الرفض والتشكيكيّة في كتابات مرزوق الحلبي بقلم د. نبيل طنوس

بقلم د. نبيل طتوس,
تاريخ النشر 2020/01/06 20:31:30

مرزوق الحلبي مفكّر يعبّر عن فكره في مقالاته وشعره وتغريداته في شبكات التواصل الاجتماعي ومواقفه العملية في ما يدور من أحداث. له نهج خاص ومميّز وواضح، وهو التشكيكيّة التي تطرح تساؤلات حول حقيقة كل شيء وأبعد من ذلك تساؤلات حول حقيقة العقائد والنبوءات وغيرها.

الشك: الترددّ بين المتناقضين بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الأخر وهو خِلافُ اليَقِينِ.

يعود هذا النهج إلى المنهجيّة التشكيكية للفيلسوف ديكارت، ولكن يعود ذلك قبله إلى حضارتنا العربية التي غُيبت:

الغزالي يقول: "يجب أن تنظر بعين الشك كي تبصر اليقين"

الجاحظ: "لكي تنظر يجب أن تشك"

مكانةً خاصة للعقل عند أبو بكر الرازي في منهجه الفلسفي:

 "فهو المتبوع —لا التابع.

هو المهيمن —لا الخاضع.

 هو الزمَّام —لا المزمزم.

به رأينا الخير والشر؛ الضر والنافع؛ الصالح والطالح؛ به كشفنا الأسرار واطَّلعنا على الأنوار المستورة تحت الحجب المتراكمة؛ به رأينا الحق وبطحنا الباطل. ومادام هذا العقل قادراً على كل ذاك فما حاجة الأنبياء؟"

من هنا ضرب الرازي جذور العقائد الدينية هو ينتقد الأديان؛ ويبدأها ببطلان النبوات، وفي رأيه العقائد الدينية هي عادة! يتوارثها رجال الدين بعضا عن بعض، ويضفون عليها الهالة القدسية ويحرمون البحث في الأصول والمعتقدات وقياسها عقلياً ومنطقياً، ذلك عبر ترهيب العامة من التفكر في الأصول، وبذلك أحاطوا الأصول بهالة من القدسية والسرية التامة التي تجعل أي متمحص في الأصول كالقابض على الجمر. جعلوا من التفكير والنظر جريمة خطيرة في حق الله! ذلك لعلمهم أنه ما ان يوضع الدين والعقل على كفتي الميزان، رجحت كفة الأخير بلا منازع. وقد اخذ عالما الاجتماع جبرييل تارد  وغوستاف لوبون   فكرة الرازي في التقليد كأصل اساسي في أية محاولة لدراسة الأديان.

وثاني أخطر مراحل سطوة الدين، هي السلطان. رجال الدين يتعلقون بالسلطان ومن هنا يتمكنوا من نشر معتقداتهم إن لم يكن بالإقناع فعلوا بالقوة وقسراً.

ثالث المراحل هي التي تكون عبر المظاهر الخارجية التي يعتمدها رجال الدين- الإكليروس بكافة اطيافه - مما يؤدي الى الروعة والوهرة في نفوس البسطاء من العامة نساءً رجالاً وصبيانا. وعن طريق هؤلاء تنتشر العدوى الى باقي اطياف المجتمع....

كان الرازي مؤمناً بخالق للكون لكن ليس ذاك الذي تتكلم عنه الديانات الموجودة، لأنه يستحيل ان يكون هذا الخالق من يدعو الى رفع السيف في مواجهة الأخر، أياً كان هذا الأخر، من هنا نقد الديانات كلها، ونقد نظرية التفاضل بين البشر سوى بمقدار ما سعى ذلك الفرد للوصول للكمال العقلي؛ من هذه الناحية كان فيلسوفاً عقلانيا، تنويريا، مؤمنا بملكات العقل وفضّلها على ما عداها، وطامحاً لكمال الإنسانية بفضل العلم والعقل والمنطق، كان إنسانياً بامتياز، رأى الحق واتبعه ونادى به. ويبقى ان نقول ان ما انطفأ في غياهب تاريخنا اسطع نوراً من كل من يُسمون بمصلحين واهل اخلاق ودين.

في سنوات الستين رفع شعار التشكيكية/الرفض الصادق النيهومي (كاتب وأديب وفيلسوف ليبي). نجح في بلورة خطاب ثقافي رافض، تنويري وحداثوي وشاركه في هذا الشاعر أنسي الحاج، تأثّر به عدد كبير من الكتاب والشعراء المعروفين.

نحن بحاجة ماسة إلى فكر رافض وتشكيكي لأننا نتصرف كالقطيع. يتحدث هشام شرابي عن "المسايرة" في الثقافة العربية السائدة ويقول طالما نساير من غير الممكن إحداث التغيير.

