في خضم الأحداث والمشاكل والتعقيدات التي تمر بها المجتمعات البشرية ، أصبحت الرواية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى باعتبارها القالب الأدبي الذي يتسع حتى للتفاصيل الدقيقة .
وكوْني من عشاق الرواية أشعر بالإرتياح كلما بزغت رواية محلية ، لكن ليس كل رواية !
سَرني ان الصديق الشاعر الكاتب فهيم ابوركن قد غامر بإصدار روايته " العبوة النازفة " في العام 2015 . لكن هل وفقَ بمغامرته ؟
سنوضح ذلك في السياق .
حسب وجهة نظري ، في الرواية نقطتين أساسيتين ، أمّا أن يقصينا الكاتب خارج النص غير آسفين ، فنعرف ان روايته فاشلة ، وأما ان يدخلنا في أوراقه ، ومن هنا يبدأ نجاح الرواية .
فهيم ابوركن أدخلنا في مناخ روايته منذ الصفحة الاولى ، استهلها بالوصف الجميل :
" كان الجو ربيعياً معتدلاً ، ونسيم البحر الرقيق يداعب شواطئ حيفا ، أما ضوء القمر الفضي فكان ينعكس على وجه الماء ويتكسر مع الأمواج ، والسفينة تمخر عباب البحر ، بينما انوار حيفا ترحل مع الأفق الذي بدأ يبتعد رويداً رويداً "
وفي هذه اللحظات تظهر على متن السفينة الشخصية المحورية أو بطل القصة " أديب " إبن قرية عسفيا يغادر أرض الوطن الى بلاد الغربة ، يحس بأنه ينسلخ عن عالمه ، محيطه ، بيئته وأسرته ، يتوتر ، ينتابه ألم الفراق ، ويستبد به الحنين ، فيذرف دمعة !
نتعاطف معه ، نلاحقه بمشاعرنا كلما ابتعد عن الشاطئ ، نود لو يلغي سفره ويعود !
بافتراض انه عاد ستنتهي القصة عند هذا الحد ولا يبقى للرواية من أثر ! لكن الرواية موجودة بأحداثها وفصولها ، وتقدر بحوالي ثلاثين ألف كلمة ، علماً أن هناك شبه إجماع بأن حجم الرواية يجب أن يصل الى خمسين ألف كلمة في أقل تقدير .
حسب رأيي ان المقياس ليس بالحجم ، إنما بما تتركه الرواية من أثر في النفس ، وبما تتيح لنا من فرص التجاوب معها . ولعل من أسباب تجاوبنا مع " العبوة النازفة " توافر عنصر التشويق ، لاسيما في " المونولوج " أي الحوار الداخلي للشخصية المحوارية " أديب " . والحوار الداخلي عامةً من سمات الرواية المعاصرة ، فكاتب القصة العصرية – كما مر معنا – يلزم من الناحية الفنيّة برسم شخصيات قصصه من الداخل ، أي من خلال تفكيرها وسلوكها وتجاربها للظروف المحيطة بها .
فهيم ابوركن قام بهذه المهمة بصورة مرضية ، إلا انه ضغط ، أو لنقل أخضع شخصية أديب للكثير من الحوار ، حتى خشيتُ ان يتمرد على الكاتب !
وما دمنا في سيرة الشخصيات والتي هي من الأركان السبعة المعروفة في الأعمال الروائية ، فالشخصيات عند فهيم أبوركن هي شخصيات متنوعة ، منها شخصيات عميقة وشخصيات مسطحة ، كما يقتضيه الحال .. والشخصيات تأخذنا بالضرورة الى الحوار الذي يخفف من رتابة السرد ، ويضفي على الرواية لمسة تجعلها تبدو أكثر واقعية .
وللحوار في الرواية شروط ، منها الإيجاز ، والتلميح اللطيف ، والإيحاء الجذاب . وهذا وارد عند فهيم ابوركن بنسبة لا بأس بها . كنت أحبذ لو ابتعد عن لهجة الخطابة والتطويل ، كما حدث في الحوار بين مشهور وأديب :
" أجاب أديب : يتحتم علينا أن نحقق إحترام قوميتنا ، ونبنيها بناء محكماً ، لا يصدعها تفكك طائفي أو اقليمي أو غيره ، دون أن نمس باستقلالية طوائفنا التراثية أو الدينية ... وإلا لما استطعنا ان نشارك بإحلال سلام اجتماعي في المستقبل على إنسانية هذه المعمورة "
في الواقع ان الرواية لا تحتمل الكثير من الجد ، فهي ليست وثيقة او تاريخ ، بل هي هدف جمالي اكثر منها قصة حقيقية ؛ لم أستغرب ان رواية فهيم كانت في بعض أجزائها جدية للغاية ، كوْنها تتحدث عن واقع صعب معاش ، لكنها حملت الكثير من الملامح الجمالية ، خاصة ان الخيال لعب فيها دوراً جيداً وأضفى على الرواية جواً من المتعة . ومما عزز هذه المتعة مشاعر الإرتياح المتبادلة بين أديب وأحلام ، الأمر الذي ينبئ بأن قصة حب تتهيأ لنسج خيوطها على ظهر السفينة .. والحب بطبيعته هو مادة شائقة تغري المتلقي بالمتابعة والترقب ، وبهذه الطريقة أو هذه التقنية يوصل الكاتب فكرته أو هدفه الرئيس .. وهذا ما فعله جرجي زيدان في قصصه التاريخية ، مثال ، كقصة الحب المثيرة التي اخترعها بين الوزير جعفر واخت الرشيد ، من خلالها وقفنا على نكبة البرامكة بتفاصيلها وتراجيدية أحداثها .
من مقومات الرواية العقدة او الحبكة ، والعقدة تستلزم نوعاً من الصراع ، إذ لا يمكن وجود الصراع بدون عقدة .. في العبوة النازفة كان الصراع جلياً ومثيراً ، وهذا يشير ان الحبكة أدت دورها بامتياز ..
واذا كان الصراع روح الدراما ، فالدراما هي روح القصة . في رواية فهيم كانت الدراما تخفت أحياناً ، أو تنقطع حين تصل الى نقاط لا تناسب المواقف الدرامية العشرة المعروفة ، وفي فصول عديدة كانت الدراما نشطة حيوية تحرك المشاعر وتحفز الذهن ..
في الفصل الأخير من الرواية وصلت الدراما الى قمتها ، حين ألقي القبض على أديب بتهمة أمنية خطيرة هو بريء منها فأودع السجن.. وهكذا يمكن أن نُدرجَ هذه الرواية في إطار ما يسمّى الرواية المفتوحة وليس المغلقة.