قرأت رواية "السفرجلة" التي تُصوّر حالة شاب فلسطيني، ابن للاجئ ، يحلم بالعودة التي تشكّل محورًا أساسيّا في حياته، بطولها وعرضها فرأيناه في الرواية "يدخل دهاليز الحياة بشغف وهو يعلم تماما أن حياته كفقاعة صابون، مهما كبرت نهايتها حتما الانفجار".
عنوان الرواية يذكرني بالمثل الشعبي ""قال شو بدي اتذكر منك يا سفرجل كل عضة بغصة" وحيدر يقول في صفحة ما قبل البداية "الحياة أشدّ فجورًا من خيالاتها، السفرجلة حياة، كلّ قضمه منها بغصّة" وهذه صورة الفلسطيني وحالة تشرّده عبر صفحات الرواية.
بطل الرواية ابن للاجئ من بلدة "يبنة" (قرية فلسطينية مهجّرَة من أكبر القرى العربية في قضاء الرملة، وتقع بين يافا وعسقلان)، وُلد في مخيم معسكر "المغازي" لللاجئين، أحد مخيمات قطاع غزة، والده مُطارد من أجهزة الأمن الاسرائيلية، فيترك زوجته العشرينيّة مع أطفالهم الثلاثة، يبدأ رحلة التشرد من المخيم ليلتحق بوالده في درعا ومن ثم إلى مخيم اليرموك في سوريا ومنها إلى لبنان وتونس والأردن ل"يعود" بعد أوسلو – عودة مبتورة إلى مخيمات غزة عِوضًا عن العودة المنشودة إلى يبنة!
يغلب على الرواية النص الصحافي التقريري فيصوّر حياة ابن المخيم بمنظاره على طبيعتها، بعيدًا عن النظرة النمطيّة البطوليّة، فيحدّثنا عن بؤسه وشقائه حيث يتلذّذ في الشتاء في التبوّل داخل الفراش، وذلك للدفء الذي تمنحه إياه حرارة البول !! ويحدّثنا عن شقاوته فيسرق البيض من قنّ الجيران، يسرق البرتقال والليمون والبطيخ والفقّوس من بيارات الجيران، فالسرقة رياضة شعبية، ويحدّثنا عن اللواط بين الذكور الصغار كأمر عادي حيث الفحش والبذاءة وافرين وفرة الفقر نفسه الذي يشكّل دفيئة حاضنه لخيالات جنسية تندلع "مع اندلاع أصوات الغنج والتأوه الجنسي بين الزوج وزوجته وبين الأب والأم".
تُصوّر الرواية الوضع الاجتماعي، الصحّي، التعليمي والاقتصادي للمخيمات ويصوّر حيدر الوضع المأساوي والمعاناة اليومية من فقر مدقع وتلّوث بيئوي يؤدي للأمراض، فالبطل يعاني من اجتياح القمل، ومعدته كقربة منتفخة من الديدان والفطريات لتلوّث المخيم وقذارته ويتطرّق لوكالة الغوث ودورها المركزي في المخيّم، ورغم ذلك يظل المخيم ولغته وبذاءته في الشتيمة حاضرتين فيه أينما ذهب فيقول "لم يُغادرنا المخيّم حقا".
يتميّز المنكوبون من أبناء شعبنا بأن يُطلقوا أسماء قراهم ومدنهم المهجّرة على أسماء مدارسهم التابعة لوكالة الغوث والدكاكين والحانات والشوارع والأزقّة، وكذلك على أسماء أولادهم وعائلاتهم، فنرى شارع لوبية/حارة صفد/دكان حيفا/بقالة يافا وغيرها، فحملوا حلم العودة وورّثوا أولادهم ذاكرتهم، فالآباء أورثوا هذا الحلم لأبنائهم وأحفادهم والأمهات أرضعنه لأبنائهن وكل طفل يولد يقول أنا من قرية كذا رغم أنه لم يولد هناك فيحفظ تضاريسها وعائلاتها عن طيبة قلب وتبقى العودة حلمًا باقيًا والمفتاح رمزها لذاك القفل، وبفضل التواصل الذهني والبصري بين اللاجئين وأبنائهم صار المخيّم وقود الثورة الفلسطينية المعاصرة !
يجول حيدر في تجربته "الذاتية/الشخصية" ليسلّط الضوء على مرحلة مركزية من تاريخ النكبة الفلسطينية ومأساتها مرورًا بالمخيّمات داخل فلسطين وفي الشتات ليُغلق الحلقة بتحقيق "العودة" الجزئيّة والوهميّة لمقرّبي السلطة والمَرضِي عنهم إثر اتفاقية أوسلو، تلك الاتفاقية المشؤومة التي نسفت حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم التي هُجِّروا منها إثر نكبة عام 1948، معرّجًا على دور منظمة التحرير الفلسطينية ورجالاتها ومُنتفعيها، مُقحمًا ظاهرة البعثات الطلابية التعليمية للدول الاشتراكية الداعمة للشعب الفلسطيني وتصوير حال الطالب الفلسطيني المغامر والمقامر، على علّاته.
نرى حيدر يصرخ صرخته ضد "الموروث" والمعتاد فيوجّه اللوم المبطّن ضد ظاهرة الالتحاق بالثورة دون تحضير وتدريب مسبق ودون جهوزيّة لتكون ثورة "5 نجوم"، وضد نهج وممارسات الزعامة الفلسطينية التقليدية في لبنان وتونس، ويتذمّر من مواقف الأنظمة العربية تجاه فلسطين وشعبها وقضيّتها .
حيدرعوض الله من مواليد قطاع غزة عام 1966، وانتقل منذ صغره ليعيش في مخيمات سوريا، تلقى تعليمه الجامعي في جامعة صوفيا في بلغاريا، وحصل على ليسانس في موضوع الفلسفة وله كتاب بعنوان: “بانوراما الانتفاضة، الحصاد المر”، وأشغل رئيسا لتحرير مجلة الطريق. إنه كاتب جريء فصال وجال ونقد العديد من الظواهر السلبية دون مُواربة ومُراءاة بأسلوب تقريريّ، أقرب إلى التحقيق الصحافي منه إلى الرواية، يفتقر للحبكة وفنّية السرد الروائي ولكن كونها تجربته الروائية والقطرة الأولى من غيث عطائه تشفع له، فتُنبِئ ببداية مسيرة روائية واعدة تشقّ طريقها الحتميّة لتحتلّ مكانًا ومكانةً على الساحة الأدبيّة العربيّة.
أعادني الكاتب الفلسطيني حيدر عوض الله في روايته " السفرجلة" ، الصّادرة عن مؤسسّة "الأهلية" للنشر والتوزيع الأردنيّة وهي تحوي في طيّاتها 205 صفحة من الحجم المتوسط ، لوحة الغلاف للفنان التشكيلي الفلسطيني أياد صبّاح، إلى الكاتب الإيطالي فابيو فولو في روايته (نور الصباح الأول) إذ قال "سنوات انتظرت أن تتغير حياتي، الآن عرفت أنها كانت تنتظر مني أن أتغير". فرغم الغصّة وتعثّرات الوضعية الفلسطينية وتقلّباتها لا يتغيّر وضعنا ليُنهي حيدر روايته بصرخة مدوية مُجلجلة :"كادت الأمكنة والتضاريس تكونُ كما تركتُها قبل أكثر من عشرين عامًا، ربما، ولكنني أنا من تغيّر، مَن تَغَيَّرَ أنا! " فهل من سامع أو مُجيب ؟!؟
المحامي حسن عبادي