يشخص بشير الخضرا حالتنا بالذاتية، ينطلق العربي من ذاته. الصحيح هو ما يناسبني فقط ولذلك فهو لا- مؤسّسي. علاقته بالمؤسسة تنبع من مصلحته الشخصية ولذلك يعيش في فراغ.

أترجم شعره بسبب الرفض والتشكيكية في كتاباته:

  1. العروض كهف الشعر أو قفصه!

إننا بصدد نكوص نحو كهف الشعر وقفصه. وتقديري أن معالم الشعر اختلطت بفضل الاجتهاد المبارك لأناس أفنوا أعمارهم في التحديث والتجديد، في تحرير الشعر من أسره ومن تفعيلته وربطة عنقه الخانقة وحذائه الثقيل وقافيته الصادّة على مدار عقود من أربعينيات القرن الماضي. وبسبب ضمور الحالة الشعرية عند قطاع واسع من مريدي الشعر فينكفئون إلى النظم العروضي هذا، فيما نقرأ كل يوم نماذج جديدة لشعراء وشاعرات كسروا كل القواعد الآسرة، القابضة على روح النص وكتبوا وكتبن شعرا بفنية عالية الأمر الذي كشف بؤس الشعر العَروضي ومحدوديته كما يأتي به "العروضيون الجُدد".  

  1. موتيف "القضية":

بوصفه موجة موصلة إلى الموقع الشعري المرتجى أو قلوب الجماهير العريضة أو النجومية الشعرية!

 ثلاثة أجيال من روّاد الشعر جرّبوا حظهم مع هذا الموتيف الموصل لكن قلةً منهم وصلت. الأوائل أرادوا توكيد هويتهم وروايتهم في وجه سيادة الآخر وسلطته وروايته. فإذ بروّاد الشعر في حينه قد تحوّلوا إلى واضعي النصوص المؤسسة للهوية الفلسطينية في الوطن بعد النكبة. وكان شعرهم ثمرة جهد مثلث الوظائف. في الأولى ـ بناء الذات واستعادة المعنى المفقود بعد النكبة وخراب أعقبها. في الثانية ـ التأشير للحيز العربي خارج الحدود وللشعب الفلسطيني الذي اضطّرّ إلى اللجوء أننا لا زلنا قطعة من لحمه ودمه وجرحه. في الثالثة ـ التأشير للسلطة الإسرائيلية والحكم العسكري الذي اضطلع بمهام السيطرة والتبيئة من جديد أننا جزء لا يتجزأ من شعب ورواية لا أقليات يتيمة مقطوعة من شجرة........

ويأتي البعض من رواد الشعر من الجيل الرابع الآن لينسخوا بشكل حرفي ما أنتجه الأوائل ويسيرون في شعرهم على درب الأولين نقلا واتباعا لا تطويرا وإبداعا.

هذه السيرورات المشدودة بموتيف القضية أفرغ الشعر من معانيه الأخرى وأنتج إرثا شعريا محدود الشاعرية. هنا ـ يبدو الشعراء نسخا متواترة عن بعضهم تتكرر مفرداتهم وإن تغيّرت مواضعها في النصوص. العقيدة والأيديولوجية هنا لا تُغني الشعر ولا النص بقدر ما تقبض على روحه وتحبسه كما في ظاهرة العودة إلى العروض.

  1. قبضة اللغة:

الشعر يتأتّى من قُدرتِنا على الإفلات من قبضة اللغة العادية ومبانيها الآسرة وإنتاج لغة جديدة من خلال الاستعارة والمجاز والكناية ـ .....هو تشكيل مُغاير للجُمل وعموم الكلام والتراكيب لخلق العالم الجديد بإيحاءاته وصوره وعناصره ـ وهو عالم يُفترض أن يكون مُدهشا وجميلا وساحرا وفاتحا الباب أمام المتلقي كي يتمتّع أو يُصعق أو يُطلق صرخة دهشة أن يقول: 'كنتُ أودّ لو أنني صاحب هذا النص'. الشعر يتطلّب من صاحبه ذكاء لُغويا وإلى جُرأة الخروج على اللغة من داخلها. فلا خلق جديد إلا بلُغة جديدة.

