بقلم: نايف خوري
الزجل اللبناني: يقول الدكتور إميل يعقوب في مقدمته لكتاب "روائع الزجل" من إعداد أمين القاري، والصادر عن "جروس برس" عام 1998: "إن الشعر العامي أو الزجل هو وليد "الشعرية" واللغة العامية معًا. وإن بعض المؤرخين والمستشرقين يرجعونه إلى عصور الجاهلية. وإذا كان الأندلسيون قد سبقوا اللبنانيين إلى الزجل، فإنه من الثابت أنه تطور بفعل تأثير الألحان والصلوات السريانية، وخاصة الميامر أو الأناشيد."
ويقول شاعر الزجل اللبناني موسى زغيب في مقدمة ديوانه "قلم ودف" الصادر عام 1992: "يوم كان الشعر العربي يشغل الممالك ويملأ القصور، كانت اللغة العامية تنمو وتتفاعل بين الشعوب، وقد برز العديد من شعرائها وفي طليعتهم "ابن قزمان" الذي اعتبر أحد أكبر شعراء العامية في الأندلس. وعبثًا حاول الشعر الفصيح طمس هذه الظاهرة الفريدة التي بقيت الأقرب إلى قلوب الناس ومسامعهم.وراح الشعر العامي ينتشر بسرعة بين الشعوب العربية." وأضاف: "لم نرَ شعبًا واحدًا ألّف فرقة متكاملة تهتم بالزجل وترتجله على المنابر باستثناء الشعب اللبناني."
أما سيادة المطران بطرس الجميّل، مطران قبرص للموارنة، فقال في المؤتمر الأول للشعر العامي اللبناني المنعقد عام 1995: "إن الأول تاريخيًا من بين الشعراء اللبنانيين في الشعر العامي كان المطران جبرائيل بن بطرس القلاعي اللحفدي المولود في لحفد في منطقة جبيل عام 1445 وأخذ يكتب الشعر والنثر، حتى بلغت مؤلفاته ستًا وعشرين زجلية وأصبح مطرانًا في قبرص وتوفي فيها عام 1516."
ويعود إميل يعقوب إلى التأكيد على أن الزجل اللبناني متجذر في تاريخ الشعب أكثر من ستمائة سنة، ولم يحتل مرتبة مرموقة في نظر الجمهور حتى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وقد ظهرت الفرق والجوقات وشعراء الزجل الذين أخذوا يبلورون هذا الجانر ويطورونه باعتباره لونًا لا يقل عن الشعر الفصيح. ومنذ أكثر من خمسين عامًا انتشر الزجل اللبناني عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ونال الشعراء شهرة واسعة حتى أن بعضهم جاب أقطار المسكونة، حيث يتواجد اللبنانيون في مهجرهم، وقدموا الحفلات والمباريات الزجلية وقرأوا من أشعارهم التي تناقلتها وسائل الإعلام.
ونشأنا في هذه الديار االفلسطينية على متابعة هذا الشعر الجميل، ووجدناه متغلغلاً في أوصالنا وقلوبنا. ولا غرو بذلك فإننا نشعر بانتمائنا إلى هذه الرقعة من الأرض الشرق أوسطية، وخاصة الاستمرار الجغرافي والتاريخي والتراثي والحضاري مع اللبناني والسوري على حد سواء. وكثيرًا ما كنا نجلس أمام التلفاز لنشاهد مباريات الزجل والمنافسات الحامية الوطيس، فنشعر بعفويتنا وتلقائيتنا بالانتماء أو التحيز لهذا الشاعر أو تلك الجوقة. ونحن لا ندرك تمام الإدراك أن الشاعرين المتنافسين قد رتبا مسألة المنازلة بينهما ترتيبًا دقيقًا، واستعدا لخوض معركة مصيرية بالنسبة لكل منهما، هذا عدا عن مناصرة أحدهما على الآخر.
