يــولا – كَتبها: عُمر سعدي

تاريخ النشر 2/1/2010 18:35

كَتبها: عُمر سعدي

1 كانون ثاني 2010 

هل تَسمحينَ لي أن ألمسَ يَدَكِ؟! وعلى الفَور صرخَت بي، كلّا وأحاطتني بنظراتٍ مضطربة، مسكونةٍ بالغَضَب وطلَبت مني على الفور أن نغيّر الموضوع، ابتسمَت حينَ مرَّرَت يدها فَوقَ يدي بعدَ حالَةٍ من الاضطراب ولحظاتٍ مِن الارتخاء الفكريّ، لَم أشعُر بيديها أبدًا، كُنتُ باردًا تمامًا وأفكّرُ بأمرٍ واحِدٍ، أيّ النساءِ أنتِ وأيُّ التعساءِ هو أنا.

حدّثني عَنكَ، عَن أخبارِكَ، عَن عَمَلِك وعَن أحلامِكَ! حدّثني عَن كلّ شيء، أريد أن أعرفَ كُلّ شيء عََنكَ. ربّما لأني كُنتُ أشعُرُ بالضياعِ وقتَها لَم تأتِني الأفكارُ فتحدّثتُ لا إراديًّا بأمورٍ لا تتعلَّق بي أبدًا، ليسَ لأني لا زِلتُ أفكّر باضطرابها أو ردّة فِعلها الغريبة ولكن لأني لم أشعُر بشيء مِن الحَرارة تتسكَّعُ في طُرُقاتِ جَسَدي عِندما حاولَت أن تَلمَسَ تلك الأيدِ البارِدة التي أبَت أن تُغادِرَ عُنقَ زُجاجَةِ العَصيرِ التي تمنّيتُ أن تبقى باردةً إلى الأبَد لعلي أشعُرُ بقليلٍ مِن الدفء حينَ ألمسُ يَدَها.

نَحنُ على مَقرُبَةٍ مِن الحَديث وعلى بُعدِ شمسٍ مِن الدفء، لَم أعرِف يَومَها ما الذي أصابَني وأنا أقرأ لها أولى مُحاولاتي في الكتابة وأنا أنظُرُ خارِجَ عينيها. أنتَ شاعِرٌ حقيقيٌّ قالَت لي، كَلِماتُكَ تَسحرني، إنَّك مُفعَمٌ بالمَشاعِر، عميقُ الفِكرِ وواسعُ الأفقِ "صديقي". ابتسمتُ بِلُطفٍ ورفَعتُ عيوني عَن مُفكِّرةٍ صامتَةٍ لألمحَ عينيها تَصرُخانِ بكلامٍ لَم تَكتبُهُ أبدًا، ربّما لأني لا أتقِنُ لُغَةَ العيونِ فَهِمتُ أمورًا لم يكُن علَيَّ فَهمُها. شُكرًا عَلى مشاعِركِ وكلاماتِك بحقِّ كتاباتي ولكنني لستُ شاعِرًا. هكذا أجَبتُها ودُخانُ أفكاري يَمرَحُ مِن حَولي مُتّخذًا أصنافَ الشُكوكِ وصيغًا مُختَلفَةً مِن الجنونِ العاطِفيّ.

طَلَبتُ مِن "النادِل" أن يُغيِّر الموسيقى لأغنيَةٍ أُحِبُّها، كانَ نادِلًا لطيفًا حينَ رفَعَ يَدَهُ وأجابَني بِحرارة :"أمرُكِ سيّدي، في الحال"، تاركًا الطاوِلَة مكسُوَّة بالغُموضِ ووجهها مغطّى بالتساؤُل، أُحبّ فيروز حُبًّا عميقًا مُنذُ زَمَنٍ لَم أستمِع إلى هذهِ الأغنية، إنَّكَ رائعٌ وذوقُكَ رومانسي، إنّك شاعرٌ حقًّا.

بدأت فَيروزُ قَهوتها فوقَ مُفتَرقِ اللقاءِ الأوَّل وبدأتُ أبني أفكاري بغموضٍ مُختلفٍ عَن أيّ غموضٍ آخَر، الغموضُ هُو الغُموضُ، لا يُمكِنُ تَفسيرهُ إلا بكلمةِ غامِض.

- هَل دَرَستَ شيئًا؟ ، في أيّ جامعاتِ البلادِ دَرَستَ وماذا كان تَخصُّصكَ حينَها؟!

- جميعهم يسألونَ نَفسَ السؤال، أينبغي أن أدرُسَ شيئًا لأشعُرَ وأكتُب! أنا أعمَلُ في إحدى الشركاتِ عاملًا بسيطًا براتِبٍ شهريٍّ مَتوسّط، أطمَحُ لأمورٍ أفضَل ولكنّي الآنَ أفضّلُ العيشَ بالتسلسلِ الذي اعتَدتُ عليهِ.