  1. فتح القلب والعقل للنقد وفتح مساحة واسعة من الخلاف:

"رأيي صواب يحتمل الخطأ  ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " الإمام الشافعي

قصائد مرزوق تهتك الكثير من  المفاهيم ومراكز القوى ومُعتقدات وسلطات وإيديولوجيات وعقائد وهذا مثير للمتاعب في واقع من العصبيات والتحزّبات والعلاقات المتوتّرة بين مراكز القوى والأشخاص. وهو، الحلبي، يقول في هذا المضمار:

" أنا اخترت طريقي بوعي وإدراك للتبعات. وأقول لهم يسرّني أن نتفق لكني لا يضرّني أبدا أن نختلف. أنا مختلف مع نفسي أحيانا سعيا لبلوغ الائتلاف والأمر نفسه مع الواقع والكون. وقد لا أنجح. مع هذا أصرّ أن أكون حاضرا بقوة على الأقل مع ذاتي وشعري وأفتح النار من هناك على كل ما أراه خطرا على العدل كأولى الفضائل. وحمل الحقيقة رايةً بحاجة إلى جرأة وطاقة جبارة على الحياة. يُصيبني الأذى مرارًا ويلحقني الشرّ إلى بابِ بيتي ـ حتى الآن نجوت.

  1. كتم الأصوات: كتب في صفحته في الفيسبوك في 24.11.19:

"ثقافة مطعونة من الخلف

"فرقة صول" الغزّية تجوب جيتو غزة من شماله إلى جنوبه وتغني للناس مقاومة الحصار الإسرائيلي الخارجي بالحفاظ على طاقة الفلسطيني الإنسانية على الغناء، غناء حياته ووجوده ووجعه،

أغاني لطيفة شاحنة للروح إلا أن هذه الفرقة التي تضمّ فتاة لم تسلم من تحريض بعض شيوخ في غزة الذين تبوأوا مناصبهم الاعتبارية بقوة سلاح حماس وسطوتها، ويُمارسون بالقوة ذاتها حصارا على روح الفلسطيني وإنسانيته كما عبّر عن ذلك شيخان من هذه المشايخ المكلّفة بخنق روح الإنسان..........

لقد قاوم الغزيون الاحتلال الإسرائيلي ولا يزالون يطرقون جدران الجيتو ويحاولون كسر الحصار. فتأتيهم الضربة من مأمنهم على شكل "أمر ديني" ولُغة تدين وتُحاكم وتعرّضهم للأذى من أي مهووس يصدّق خراريف الشيوخ وجنونهم.

الفلسطيني القادر في أحيان كثيرة على التسامي فوق قامة السجان قد يجد مَن يطعنه من الخلف...

 

  1. ما هو الشعر عند مرزوق؟

يقول مرزوق في مقابلة:

" أنا بحاجة إلى الشعر لأحاور ذاتي وأتجاوزها في كل قصيدة من جديد. أنا بحاجة إلى الشعر لتواصل حميم مع ذاتي الفاعلة المجرّبة لأصححها وأبريها لأجعلها أكثر نفاذا وتأثيرا في الواقع.

 الشعر هو كلامي مع ذاتي الجوانية وحوارًا حميميا معها. أكتب الشعر لأصحح مواضع الخلل في الكون الرحيب. أكتبه في إطار سعيي الفردي لإقامة العدل. فشعري هو حرب لا هوادة فيها ضد القُبح ـ القبح في الشعر والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد وفي كل حقول حياتنا. الشعر عندي نشيد يتجدّد للحريات ضد الطغيان والقهر والسلطات كلّها. الشعر عندي وسيلتي المُثلى لاكتشاف الحقيقة وقولها".

يقول الحلبي: "لا أومن بمشروع شعري جدّي لا يشتغل بالقضايا الوجودية الكبيرة الذاتية والقيَمية. شِعر التسالي واللهو هو كلام عابر لا يُعوّل عليه........أنا أعترف بهزائمي أو ضعفي الإنساني لكني لا أتنازل عن طموحي في أن أخلق الكون من جديد على هواي. .... والشعر الشعر وسيلتي الناعمة للقيام بذلك. إنه طاقتي القادرة على كل شيء. خاصة إن مصدرها هو العقل الكلّي الذي أقاربه في كل نص وأتمنى أنني أفلحت في الاندماج والاتحاد فيه".

في قصيدته "إلى محمود درويش!" يطرح مرزوق  مصادر الشعر:

مَن يعرف حيفا، ...

يسكنه الشعرُ على وجع

 يسكنه الشعرُ على أمل

 يسكنه الشعرُ على شغفٍ

 ويصير إله!

 

وأنهي بما قاله محمود درويش:

إن أَردنا

سنصيرُ شعباً، إن أَردنا،  حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً،  وأَنَّ

الشرَّ ليس من اختصاص الآخرينْ.........

سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة...،  حين

 يُعْلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرةْ

سنصير شعباً حين نحترم الصواب،  وحين نحترم الغَلَطْ !

 

د. نبيل طنّوس

 

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2382
//echo 111; ?>