ولكن الحدود السياسية حالت دون لقاءاتنا المباشرة مع كثير من المشاهير والنجوم اللامعين، ولا حتى مع الشعراء والمطربين، في أي قطر من الأقطار العربية، حتى جاءت الحروب التي هدمت أسيجة الحدود وفتحت طرقات وسبل الاتصال والتواصل. ولاحظنا أن هؤلاء المشاهير يرغبون بلقائنا والتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم تجاهنا، وأدركوا بأننا نحن الذين بقينا في أرضنا، وحافظنا على هويتنا وثقافتنا العربية. وأخذت الظروف تسنح للقاء كبار الفنانين في أي بلد عربي، إن كان في مصر أو الأردن أو أي مكان آخر، وصرنا نهرع كلما سمعنا عن حفلة أو مهرجان لنتمتع مباشرة وليس عن طريق وسائل الإعلام بإبداع هؤلاء الأدباء أو الشعراء أو الفنانين.
زغلول الدامور وعادل خدّاج: هذا ما حصل في منتصف شهر تشرين الثاني، نوفمبر، من العام 2009 حين تم ترتيب حفل زجلي في العاصمة الأردنية عمان، للشاعرين الكبيرين زغلول الدامور وعادل خداج، وحضرها عشاق الزجل والطرب الأصيل، وكنت من بينهم. وكم كان كانت فرحتي عميقة عندما وصلت إلى عمان واتجهت إلى الفندق لمقابلة الزغلول في غرفته وأجريت معه الحديث التالي:
سؤال: الشاعر الكبير زغلول الدامور، جوزيف الهاشم، أبو إلياس، منذ متى وأنت تنظم الشعر؟
الزغلول: أنا ولدت في البوشرية عام 1925، وفي الأصل من الدامور، وتعلمت في مدرسة جديدة المتن الكبرى بإشراف الخوري يوسف عون. وكنت أبلغ التاسعة من العمر حين كنت أنهي كل موضوع إنشاء أكتبه بـ "ردة" زجلية، وهكذا بدأت كتابة الزجل.
سؤال: لماذا أطلق عليك لقب "الزغلول"؟
الزغلول: كنت أنتهز كل فرصة لكي أكتب شعرًا فيها، وخاصة في المدرسة، حتى أثناء الفرصة القصيرة بين الدروس كنت أجلس تحت شجرة وأكتب الشعر. وهكذا صار المعلمون والطلاب يقولون بأن هذا الولد الداموري "مزغلل".
سؤال: هل وقع لك أي حادث طريف في المدرسة يتعلق بالشعر؟
الزغلول: طبعًا، جاء المطران أغناطيوس مبارك لزيارة المدرسة وتوزيع الأوسمة على الطلاب المتفوقين، وكنت من بينهم، فقلت له:
يا سيدي المطران شرفت الحما من بعد ما طقو القلوب من الظما
وبزيارتك عالمدرسة صرنا نقول (مبارك) الآتي لعنا من السما
وحينها قال المطران: "بتستاهل بدل الوسام ثلاثة: واحد على نجاحك في الدروس، والثاني على صوتك الحلو، والثالث على شعرك الجميل".
وفي الحفل الختامي للسنة الدراسية طلب مني رئيس المدرسة الخوري يوسف عون أن أقرأ قصيدة بصوتي الجميل كتبها الأستاذ وليم صعب، معلم العربية، وأن أحفظها حتى صباح الغد. فأخذت القصيدة إلى البيت وأخبرت أبي بالموضوع، فطلب أن يطلع عليها، وما أن أمسك بها حتى مزقها وقال: يجب أن تكتب أنت أفضل منها. فدهشت لأن الوقت قصير، وأوشكنا على الجلوس للعشاء. فقال أبي: يجب ألا تتناول عشاءك حتى تكتب القصيدة. فانبطحت على الأرض وكتبت قصيدة جديدة، فسمح لي أبي بالعشاء بعدها. وفي الصباح سألت أبي كيف سأظهر بقصيدة جديدة؟ فماذا سيقول الأستاذ؟ أجاب: عندما سيطلبون منك الصعود إلى المنبر لتقرأ قصيدة الأستاذ، إقرأ قصيدتك بدلاً منها. ولا تهتم، فإنها أجمل. وهكذا جرى، وقد علا التصفيق الحاد في كل أرجاء المدرسة. وكان من المفروض أن أدفع ثمن شهادة التعليم ثلاث ليرات ونصف، فلم يأخذها الخوري بل قال: هذه دفعة أولى لك عن شعر الزجل.
