادات والتقاليد، والرجوع الى مبادئ مذهبنا التوحيدي. ومع مرور الزمن، نجد الحكمة والتعقل والرزانة وبُعد النظر، الذي اتصف به فضيلة سيدنا المرحوم الشيخ أمين طريف، وصحبه من رجال الدين الأتقياء، وقد استنار بهذه الحكمة المنيرة زعماء هذه البلاد، وتتجلى هذه الحكمة في المحافظة على كياننا، وعلى شخصيتنا التوحيدية، وعلى تراثنا وأمجادنا وتاريخنا. فرحمة الله على فضيلة سيدنا الشيخ وعلى كافة المشايخ الأفاضل الذين رافقوه في هذا الطريق. وأعزّالله كل من اتبعهم بعزه وكنفهم بظله.
وهنا، لا يسعني إلا أن أتوجه إلى جميع ابناء الطائفة الدرزية في كل مكان، وأدعوهم إلى الوحدة، والتآلف، والتكاتف، والتعاضد، والتسامح، ونبذ الأحقاد، والتعالي والتجاوز عن صغائر الأمور، والعمل على التقدم والترقي، وانتهاج العلم، والمحافظة على البيت والأسرة، وبالتضحية بالغالي كي تظل الراية التوحيدية عالية ترفرف في كل مكان. راجيا من الله، سبحانه وتعالى أن يحل عيد الأضحى القادم وقد ساد الأمن والاستقرار والهدوء والسلام في كافة أنحاء البلاد ودول المنطقة.
وكل عام وأنتم بخير