المبدع يوسف القعيد في رواية لبن العصفور - بقلم نور عامر

تاريخ النشر 26/10/2009 10:18

أن تقرأ وبشغف رواية أكثر من مرة في غضون دزينة فصول ، فهذا يعني أنها قمة في التشويق . هي رواية

" لبن العصفور " حظيت بها هدية في القاهرة من الصديق الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد .

يبدو أن صديقي تأثر بالمدرسة السايكلوجية ، يتضح هذا بدخوله أعماق الشخصيات يستشف العوامل النفسية وما تفرزه من سلوك رغبات وتصرفات . يصوغ روايته بمهارة بعد أن يحررها من القالب التقليدي الذي يحد أحيانا من حرية التعبير  والحركة في عالم صغير إسمه " رواية " .

" لبن العصفور " كحدث أو مجموعة أحداث متداخلة مؤطرة ضمن مساحة معينة ، وتحديدا في أحزمة البؤس في القاهرة حيث الفقر والإكتضاض والناس المسحوقين . يصور هذه الأحزمة تصويرا مدهشا من تقنية وحبكة وهدف وشخصيات . وقد اختار لروايته اللغة العامية المصرية ، فبدت الرواية وكأنها واقعية تماما . علما أن الرواية كل رواية هي في المحصلة تاريخ تخييلي  مستمد بعضه من الواقع المعاش .

من ميزات التقنيات المعاصرة للرواية العربية أن لا " نرى " الكاتب بين الأوراق .. وهكذا في هذه الرواية ، يوسف القعيد يقف كالمراقب ، أو كمن يحرك السياق بخيوط غير منظورة ، لا يتدخل  في  حياة شخوصه ، بل يمنحهم الحرية في السلوك والتخطيط والتفكير . ونكاد لا نشعر بالفواصل الزمنية ، أو ما يسمّى  فصول الرواية  . فالفكرة مختمرة وجاهزة للإنطلاق على لسان " ترتر " تستخدم  " المونولوغ " لتتحدث عن مشاعرها وحياتها وظروفها المعذبة , وما يحيط بها من مظاهر البؤس وأحلام الفقراء التي لا تتعدى محيط المعدة وبعض المتاع . 

هذه الرواية تتقطر فيها كثافة عالم بأكمله باعتبار أن الفقر صفة مشتركة بين كل المسحوقين في الدنيا . لذلك تحمل الرواية كلاما غزيرا يتدفق دون انقطاع . فلا نمل أو نتذمر بل نبتلع بشغف كل هذا السيل من التراكيب والمفردات ، نتعاطف جدا مع بطلة الرواية " ترتر " الجميلة البسيطة الأمية قذفت بها الظروف زوجة ذليلة ل

" عبد الضار " دميم الخلقة والخلق يكبرها بفارق ضخم ، يعاملها باحتقار  حتى عندما يضاجعها لا يرى فيها سوى وعاء للشبق ، أما العواطف والمشاعر فلا مكان لها في قلبه المظلم كظلام حياته الموزعة بين الفقر والأنانية والاحتيال .

" جوزي عمره ما باسني ، دايما كشر وبوزه طوله شبرين ، كان يرجع البيت دايما في نصاص الليالي ، يزغدني في جنبي ، أو يرفسني برجله ، يصحيني مفزوعة من أحلها نومة ، أكون نايمة على جنبي الشمال ، يعدلني ، يخليني أنام على ظهري ، يروح شايل قميص النوم ، ويرفع نصه التحتاني ، يغطي بيه نصي الفوقاني ، مع إني حلوه كلي على بعضي " .

لو نظرنا الى ترتر وعبد الضار من خلال نافذة علم النفس نجد أن عبد الضار يمثل الإنطواء الذاتي  ،  وترتر تمثل النقيض ( الشخصية الإنبساطية  ) منتشرة الأفكار باتساع حول تغيير حياتها نحو الأفضل ، ومحاولة تقويم اعوجاج زوجها وإبعاده عن " لقمة " الحرام ، حتى وهي تعاني الجوع مع أطفالها . لكن عبد الضار يرفض كلامها ويزداد قسوة وامعانا في الإثم ، ضاربا عرض الحائط بكل القيم والأخلاق ، وكل ما له صلة بموضوع الإنسانية .  