سؤال: وكيف أخذت تظهر على المنابر؟
الزغلول: أخذتني جدتي، إلى حفلة عرس قد دعي إليها كبار الشعراء، وكانوا بحاجة لمن يرد عليهم على المنصة، فصعدت وأخذت الدربكة وبادرت إلى ردة لفتت انتباههم وأعجب بها أمير الزجل آنذاك رامز البستاني، فطلب أن أجلس بجانبه وأنا ابن عشر سنوات فقط. ولكن في عام 1943 ألفت جوقة خاصة بي وأخذت أظهر في الحفلات. وقد ألّفت العديد من الجوقات والفرق، وظهر معي العديد من الشعراء المرموقين أمثال موسى زغيب، زين شعيب، طليع حمدان، خليل روكز، وهذا الشاب عادل خداج.
سؤال: أين ظهرت حتى الآن؟
الزغلول: لقد طفت المعمورة ولا أستطيع إحصاء الدول التي زرتها وأقمت الحفلات فيها. ولكن أول رحلة كانت إلى البرازيل برفقة الشاعر طانيوس الحملاوي. وأمضينا أربع سنوات زرنا خلالها جميع دول أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة وكندا. ثم إفريقيا، وأستراليا والشرق الأوسط.
سؤال: ما هي أهم مواضيعك في الشعر؟
الزغلول: الغزل، الاجتماعيات، المناسبات الدينية والدنيوية والوطنية، حتى لم يكن مجال إلا وتطرقت إليه. وأنا لا أدخن ولا أشرب القهوة ولا الخمرة أبدًا. وقد يتوهم بعضهم حين يرى أمامي كأس ماء، فيظنون بأني أشرب العرق بلا ماء، بينما سائر الشعراء إلى جانبي يشربون العرق.
سؤال: ما هو أهم حدث جرى لك على المنابر؟
الزغلول: توفي أخي عام 1971، يوم إقامة حفلة في بيت مري. وقد دعي إلى الحفلة جمع غفير من الشخصيات والوجهاء والوزراء والشعراء، وكانت حفلة التحدي بيني وبين موسى زغيب. فأقمنا مراسم الدفن لأخي، وبعد الجنازة وتقبل التعازي توجهت إلى الحفلة متأخرًا نحو نصف ساعة. وعندما وصلت بالسيارة لم أستطع الاقتراب من ساحة البلدة حيث الحفلة بسبب الازدحام، وما أن ترجلت، حتى انتبه الجمهور إلي فحملوني على الأكف وتناقلوني إلى أن صعدت إلى المنصة، وهم لا يصدقون بأني سأحضر الحفلة بسبب وفاة أخي بالصباح. وبدأنا المحاورة وقلت قصيدة مطلعها:
أعذريني يا حروف الأبجدية إذا ما بعمل الواجب عليي
خسرت خيي المفضل عا ولادي وعليي مثل إمي ومثل بيي
خمس ساعات صرلو مش زيادي ما حلّو يبتدي النسيان فيي
لعَزا خيي رجعت عزّي فؤادي لأني بعتبر كل شخص منكم
بعد ما غاب خيي محل خيي
سؤال: على مدى سنوات أو عقود ظهورك في عالم الشعر، لماذا لم تجمع أعمالك أو تدونها؟
الزغلول: الحقيقة لا أهتم بتدوين أعمالي، فهذا من شأن الآخرين، وأنا أظهر في الحفلات وأكتب الشعر لأني أحب ذلك. وقد حصلت على ثلاثة أوسمة من رؤساء الجمهورية في لبنان، ولكن الدولة عمومًا لا تدعم الشعراء والأدباء نظرًا لأن وزارة الثقافة حديثة العهد، وميزانياتها قليلة جدًا.
