المسلسل السوري "قاع المدينة" :
يسمع صرخة الفقير الذي يعيش في الأحياء المهمشة السورية
إعتدت في كل عام من شهر رمضان الكريم أن أشاهد الإنتاجات التلفزيونية العربية الضخمة والملفتة للنظر , ومن ضمن هذه المسلسلات التي لفتت نظري هذا العام , مسلسل سوري إجتماعي جمع نخبة من ألمع نجوم الدراما السورية : أيمن زيدان , منى واصف , خالد تاجا , غسان مسعود , عبد المنعم عمايري , باسم ياخور , بسام لطفي , جيني إسبر تاج حيدر , أماني حكيم , ديمة قندلفت ودينا هارون . تدور أحداثه في حي فقير في مدينة دمشق , ومن هنا وقع الإختيار على اسم "قاع المدينة" لهذا المسلسل .
يستعرض هذا المسلسل مشاكل شريحة من الفقراء , ويعرض قضايا إنسانية من الدرجة الأولى , مثل الظلم والقهر , ظلم الأغنياء للفقراء , وظلم الفقراء لأنفسهم في داخل العائلة , وخاصة ظلم المرأة التي هي ضحية الظلم الطبقي والإجتماعي , ولكن ما لفت نظري كيفية معالجة قهر المرأة , وعدم محاكمة الضحية "المرأة" كما جرت العادة في المجتمعات العربية . فتدور أحداث المسلسل في أحد الأحياء الفقيرة في مدينة دمشق , والذي تسكنه شريحة من السكان الفقراء المهمشة . الصراعات متعددة ومتشعبة ومركبة في هذا المسلسل , إنها مجموعة من الحكايات المتشابكة والمتداخلة , تلتقي وتتنافر في عالم تحكمه المصالح والرغبات .
ومن ضمن هذه التداخلات أن تجد في المسلسل المجرم الذي يقوم بأعمال إنسانية من الدرجة الأولى , بل ويضحي بأغلى ما عنده من أجل تحقيق السعادة للآخرين , وبذلك يعكس الجانب الإنساني لهؤلاء البشر . كما يصور لنا المسلسل ذلك الأب الفقير الى درجة العدم , فيعجز عن تقديم المستلزمات الأساسية لحياة كريمة لأبناء أسرته , مما يضطره الى بيع إبنته لرجل أعمال ثري فيغتصبها ويعذبها شر تعذيب من خلال كيها بأداة حادة .
عالم مثير يعج بالتناقضات والقهر والألم وجلد الذات , يعرض الصراع الطبقي مبرزاً ظلم الأغنياء للفقراء وإستغلال فقرهم وضعفهم لتحقيق مآربهم , ويستعرض من جهة أخرى مدى ضعف الفقراء في مواجهة واقعهم المر أو التخلص من ظلم طبقة الأغنياء لهم .
إن هذا المسلسل نجح أن يقدم لنا حكاية ممتعة وقريبة من نبض الشارع , وأن ينقل لنا آلام وأحلام الطبقة المسحوقة من خلال الدخول الى القاع النفسي لهؤلاء الناس الذين يسكنون في هذه الأحياء الفقيرة المهمشة حتى نتوصل الى ماهية الأسباب التي أدت الى وجودهم في ظل ظروف معيشية لا تطاق . وهنا قام المخرج بالتركيز على التركيبة الإنسانية وولوج العوالم العاطفية والنفسية لهذه الشخصيات , وبهذا يمكن التعامل مع اسم المسلسل "قاع المدينة" بأكثر من إتجاه , فيمكننا قراءة المسلسل من ناحية خارجية أي قاع المدينة من حيث الموقع الجغرافي لهذا الحي المهمش والبيئة التعيسة والمهملة والمغيبة . ولكم من جهة أخرى يمكننا أن نتعامل مع قاع المدينة من خلال الدخول الى أعماق شخصيات المسلسل , ومحاولة فهم تركيبتها النفسية والعاطفية , فالأوضاع الإقتصادية السيئة التي تعيشها شخصيات المسلسل تؤدي الى إنحرافات وتصرفات غير مبررة ظاهرياً , لكن عندما تشاهد وتتابع أحداث المسلسل تصبح قادراً على تفهم هذه التصرفات , التي ظروف معيشتهم فاقت كل التصورات , وأثرت على حياتهم وقهرهم وسحقهم وحتى أحياناً تجريدهم من إنسانيتهم .