- إنّكَ تَمزَح، تَملك أفكَارًا بذاكَ المُستوى وتُحاول إقناعي بأنَّكَ لَم تَدرُس شيئًا. على كُل حال، وفقك اللهُ في كُلِّ شيء. أتَعرِف، فَيروز تُثيرُ فضولي لأشاكِسَ قَلمي وأحاوِلُ أن أكتُب، الليلُ يَضمُرُ في أحشائهِ أسرارنا ونَحنُ حينَ نَكتُبُ نستعيرَها مِنهُ لذلِكَ فهوَ هادئ الطَّبعِ، حادّ المزاجِ ومتقلّبٌ تمامًا.

- ربَّما هُو الليلُ. لكنَّ قدرًا يافعًا يولَدُ في كلِّ ليلةٍ ليَرفعَ يدَهُ الدافئَةَ ويَغمُر قبضتنا البارِدة، يستَلُّ أحلامَنا مِن أغمادِها ليستفيضَ مشاعِرَنا، الكتابةَ هاجِسُ النُبلاءِ وأولى خطواتِهم نَحوَ الصُراخِ الصامِت فهُم يكتُبون، قد تَكونُ الكتابةُ انتحار ولكنَّهُ انتحارٌ لذيذ.

- لَو كانَت الكِتابةُ انتحارًا لما عِشنا لنقرأ، الكتابَةُ صورٌ منسيّةٌ عن شخصياتِنا، تُحاوِلُ أن تتضِحَ مِن خلالِ الكلمات، تَنسُجُ نفسها فترتدي أحلى حُلَّةٍ لديها ونحنُ حينَ نقرؤها نزدادُ حُسنًا وجمالًا ويزدادُ الأمَلُ فينا.

- رُبّما. وصمتتُ بُرهَةً.

كانَ المَقهى يعُجُّ بالزبائِن، كُنتُ الزبون الأكثر جُبنًا هُناك، لا بُدّ أن الوَقتَ يمضي مُسرِعًا، آخِذًا مَعَهُ لَهفَتنا التي تولَدُ في عَتمةِ الضوءِ وإيقاعاتِ قلوبنا التي تأبى الفراقَ أبدًا. بدأتُ الآنَ أشعُرُ بالراحَة، بدأتُ أسكُبُ شُعوري في كأسِها النصفُ فارغَةٍ كي تَحتسيه .

-أخبريني عَنكِ، لَم أعرِف حتى اسمَكِ، لعلَّه واحِدٌ مِن أغرَب اللقاءات، نلتقي ونحنُ لا نَعرِفُ شيئًا عَن بعضِنا . اسمي "عُمَر" ليسَ لاسمي أي حالَة أخرى، الكُل يُناديني "عُمَر" هكذا.

-اسمي "يولا"، والدي مِن البلاد، تحديدًا مِن مدينَة الناصِرَة ووالِدتي أجنبيّة، كنَديّة الأصل، جاءت مَع والدي بعد علاقَةِ حُبٍّ دامَت أكثَر مِن خمس سَنواتٍ.

-اسمُكِ جميل، لَن أسألَكِ عَن معناهُ لأنَّ الأهَم مَن يَحمِلُ الاسمَ وكَيفَ يتفوَّق على معناهُ بتصديقهِ لِصِدقِهِ.

-ربّما كان اسمي غريبًا، لكنَّ معناهُ ليسَ غريبًا فهو يعني "الفتاة المولودَة في عيد الميلاد"، رُغمَ أنّي وُلِدتُ في وسَطِ العام، تحديدًا في شهر نيسان.

-عاشَت الأسماءُ جميعها، لَن تَقلِبنا الأسماءُ ولا معانيها، تذكَّرتُ أغنيةً لِفيروز تتحدَّث عَن الأسماء، كُنت أرددها باستمرار فهي تحكي قصّة أسمائنا التي قد تكون بعيدة تمامًا عَن صِفاتِنا بالحقيقة.

-آه، عَرفتُها، أغنيّة جميلَة جدًا، حاولتُ ترجمتها للكندية وأرسَلتها إلى بعض الأصدقاء هُناك، أعجَبَتهُم. صدَقت، الأسماءُ أحيانًا ما تكون خَدَّاعةً، لا يمكِننا النظَرَ إلى الأشخاصِ مِن مُجرّد الأسماء وخصوصًا أننا لسنا مَن نختار أسماءنا.

-هَل أنـتِ راضيَة عَن اسمِك ؟

-لَن أقول أني راضيَةٌ تمامًا ولكنني تعوّدتُ علَيهِ، صارَ جزءًا مِني، صِرتُ قَيدَهُ بَعد أن كانَ هُو قَيدي، هو اختيار أمي ربّما لأنّها تَمنَّت أن أولَد في عيدِ الميلاد ولكنني سَبقتُهُ بكَثير.

