أن تقرأ وبشغف رواية أكثر من مرة في غضون دزينة فصول ، فهذا يعني أنها قمة في التشويق . هي رواية
" لبن العصفور " حظيت بها هدية في القاهرة من الصديق الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد .
يبدو أن صديقي تأثر بالمدرسة السايكلوجية ، يتضح هذا بدخوله أعماق الشخصيات يستشف العوامل النفسية وما تفرزه من سلوك رغبات وتصرفات . يصوغ روايته بمهارة بعد أن يحررها من القالب التقليدي الذي يحد أحيانا من حرية التعبير والحركة في عالم صغير إسمه " رواية " .
" لبن العصفور " كحدث أو مجموعة أحداث متداخلة مؤطرة ضمن مساحة معينة ، وتحديدا في أحزمة البؤس في القاهرة حيث الفقر والإكتضاض والناس المسحوقين . يصور هذه الأحزمة تصويرا مدهشا من تقنية وحبكة وهدف وشخصيات . وقد اختار لروايته اللغة العامية المصرية ، فبدت الرواية وكأنها واقعية تماما . علما أن الرواية كل رواية هي في المحصلة تاريخ تخييلي مستمد بعضه من الواقع المعاش .
من ميزات التقنيات المعاصرة للرواية العربية أن لا " نرى " الكاتب بين الأوراق .. وهكذا في هذه الرواية ، يوسف القعيد يقف كالمراقب ، أو كمن يحرك السياق بخيوط غير منظورة ، لا يتدخل في حياة شخوصه ، بل يمنحهم الحرية في السلوك والتخطيط والتفكير . ونكاد لا نشعر بالفواصل الزمنية ، أو ما يسمّى فصول الرواية . فالفكرة مختمرة وجاهزة للإنطلاق على لسان " ترتر " تستخدم " المونولوغ " لتتحدث عن مشاعرها وحياتها وظروفها المعذبة , وما يحيط بها من مظاهر البؤس وأحلام الفقراء التي لا تتعدى محيط المعدة وبعض المتاع .
هذه الرواية تتقطر فيها كثافة عالم بأكمله باعتبار أن الفقر صفة مشتركة بين كل المسحوقين في الدنيا . لذلك تحمل الرواية كلاما غزيرا يتدفق دون انقطاع . فلا نمل أو نتذمر بل نبتلع بشغف كل هذا السيل من التراكيب والمفردات ، نتعاطف جدا مع بطلة الرواية " ترتر " الجميلة البسيطة الأمية قذفت بها الظروف زوجة ذليلة ل
" عبد الضار " دميم الخلقة والخلق يكبرها بفارق ضخم ، يعاملها باحتقار حتى عندما يضاجعها لا يرى فيها سوى وعاء للشبق ، أما العواطف والمشاعر فلا مكان لها في قلبه المظلم كظلام حياته الموزعة بين الفقر والأنانية والاحتيال .
" جوزي عمره ما باسني ، دايما كشر وبوزه طوله شبرين ، كان يرجع البيت دايما في نصاص الليالي ، يزغدني في جنبي ، أو يرفسني برجله ، يصحيني مفزوعة من أحلها نومة ، أكون نايمة على جنبي الشمال ، يعدلني ، يخليني أنام على ظهري ، يروح شايل قميص النوم ، ويرفع نصه التحتاني ، يغطي بيه نصي الفوقاني ، مع إني حلوه كلي على بعضي " .
لو نظرنا الى ترتر وعبد الضار من خلال نافذة علم النفس نجد أن عبد الضار يمثل الإنطواء الذاتي ، وترتر تمثل النقيض ( الشخصية الإنبساطية ) منتشرة الأفكار باتساع حول تغيير حياتها نحو الأفضل ، ومحاولة تقويم اعوجاج زوجها وإبعاده عن " لقمة " الحرام ، حتى وهي تعاني الجوع مع أطفالها . لكن عبد الضار يرفض كلامها ويزداد قسوة وامعانا في الإثم ، ضاربا عرض الحائط بكل القيم والأخلاق ، وكل ما له صلة بموضوع الإنسانية .
حين نبحث ـــ بمعزل عن الرواية ـــ عن الرمز في الإسمين ترتر وعبد الضار ، نكتشف أن الكاتب وضف الأسطورة المصرية التي تفيد أن ملكا خلف بنتا وحيدة وجميلة أسماها ترتر . وذات يوم غفل عنها حراس القصر فخطفها شيطان أسمه عبد الضار .