من الأمور التي لفتت نظري في المسلسل الشخصيات المركبة والأحداث غير المتوقعة والمفاجئة , الأمر الذي زاد من قيمة هذا المسلسل ورفع من مستواه , فابتعد عن السطحية ونجح في أن يفاجىء توقعات المشاهد . فمثلاً شخصية الكاتب علاء الذي يتعاطف مع فتاة وضعها المادي سيء , ومن ثم يقع في حبها ويتزوجها ليكتشف لاحقاً أنه ضحية مؤامرة تحيكها هذه الفتاة بالتعاون مع أعز أصدقائه , فهنا الأمر المتوقع والطبيعي أن يغضب هذا الكاتب على زوجته ويطلقها ويسجن صديقه وينتقم منه شر إنتقام , لكن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد أن الكاتب يعلم بالمؤامرة بل ويسمح بإستمرارها ويراقب عملية سرقته دون أن يفعل شيئاً , بل يقرر الإستمرار في اللعبة حتى النهاية , ويستمر بالعيش مع زوجته التي خانته وسرقته , إلى أن تعترف الزوجة بفعلتها لتتخلص من عذاب الضمير .
أما أكثر الشخصيات تعقيداً والمليئة بالتناقضات هي شخصية رولا , تلك الطالبة الجامعية المتمردة , وربما هي الشخصية الوحيدة في المسلسل التي حاولت التمرد على واقعها , ولكن تمردها وانتقامها من المجتمع والآخرين يؤدي الى نهاية درامية مؤلمة , وهذا يذكرني بالشخصيات التراجيدية في المسرحيات الإغريقية التي تحاول التمرد على إرادة الآلهة , فتكون النهايات مؤلمة ومأساوية . ففي "قاع المدينة" تحاول الطالبة الجامعية رولا الإنتقام من زميل لها حاول إهانتها وإذلالها بسبب فقرها , مستخدمة مجموعة من الشبان لتصل الى مرادها , وتقيم علاقات مع هؤلاء وتمنيهم بالحب والوعود لكنها لا تلبث أن تنبذهم بعد أن تستغلهم مادياً ولتنتقم بواسطتهم من الشخص الذي حاول إهانتها لمجرد نها فقيرة "شرشوحة" كما أطلق عليها . ولكن نهاية هذه الفتاة أنها تتحول الى زانية تعمل في الدعارة . أدت هذه الشخصية الفنانة ديمة قندلفت بأسلوب فني مثير وملفت للنظر , حيث شعرنا وبصدق كيف كانت تقوم بعمل وتقصد نقيضه , كيف كانت تضحك وهي متألمة , منتهية من الداخل . صورت لنا شخصية مثيرة جداً وبأسلوب جديد بعيداً عن الإبتذال والنمطية .
الفنان المتألق أيمن زيدان يقدم لنا في هذا المسلسل شخصية مركبة مليئة بالتعقيدات والتناقضات , ولكنها غنية بغرابتها وتنوعها , فهو يقدم شخصية رجل يتمتع بثراء فاحش , ويبدو أنه بعد فشل تجربته الزوجية يتحول الى مريض نفسي يمارس ساديته على ضحاياه من الفتيات , مستغلاً فقرهن ليمارس الجنس معهن أو يغتصبهن بعد أن يقوم بكيهن بالحديد , وهذه من ضمن شذوذه الجنسي . ولكنه في الوقت ذاته ورغم غناه الفاحش , يظهر لنا في المسلسل وحيداً طوال الوقت يشاهد أفلام العنف ويشرب الويسكي ويدخن السيجار . ويظهر لنا بوضوح أنه غير سعيد , بل في غاية التعاسة والكآبة . هكذا يتعامل المسلسل مع غالبية الشخصيات , فتجد الإنسان الطيب ولكن به الكثير من السلبيات في الوقت نفسه . فلا توجد شخصية شريرة محض , أو إنسان مستقيم فقط , مثل الرجل الشعبي الشهم الذي يقدم المساعدات لأصدقائه وأبناء حارته بل ويتفانى في مساعدتهم الى درجة المخاطرة بحياته ومستقبله من أجل الآخرين , وهو في الوقت ذاته يقوم بالسرقة من أجل تأمين حاجاته في الحياة .
إذاً هذا المسلسل يضاف الى قائمة المسلسلات الدرامية السورية التي حققت النجاحات الملفتة للنظر , والتي أثبتت أن الدراما السورية لا تزال في المقدمة وتتربع على عرش الدراما التلفزيونية في العالم العربي بلا منازع . يقف وراء هذا المسلسل الدرامي الناجح المخرج الفذ سمير حسن , تأليف محمد العاص , وإنتاج شركة "عاج" للإنتاج الفني .