بقلم : نمر سعدي
أُصارحكَ القولَ أيُّها الآخرُ يا أخي.. يا صديقي وشاعري القريبَ إلى حافةِ القلبِ كحبَّةِ اللؤلؤِ والمملوءَ بالشَجَنِ الدافئِ كمياهِ الينابيعِ الجوفيَّةِ.. أنَّني منذُ كنتُ وأنا أبحثُ عنكَ كمن يبحثُ عن خيطِ النورِ في غابةِ الظلامِ وأتلَّمسُ نبضَ شعركَ في الريحِ الزرقاءِ العقيمةِ.. لقدْ كنتَ قنديلي في البداياتِ ونجمةَ ليلي الدجوجيِّ البهيمْ.
كنتُ أسألُ عنكَ عبثَ الروحِ وضياعها وأركضُ خلفَ سرابكَ اللا متناهي المضيءِ بماءِ السحرِ والنبوءة.. وعندما كنتُ أغرقُ في خضَّمِ ألمي وأسئلةِ وجودي أجدكَ يداً من حريرٍ خضيرٍ تمتدُّ لي كتلويحةِ الشمعِ الأخضرِ.
وكم مرَّةً شحذتُ همَّتي التي فتَرَتْ مراراً وتكراراً لكتابةِ قصيدةٍ جديدةٍ حبلى بالنورِ والحدائقِ البابليةِ.. وكنتَ لي حينها أجنحةَ النسرِ في مواجهةِ العاصفةِ الرعناءِ.. والشراعَ القزحيَّ في مواجهةِ التيار الهادر.
كانَ كلامكَ يشبهُ عطفَ وحدبَ الأبِ على ابنهِ الضَّالِ في متاهةِ الحرِّيةِ والحُبِّ الخائبِ.. معكَ أعرفُ أنَّ الحياةَ لا كما يُصوِّرها لنا الآخرونَ أنَّها أوتوبيا عادلة ملأى بالفراديس وكنتَ تضحكُ في أقاصي روحكَ سراً وتقولُ أنَّهُ ولا حتى مليونَ شاعرٍ كفرجيلِ أو هوميروس أو محمود درويش أو المتنبِّي أو ربمَّا ملارمه أو شكسبير أو يانيس ريتسوس بقادرينَ ولو للحظةٍ واحدةٍ وقفَ هذهِ المأساةَ أو تحويلَ هذهِ الحياةَ الرجيمةَ إلى أوتوبيا شاعريَّةٍ عادلةٍ تنادي بالقيَمِ الساميةِ ولكنَّكَ كنتَ تقنعني بأنَّ مرضَ الكتابةِ والشعرِ قدرٌ من السماءِ لا مفرَّ لنورسِ القلبِ منهُ ولا مناصَ لفراشاتِ الندى والأقحوانِ من نارهِ الملساءِ الحمقاءْ.
ألشعرُ إذن قدرٌ من السماءِ وعلينا نحنُ العبيدُ البسطاءُ أنْ نتقبَّلهُ نعيماً كانَ أو جحيماً.. شوكاً أو زنبقاً.. مطراً ناعماً أو أحجارَ سجيِّلْ.
أنتَ يا آخري الذي لمْ أستطع الإفلاتَ منهُ... من أغراني بهذهِ اليوتوبيا الكاذبة والخُلَّبِ كبرقِ الحياةِ... أنتَ لا أحدَ غيركَ من دفعني على مركبِ سندبادَ لأعيدَ فصولَ روايةِ يوليسَ وأعيشَ العمرَ كلَّهُ على قلقٍ كأنَّ ريحَ المتنبِّي من تحتي ومن فوقي وعن شمالي ويميني وفي قلبي وروحي.
لا تزالُ كلمتكَ ترنُّ رنيناً خفيفاً في سمعي وترسبُ في قاعِ القلبِ كالدرةِ الثمينةِ في جوفِ البحرِ الصامتْ.... أنا في شوقٍ ربيعيٍّ خاسرٍ لتلويحةِ مراياكَ المندثرةِ وأنهمرُ كالضوءِ على عالمي الداخليِّ وجسمِ الأوتوبيا.. وليذهبْ ندمُ ديكِ الجنِّ على حبيبتهِ وردَ إلى الجحيمْ... وليصيرَ شعرُهُ هلاماً لكلامي.
مرَّةً قلتَ لي ما معناهُ أنَّ القصيدةَ هيَ مركبٌ سكرانٌ من مراكبِ رمبو ربَّما يحملكَ إلى الفردوسِ أو إلى الجحيمِ.. القصيدةَ شتاءٌ من المجازِ الحُرِّ مُبلَّلٌ بالأحاسيسِ الغريبةِ والاستعاراتِ المُجنَّحةِ.. ودربٌ مسكونٌ بالنورِ والندى وعبقِ الأرجوانِ إلى الأوتوبيا الموعودةِ المُعلَّقةِ في أعلى اشتهاءاتنا الخاسرةِ.. تلكَ التي كانتْ كانت قابَ قبلةٍ من دمي ولمْ أنجحْ البتَّة باحتوائها ساعةَ احتضانِ ضبابها اللا مرئِّيْ والمخاتلِ مثلَ نهرٍ يختبئُ في السماءْ.
منذُ تلكَ اللحظةِ وأنا أبحثُ عنكَ وعنها في خلايا دمي وفي قصيدتي ورمادِ عنقائها وترابِ سمائها البلوريِّ بلا فائدة.. أبحثُ عنكما فلا أرى غيرَ ظلِّكَ رابضاً على مساحةِ الشعرِ والحدائقِ والشتاءِ... ولا أرى غيرَ تطايرِ أوراقها المُلوَّنةِ في السماءِ السابعةِ ولا أحسُّ إلاَّ بانسرابِ شعاعها من وصايا دمي وأقاصي هيامي.
نمْ أنتَ يا صديقي وهيَ هناكَ في البرزخِ اللا محسوسِ تماماً كالقصيدةِ التائبةِ المحمولةِ إلى أعلى فراديسِ انتظاري... أمَّا أنا فلا لن أحطَّ رحالَ حلمي ولن أصادقَ غيرَ ريحِ جديِّ المتنبِّي... سأصعدُ أعلى هاويةٍ فيكما وأصرخُ كالذئبِ الضاري في ليلكما الحميمِ... وأبحثُ عنكما إلى الأبدْ..... إلى الأبدْ.