سؤال: كيف وافقت على الظهور مع الشاعرين توفيق حلبي من دالية الكرمل وشحادة خوري من أبو سنان برفقة الشاعر الكبير عادل خداج؟
الزغلول: أولاً قد اطلعت على شعر هذين الشاعرين واستمعت إلى أشرطتهما المسجلة فاستمتعت وأعجبت بشعرهما. وثانيًا، أنا لا أخجل من الظهور إلى جانب الشعراء الشباب أو المبتدئين، فإذا استطاعوا أن يثبتوا أنفسهم على المنصة، فلا بأس من نجاحهم، وإذا فشلوا فإن هذا لا ينقص من مكانتي شيئًا. ولاحظت بأن الشاعرين يمكنهما الظهور على المنبر بشكل حر، وستثبت لنا هذه الحفلة ذلك.
سؤال للشاعر عادل خدّاج: منذ متى وأنت تغني مع الزغلول؟
عادل: هذا شرف لي أن أغني مع زغلول الدامور، وأنا أرافقه منذ خمس سنوات، وقد ظهرت من قبل مع طليع حمدان وموسى زغيب، وأنا أغني منذ أكثر من 25 سنة.
سؤال: هل ترتجل كثيرًا على المسرح؟
عادل: الارتجال موهبة يتمتع بها شاعر الزجل، وأستطيع الارتجاللحفلة كاملة دون الاستعداد المسبق، وقد فعلت ذلك في إحدى الحفلات في سورية مع شعراء من حلب.
سؤال: الشعر، وخاصة الزجل، يعتبر كالداء الذي لا يشفى منه الإنسان، فمتى يجب على الشاعر أن يعتزل؟
عادل: إن مساهمة الشاعر ودوره في صنع حضارة شعبه وثقافته لا تتوقف عند حد. ولكن الصحة هي التي تقرر موعد الاعتزال، فإذا اعتل الشاعر وتعذر عليه الظهور على المنابر فإن الاعتزال أمر محتم. وأعتقد بأن الشاعر أو الفنان يمكنه أن يعتزل وهو في أوج عطائه، لا أن يظهر وهو سقيم أو يصعب عليه الكلام. ومن جهة ثانية يجب فسح المجال أمام المواهب الواعدة، وتنميتها وتقويتها وتشجيعها لكي تستمر بدورها في العطاء والتقديم. وهذا ما فعلناه مع العديد من الفرق والجوقات، والتي انطلقت تشق طريقها في عالم الشعر والفن، فيجب نشر هذا اللون الفني والمحافظة على استمراره، ولذا هناك ضرورة ملحة لكي يأتي من هم بعدنا ويليق بهم حمل راية الزجل.
حفلة لا تنسى: قررت بألا أجري مقابلة مع الشاعرين توفيق حلبي وشحادة خوري، بل أخذت أتساءل: هل سيتمكن الشاعران من مجاراة الزغلول وعادل على المنبر؟ هل سيحظيان بمكانة محترمة إلى جانبهما؟ هل.. وهل.. وهل.. أسئلة عديدة خطرت ببالي، حتى صعد الشاعر يوسف فخر الدين إلى المنصة لكي يقدّم الشعراء المشاركين بشيء من الثقة والتأكيد على أن السهرة ستليق بمقام الشعر والشعراء. ثم رحب حسين زيدان منظم الحفلة بالحضور وبالشعراء، وصعد توفيق حلبي وجلس إلى جانبه زغلول الدامور، ثم عادل خداج وثم شحادة خوري.