حين نبحث ـــ بمعزل عن الرواية ـــ عن الرمز في الإسمين ترتر وعبد الضار ،  نكتشف  أن الكاتب وضف الأسطورة المصرية التي تفيد أن ملكا خلف بنتا وحيدة وجميلة أسماها ترتر . وذات يوم غفل عنها حراس القصر فخطفها شيطان أسمه عبد الضار .  

مع دخول " الواد غزالة " الى  السياق تبدأ الرواية بالتعقيد لكن بوتيرة أكثر تشويقا وأكثر استهجانا . يقترح عبد الضار على الواد غزالة أن يؤجر له ترتر يتمتع بها مقابل ألف جنيه للشهر الواحد . فيقبل بهذا العرض المغري ، كذلك توافق ترتر أن تكون طرفا مستباحا في المشروع الثلاثي ، بعد أن ملت روتين حياتها اليومية تجري على وتيرة مطردة ، وأخذت تمني النفس بتحقيق حلمها بحياة طيبة مع هذا الشاب الذي تعاطف معها ، وشعر بمعاناتها بل تمنى معاشرتها . فأحبته سرا حين كان فقيرا معدما  ، ثم علنا بعد أن سرق حقيبة تحتوي على مليون جنيه تعود لإحدى العصابات المحلية .

وهنا بدأنا نلمس بعض ملامح المذهب السوريالي الذي يتصف بالحرية المطلقة ويخرج عن كل عرف وتقليد ، وأخذ يغذي هذه الملامح " الشيطان " عبد الضار المسبب الرئيسي في تتابع الصدمات وإثارة العجب .

ويستمر الكاتب في إنعاش عنصر التشويق حتى نتناسى  أو نضرب صفحا عن مناقشته حول تبريره للخطأ الذي وقعت فيه ترتر حين قبلت وبدون تردد السقوط في الخيانة ! ؟ .

تذهب ترتر مع الواد غزالة الى " اللوكندة " ويتمتعان جنسيا وروحيا ، لكن الناحية المعنوية تبقى مضغوطة ومحاصرة بسياج من التوتر وعدم الإطمئنان ، مما يجعل حياتهما متقلقلة وعلاقتهما عرضة للإنهيار في كل لحظة . فعبد الضار يلاحقهما باستمرار محاولا التنكيد عليهما بهدف الحصول على المزيد من المال . فتقترح ترتر أن يغيّرا اللوكندة ويذهبا الى مكان بعيد عن عيني عبد الضار ، كي يرسما حياتهما بدون خوف . لكن غزالة يرفض هذا التكتيك ، فالحل المنطقي  في نظره أن يتزوجا على سنة الله ورسوله . وهذا يقتضي أن يقوم عبد الضار بطلاق ترتر . وتبدأ المفاوضة والمساومة ، فيوافق عبد الضار على الطلاق شرط أن يحصل على نصف ما في " الشنطة " ، فيتردد غزالة بإيحاء من ترتر التي قررت أن تناور ريثما تجد مخرجا لأطماع زوجها التي لا تنتهي ! . فيغضب عبد الضار ويذهب لإخبار الشرطة عن الشنطة وسارقها ، فيكون بذلك ( شاهد ملك ) ويحصل على مبلغ معين من قيمة النقود المسروقة .

تحضر الشرطة وتصادر النقود وتعتقل غزالة وترتر بتهمة الزنا وتهمة السرقة . وهكذا تصل ترتر الى قمة إحباطها ، وتنتهي الرواية في صورة تحطم  وانهيار .

وبعد : من الميزات الهامة لهذه الرواية أنها تقرأ في اتجاهين أو مسارين ، في المسار المعلن هي مجموعة أحداث شائقة تتساوق في حبكة مثيرة . أما في المسار المضمر فيمكن تأويل النص على أنه ثورة متخيلة تفجرها ترتر بعد أن أذلت وصبرت . فموافقتها على ترك بيتها والذهاب مع غزالة ، ثم إصرارها على التخلص من عبد الضار ، هذا الموقف يعتبر إعلان ثورة على الظلم والأوضاع السيئة ، ومحاولة التخلص منها . وإذا سلمنا جدلا بإيجابية تأويلنا يبقى السؤال : لماذا فشلت هذه  " الثورة " ؟ ! .

هذا يعود الى واقعية يوسف القعيد ورؤيته السليمة . ربما أراد القول وبأبسط تعبير ، أن الثورة يلزمها استعداد ونضوج وتحضير ، أما الثورة التي قوامها المغامرة وسوء التصرف فلا حظ لها بالنجاح .   

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2387
//echo 111; ?>