مع دخول " الواد غزالة " الى السياق تبدأ الرواية بالتعقيد لكن بوتيرة أكثر تشويقا وأكثر استهجانا . يقترح عبد الضار على الواد غزالة أن يؤجر له ترتر يتمتع بها مقابل ألف جنيه للشهر الواحد . فيقبل بهذا العرض المغري ، كذلك توافق ترتر أن تكون طرفا مستباحا في المشروع الثلاثي ، بعد أن ملت روتين حياتها اليومية تجري على وتيرة مطردة ، وأخذت تمني النفس بتحقيق حلمها بحياة طيبة مع هذا الشاب الذي تعاطف معها ، وشعر بمعاناتها بل تمنى معاشرتها . فأحبته سرا حين كان فقيرا معدما ، ثم علنا بعد أن سرق حقيبة تحتوي على مليون جنيه تعود لإحدى العصابات المحلية .
وهنا بدأنا نلمس بعض ملامح المذهب السوريالي الذي يتصف بالحرية المطلقة ويخرج عن كل عرف وتقليد ، وأخذ يغذي هذه الملامح " الشيطان " عبد الضار المسبب الرئيسي في تتابع الصدمات وإثارة العجب .
ويستمر الكاتب في إنعاش عنصر التشويق حتى نتناسى أو نضرب صفحا عن مناقشته حول تبريره للخطأ الذي وقعت فيه ترتر حين قبلت وبدون تردد السقوط في الخيانة ! ؟ .
تذهب ترتر مع الواد غزالة الى " اللوكندة " ويتمتعان جنسيا وروحيا ، لكن الناحية المعنوية تبقى مضغوطة ومحاصرة بسياج من التوتر وعدم الإطمئنان ، مما يجعل حياتهما متقلقلة وعلاقتهما عرضة للإنهيار في كل لحظة . فعبد الضار يلاحقهما باستمرار محاولا التنكيد عليهما بهدف الحصول على المزيد من المال . فتقترح ترتر أن يغيّرا اللوكندة ويذهبا الى مكان بعيد عن عيني عبد الضار ، كي يرسما حياتهما بدون خوف . لكن غزالة يرفض هذا التكتيك ، فالحل المنطقي في نظره أن يتزوجا على سنة الله ورسوله . وهذا يقتضي أن يقوم عبد الضار بطلاق ترتر . وتبدأ المفاوضة والمساومة ، فيوافق عبد الضار على الطلاق شرط أن يحصل على نصف ما في " الشنطة " ، فيتردد غزالة بإيحاء من ترتر التي قررت أن تناور ريثما تجد مخرجا لأطماع زوجها التي لا تنتهي ! . فيغضب عبد الضار ويذهب لإخبار الشرطة عن الشنطة وسارقها ، فيكون بذلك ( شاهد ملك ) ويحصل على مبلغ معين من قيمة النقود المسروقة .
تحضر الشرطة وتصادر النقود وتعتقل غزالة وترتر بتهمة الزنا وتهمة السرقة . وهكذا تصل ترتر الى قمة إحباطها ، وتنتهي الرواية في صورة تحطم وانهيار .
وبعد : من الميزات الهامة لهذه الرواية أنها تقرأ في اتجاهين أو مسارين ، في المسار المعلن هي مجموعة أحداث شائقة تتساوق في حبكة مثيرة . أما في المسار المضمر فيمكن تأويل النص على أنه ثورة متخيلة تفجرها ترتر بعد أن أذلت وصبرت . فموافقتها على ترك بيتها والذهاب مع غزالة ، ثم إصرارها على التخلص من عبد الضار ، هذا الموقف يعتبر إعلان ثورة على الظلم والأوضاع السيئة ، ومحاولة التخلص منها . وإذا سلمنا جدلا بإيجابية تأويلنا يبقى السؤال : لماذا فشلت هذه " الثورة " ؟ ! .
هذا يعود الى واقعية يوسف القعيد ورؤيته السليمة . ربما أراد القول وبأبسط تعبير ، أن الثورة يلزمها استعداد ونضوج وتحضير ، أما الثورة التي قوامها المغامرة وسوء التصرف فلا حظ لها بالنجاح .