وطلب مني الشاعران حلبي وخوري أن أصعد قبل الحفلة إلى المنصة لكي أقدم الدرع التكريمي الخاص إلى الشاعرين الزغلول وعادل، وكم كانت دهشتي حين طلبا أن ألقي كلمة باسم الجمهور، فقلت موجهًا كلامي إلى الزغلول: إن "الأوف" التي أطلقتها من حنجرتك الذهبية انطلقت من بيروت فبلغت أرجاء العالم كله، ودخلت قلوبنا بلا استئذان، وإن شاء الله تبقى هذه الأوف وهذه الحنجرة تصدح على المنابر وفي الحفلات والمهرجانات طالما أمد الله بعمرك. سأدع الكلام وأترك المجال للسجال والحوار والغناء، لنمضي معًا سهرة جميلة.
وبدأ توفيق حلبي فاتحًا بالردة:
جاي شَعل نار الكار بوجه ال بَدهُم يتحدو
والبَدُّو يلعب بالنار بنصرخ ألله لا يردو
وتوالت الردات وانطلق الشعراء بهذا السجال على هذا المنوال، وشعرت بأن المنافسة بين توفيق حلبي وزغلول الدامور أخذت منحى الهجوم المتعمد والتعدي على أوصاف الآخر بشيء من الهزء والسخرية والممازحة، أما المنافسة التي جرت بين شحادة خوري وعادل خداج فازدادت حدة ولهيبًا، حتى أن الجمهور شعر ببعض الحرج من قدرة الشاعرين بالتهجم أحدهما على الآخر، مع العلم أن هذه المنافسة مدبرة ومنسقة بين الشاعرين لإتاحة المجال أمام كل منهما أن يبدو وكأنه يرتجل ويرد على زميله بما هو أشد وأقوى. هذه هي طبيعة المنافسة وهذه هي طبيعة الحوار المنبري. وفعلاً استطاع كل شاعر أن يظهر عالي القيمة، منيعًا عتيًا، وهو من أصل طيب وسليل عائلة كريمة. ولكن الشاعر عادل خداج ارتقى درجات الشموخ وهو يغني للأردن البلد المضياف، ولفلسطين العزيزة ويشيد بأهلها، بمدنها وقراها، بمقدساتها ومعابدها، بهوائها وترابها، وقال إن فلسطين هي الجرح النازف في جسد الشرق كله. ولاحظت بأن عادل لا يشبه سواه من الشعراء، وقد يقربه بعضهم من أسلوب طليع حمدان، ولكنه يختلف عنه بأسلوبه وطابعه وشخصيته المستقلة، فهو فنان مبدع، أصيل ومميز.
وأطلق الزغلول "الأوف" بين الحين والآخر، فكانت تعبر بنفسه الطويل والعميق عن مدى محبته واحترامه وتواضعه وإنسانيته. إنها "الأوف" التي لا يستطيع أي فنان أن يطلقها مثله، وكلنا نشهد للباع الطويل للفنان العظيم وديع الصافي، ولكن هذا المرة تختلف وتتميز. إنها تجلجل وتتماوج، تعلو وتنخفض، تشتد وتقوى، تصعد وتهبط، بتمازج وتناغم وتناسق.
