"خلقنا لنبلغَ شأوَ الكمال..."
هذه الكلمات هي للشاعر الخالد (أبو القاسم الشابي) وردت على لسان (الفيلسوف) في قصيدته (حديث المقبرة) التي نظمها من ثلاثة أرباع القرن وعمره آنذاك ثلاثة وعشرون عاماً، "متسائلاً عن جدوى الحياة والموت، عبر حوار بينه وبين روح فيلسوف، هائم النظرات في المرامي البعيدة للوجود.."
في هذه القصيدة يبدأ الشاعر بابتسامات الجفون التي تفنى، وتوهّج الخدود الذي لا يلبث أن يخبو، ثم ينتقل إلى ورود الشفاه التي تذوى وتهوي إلى التراب. ويقف متأملاً القوام الرشيق الذي ينهدّ بدوره ويتحلل مع الصدر والجيد وغيرهما من الأعضاء.
أما الوجوه الصبيحة والجمال الفريد الفتان فيقف عندها متأملاً ذلك التحول العجيب الرهيب الذي يطرأ عليها فتمسي ربداء بعد تألق.. غبراء كجنح الظلام، إذ تحولت مع الغدائر الأنيقة الجعداء إلى هباء، وقد انزاح فجأة سحر الغرام القوي وذهبت سكرة الشباب السعيد لتحل محلها حقيقة أخرى أكثر تحفيزاً على التفكير وأبلغ أثراً في النفس المتأملة.
ثم يتحول شاعرنا الملهم ببصره إلى الوجود المرئي نفسه وينطلق بفكره بسرعة تفوق سرعة الضوء ليرى بعين الخيال أو الحدس حقيقة أخرى بعيدة كل البعد عن الواقع المحسوس الملموس في عالم النسبية ذي الحدود والأبعاد، فيلحّ عليه التساؤل:
أيَجوز أن تـُطوى سماوات الوجود ويضمحل الفضاء البعيد المترامي؟
أيُعقل أن تفنى النجوم القديمة ويصاب الزمن نفسُه بالشيخوخة والهرم؟
أيصحُ أن يقضي صباح الحياة المشرق ومعه ليل الوجود العتيد؟
وبصحبتهما الشمس التي توشّي رداء الغمام والبدر المضيء وأيضاً الغيوم؟
أيتلاشى البحر الفسيح العميق وتهجع الريح التي تمر مرور الملائكة أو تقصف قصف الرعود؟
أتخمدُ العواصف ذات الزئير المدوي في حنايا الجبال، وذات الجبروت الذي تهوي أمامه الصخور وتتفتت؟
أتصمت الطيور المغردة بين الغصون، الهاتفة للفجر بين الورود، صمتاً أبدياً؟
أيذبلُ الزهر العابق بنفح الشباب وأريج الغرام، المرتشف جرعاته النورانية من كل ضوء جديد؟
أصحيح أن ليل الفناء سيسطو على كل شيء ليوفر بذلك ملهاة للموت الذي يطيب له أن ينثر أشكال الحياة وصورها في الفراغ المخيف "كما تنثر الوردَ ريحٌ شرودْ"؟
وإن فعل ذلك فلا بد أن بحر الحياة سينضب مثلما سيتبدد روح الربيع الدائم التجدد.
وإذا ما حدث ذلك لن يلثم بعدها النورُ سِحرَ الخدود.. ولن تنبت الأرض الورود الغضة الندية..
يستصعب شاعرنا هذا الفناء ويستثقل ظل الهمود الكثيف الكئيب.. ويتساءل معاتباً القدَر:
وهل من ضير لو استمرأ الناس طعم الخلود دون أن يحيق بهم الخراب وأن يُفجَعوا بأحبتهم؟
أما من سبيل آخر للخلود غير طريق الردى وظلمة اللحد؟
وكم رائعاً لو دام الشباب وعاش الربيعُ مؤبّداً واحتفظت الورود بلطفها ورقتها!
ويتمنى لو عاش الناس في أمن وسلام عيشة مريحة رضية رغيدة..
لكنه يستفيق بعد برهة ليستنتج أن القدَرَ عاتٍ مستبد.. يستطيب نواح البشر كالأناشيد المطربة..
وهنا تنهض روحُ فيلسوفٍ قديم من بين القبور فتشفق على الشاعر وتتعاطف مع آلامه وحيرته وتخاطبه معاتبة مواسية:
أهكذا تملّ العيش وتخشى الفناء، مع أنكَ لو دمتَ حياً لسئمت الخلود؟!
أجلْ، لو بقيتَ حياً في هذه الأرض لتحولتَ إلى جبل وحيد رهيب..
غير قادر على تذوّق رضاب العيش ورحيق الحياة..
ولن تتمكن من معرفة شيء عن سحر الكائنات ونشوة الحب عند المحبين،
"وصرخة القلب عند الصدود"..
ولما فكـّرت بالغد الذي تكتنفه الأسرار
أو عقدتَ العزم على بلوغ الغاية البعيدة..
ثم ينصحه قائلاً:
هيا تأمل فنظام الحياة دقيق وبديع
لا شيء يحبب للإنسان العيش الدائم على هذه الأرض إلا الفناء ورهبة اللحد..
ولولا ما في الحياة من شقاء لما أدرك الناس نكهة السعادة.
فمن لم يرَ وجه الظلام العبوس لن يفرح ببسمة الصباح الجديد.
فيجيب الشاعرُ متسائلاً:
إن كان لا بد لساكني الأرض من مواجهة القدر المحتوم
فما قيمة الحياة بما فيها من عراك وصراع؟
وما جدوى الجمال والأغاني والظلام والضياء والنجوم والتراب؟
ولماذا نعبر وادي الزمان على عجل دون أن نعود إليه؟
نعيش للحظات متسارعة.. نشرب من ينابيع الحياة شراباً مختلفاً طعمه وطبيعته..
"فمنه الرفيعُ، ومنهُ الزهيدُ، ومنه اللذيذُ، ومنهُ الكريهْ..."
وبين هذا وذاك نحمل عبئاً من ذكرياتٍ وعهودٍ لا تعود..
ونبصر وجوهاً شقية، سعيدة، بديعة، شنيعة، عنيدة، وديعة..
حقاً أن هذا الوجود لغريب.. نأتي إليه فـُرادى من عالم غير منظور..
"فما شأنُ هذا العداء العنيف.....وما شأنُ هذا الإخاء الودودْ؟"
فيجيب روح الفيلسوف:
(خلقنا لنبلغَ شأوَ الكمالِ
ونصبحَ أهلاً لمجدِ الخلودْ
وتطـْهرَ أرواحُنا في الحياةِ
بنار الأسى وبيأس الوعودْ
ونكسبُ من عثراتِ الطريق ِ
قوىً لا تـُهَدُّ بدأبِ الصعودْ
ومجداً يكونُ لنا في الخلودِ
أكاليلَ من رائعاتِ الورودْ!)