وأخذ الشعراء يتبارون بالمواضيع المختلفة، وينتقلون من فنن التحدي إلى غصن الغزل ثم إلى قيمة الشعر والشعراء، وإلى ألوان الزجل من المعنّى إلى القرادي إلى القصيد والشروقية والميجانا والعتابا، وأورد هنا بعضًا من العتابا التي أطلقوها:
الزغلول: الزمان الحط شي بيها وشي بي بعد ما كنت أمِّن له وِشي بي
ورغم تجعيدة سنيني وِشَيْبي ما فيي عيش من دون الحباب
عادل: عتابا نظمت وسمعتي عتبتي وقبل ما أوصل لأسمك عتِبتي
بدل ما تعتبي خشّي عتبتي العتب بيجوز جوّه العْتاب
شحادة: لأهل العشق وقت الشور منشور ومنطبعلن غزل شي ألف منشور
وشفت فستانها عالحبل منشور وقلت يا ربي إلهمني الصواب
توفيق: قالت لي عود خفف لي عناي وبيوم اللقا تاعزف لك عناي
المحبة كرم لازم له عِنايي إذا بتدشرو بيصبح حطب
الزغلول: حبيبي اللي ملك جيدي وقلبي قلبني شي ألف قلبي وقلبي
عطيتو للكوي ثيابي وقلبي كوى قلبي بدل كوي الثياب
الزغلول: قالو بتهوى السمر قلتلن بَلى والشقر منهن ما بيجي إلا البلى
شو ما يكونو سمر يما شقر بَلا هُن شو عاد ينفع حبنا
ويضيق المجال لتدوين أجمل القصائد والأشعار التي تغنى بها الشعراء الأربعة واختتمها الزغلول بقصيدة بعنوان "صدفة" والتي مطلعها:
صدفة التقو بعيونها عيوني وعالبيت من غير وعد عزْموني
وقلبي فلت مني سبقني وطار ومْدامعي عالدرب دلّوني
ثم أخذ يصف الحسناء الغانية بوجهها وجسمها وقامتها حتى ختمها بقوله:
وعالخصر عيني بتحسد الزنار لو مطرح الزنار حطوني
تا كنت أكشف بقوة الأسرار ومعلش لو مجنون عدّوني
يا ناس هيدا اللي جرى والْصار وتا تصدقوني وتا تعذروني
روحو معي عا بيتها شي نهار وتفرجو عا حسنها من بعيد
وان ضل فيكن عقل لوموني
أيها الشامخون : إن التساؤلات التي وردت إلى ذهني وأذهان سائر الحضور لهذه الحفلة، كانت تلح وبإصرار حول قدرة كل من شحادة خوري وتوفيق حلبي على مجرد الظهور إلى جانب العملاق زغلول الدامور والكبير عادل خداج، وعلى تمكنهما من إلقاء القصائد أو حتى قصيدة واحدة تليق بمكانة الزغلول وخداج، وترقى إلى مستوى شعرهما. وقبيل الحفلة لاحظت التوتر باديًا على وجهي الخوري والحلبي، فسألتهما عن شعورهما، فأجابا بأن التوتر أمر طبيعي بمثل هذه الحالة، ولكنهما واثقان من قدرتهما على تقديم المطلوب منهما، ولعل ذلك يرضي الشاعرين الكبيرين والجمهور عامة.
ولكن ما أن بدأت الحفلة حتى أخذت تنفرج أسارير الحلبي والخوري، وبالتالي أساريري شخصيًا لأنهما انطلقا مباشرة بقصيدة لكل منهما، وكأنهما أصبحا سيدَي الموقف. وفعلاً أخذا يصولان ويجولان ويتحديان ويتصديان لكل ردة أو بيت يقوله الزغلول وعادل، واستطاعا أن يبليا بلاءً حسنًا في هذه المنافسة الراقية والحضارية والتي لم تنطلق فيها ألفاظ نابية أو شتائم أو تحقير مهين لأي من الشعراء، بل اتسمت باللطف والدماثة والأخلاق والموضوعية. واستطاع الشعراء الأربعة أن يعبروا عن بلاغتهم، وعمق معانيهم وسعة اطلاعهم، وعن قدرتهم بالسيطرة على الجمهور وشدّهِ وجذبه.
واستطاع كل من توفيق وشحادة أن يجاريا الزغلول وعادل بالارتجال في بعض المقاطع، وكثيرًا ما كان الزغلول وعادل يطلبان من شحادة وتوفيق أن يعيدا هذه الردة او تلك الأبيات، فيفعلان ذلك بزيادة بيت إضافي أو اثنين. وبعد أن ألقى الزغلول قصيدة "صدفة" ألقى عادل قصيدة أخرى بعنوان "فرفورة"، ثم ألقى شحادة قصيدة "منصور" وهي مرثية للراحل منصور الرحباني. وهكذا كلما بادر الزغلول أو عادل إلى أسلوب شعري، أو طريقة فنية كان يجاريهما شحادة وتوفيق بسهولة وحسن أداء.
ويقول إبن منظور في "لسان العرب": "إن الطرب هو خفة تعتري عند شدة الفرح"، ويقول الدكتور خليل أحمد خليل في كتابه "الشعر الشعبي اللبناني" الصادر عن دار الطليعة في بيروت، إن الزجل يعني التطريب، والزجال هو الطرّاب أو المطرِب. وهذا ما اعتراني واعترى جمهور الحاضرين كلهم. وهنا تجدر الإشارة إلى ما يسمى "مطربة" كلقب تطلقه وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية على هؤلاء الصغار من المغنين والمغنيات الذين يتطاولون على الشعر والموسيقى والصوت الجميل فلا يطالونه إلا بوسائل ووسائط إلكترونية محكمة ومعقدة، وذلك للتغطية على صوت فحيحهم، أو موائهن، أو ضرب طبولهم وصخب آلاتهم، وعرض أجسادهن وسياراتهم. هذا عدا عن الشعر الذي يرددونه بلا معنى ولا مغزى ولا عبرة أو موعظة، ولا حتى فكرة جميلة يطرحونها، فإنهم يفتقدون كل هذا، وأصبحوا يطلقون على أنفسهم "مطربين ومطربات" وهم بعيدون كل البعد عن الطرب والتطريب.
إن ما حدث في هذه الحفلة أطرب السامعين، وخاصة أنا، فصفقت لا تشجيعًا بل إعجابًا وأيما إعجاب، وتمايلت وأنا الذي لا يميل، وتراقصت وأنا الذي لا أرقص، واعتراني الاهتزاز وانا الذي لا أهتز، وشعرت بنشوة وفرح عارمين قلما شعرت بمثلهما من قبل، أللهم إلا عندما سمعت كبار المطربين كوديع الصافي وصباح فخري وغيرهما قليل. وهنا أحسست بأن التساؤلات التي وردت إلى ذهني والتي طرحتها على نفسي قد تلقيت الجواب القاطع والرد والبليغ عنها، بأن الشعراء الأربعة ظهروا بقمة عطائهم، وبأوج إبداعهم، وارتقوا بفن الشعر الزجلي إلى مرتبة عليا، واستطاعوا أن يشمخوا رافعي الرأس وغير مشرئبي الأعناق، بل بهامات عالية وهمة عتية. وإذا كنت أوازي بين شحادة والزغلول وعادل وتوفيق فذلك لأن الزغلول نفسه ساهم في هذا الرقي وقال في ختام الحفلة:
والشاعرين اللي إلهن بالشعر عركات من الصعب مش راح ننسى أساميها
شحادة وتوفيق حلوين بيضوو هالساحات منا شهادة ما لازمهن تا نعطيها
غير شكل هالحفلة عن الحفلات دخلتها وقلبي معي موجود
ورايح وقلبي تاركو فيها
وهكذا يزداد العبء وتثقل المسؤولية على عاتق شحادة وتوفيق لينطلقا مع فرقتهما فيظهران على المنابر بكل ثقة، ويرسخان الزجل ويوسعان دائرة عشاقه وإطار محبيه. وأعلم بأنهما يخططان للقيام بجولات شعرية، فنية في أنحاء البلاد وفي الخارج أيضًا. وأقول لهما بكل تأكيد إن كبار الشعراء، كالزغلول وعادل وزغيب وطليع وغيرهم، بلغوا ما بلغوه من الرقي والعظمة والشهرة بفضل مثابرتهم وإتقانهم لفنهم وشعرهم وتحسين إبداعهم واحترامهم للجمهور، فهيا إلى العمل، وزيدوا من لقاءاتكم بكبار الشعراء العرب ونظموا حفلات كهذه بشموخ واعتزاز، لأنكم أيها الشامخون تستحقون كل مديح وثناء.