بَينَ وقتٍ يموتُ وفضولٍ يولَد بقيتُ هاجِسًا للزمَن الذي لَن يُعيرَني قبّعتهُ كي أخفِيَ ما تبقّى مِن مشاعِري، أرقُصُ وفي ذاتي غُموضٌ لا يُوصَفُ أبدًا وإن وصَفته فسأخفِقُ مليونَ مرّة، سأحاوِلُ أن أبدوَ طبيعيًّا، سأحاوِلُ أن أتقرَّبَ مِنها، لعلَّنا نولَدُ مِن وسَطِ الدربِ بدفء أقدارنا.

-الليلة ليلة رأس السنة، أينَ ستحتفلينَ بها ؟

-صحيح، إنها ليلَةُ وداعِ الـ 2006، لا أدري، ربّما سأحتَفِلُ مع العائِلَة قُبيلَ سَفَري إلى كَندا.

-هل أنـتِ مُسافِرة، متى ولماذا؟

-سأعودُ إلى كندا لاستكمالِ دراسَتي هُناكَ فأنا أدرُسُ عِلم الفلَك هُناك وهذا هُو عامي الثالِث قبل التخرّج.

-سأتمنى لكِ التوفيق، هَل اختَرتِ هذا المجال للتخصص أم أن أحدًا نصَحَكِ بهِ ؟

-في الحقيقة كانَت والدتي مُصرّةً بعدَ انفصالِها عَن والدي أن أدرُسَ في كنَدا واخترتُ موضوع الفَلك لأني كُنتُ شغوفةً بهِ، أحببتُ أن أعرِفَ كُلّ شيء عَنهُ، إنهُ مجالٌ واسعٌ ورائعٌ يضعُ الكونَ بينَ يديكَ فتُحسّ بهِ قريبًا جدًّا إليكَ.

-سأتمنى لكِ التَوفيقَ وإن كانَتِ الكواكبُ ليسَت سِوى أوطان لسُكّانٍ أجهَلَهم تمامًا، أوطانٌ أكثر حُريّةً ودِفئًا، هي مساماتُ السماءِ التي تَفضَحُ الكَونَ ليلًا فتجعَلُنا نَشعُر بنشوةِ النظَرِ إليها لتبقى مُجرّد كواكب ليسَ إلا.

-الكواكِبُ التي تُضئ السماءَ وتمنحَهُ الدفء الذي ذكَرتهُ تؤثّرُ أيضًا على حياتِنا، لكلّ كَوكبٍ حرَكَتهُ ووجهَتَهُ، لكلّ كوكبٍ مدارَهُ كما لكلّ إنسانٍ مدارهُ في الحياة، هناكَ تأثيرٌ كبيرٌ يا صديقي. ألا تؤمِنُ بالكَواكِب.

-لعلّ الأقدارَ هي كُلّ ما أؤمنُ بِه، الكواكِب تبقى مجرّد أيقوناتٍ متحرّكة في كبِد الكَون وإن حرّكت بي شيئًا فأنا أسميهِ الأقدار، الأقدار التي لا أبحَثُ عَنها أبدًا، الأقدار التي تأتي على مَهلِها فأنا لَستُ ممن يَبحثونَ عَن مستقبَلِهِم في الكواكِب، أنتظِرهُ "أجل" لكن فليأتِ على مَهلِه.

-كثيرون هُم مَن لا يؤمِنون بالكَواكِب، لَن أغيّر قناعاتكَ بِها، ربّما في مَوعِدٍ آخر قَد أقنِعكَ بِه. اسمَح لي الآن، عليّ المُغادَرة، والدي ينتَظِرني، اعتنِ بنفسِكَ جيّدًا ... إلى اللقاء.

- إلى اللقاء، عِديني بأن نلتَقي مرّةً أخرى.

- أعِدُك، هذهِ عَناويني ... إلى اللقاء.

الليلَة سأودّع عامًا أجهَدني، عامًا كُنتُ أنا سِجنَهُ وسجينَهُ، أوقَعني في مصيرِه وجعَلني طيفًا ساخِرًا مِن كُلِّ شيء. يولا، كِدتُ أنسى نَفسي فَوقَ الطاوِلَة، مُتكئًا فَوق قَبضتي وناسيًا كُلَّ شيء مَضى.

هُنالكَ أشخاصٌ يمرّونَ بنا، يتركونَ أثرًا جميلًا ويرحَلون. يمُرّونَ بالأسماء، بالأقدارِ ويغيبونَ ربّما لأنّ الأقدار هيَ كذلك ... تَسحبُ إلينا أناسًا لا نَعرِفهُم أبدًا، تُقرّبهُم مِنّا وتَسحَبهُم مِن جَديد.

كُنت مُتلهِّفًا جدًّا للقائِها، أرسَلتُ لها رسالَةً إلى بريدها الالكتروني أطلُبُ مِنها رقمَ هاتِفها لأنني كُنتُ عجولًا فنسيتُ أن أطلُبَهُ في المقهى، مضَت الساعاتُ دونَ أن أتلقى ردًّا، يولا ... يا ابنَةَ لحظةٍ وَلدت بي كائنًا حُلوَ الملامِحِ أينَ أنتِ ؟

عِندَما تَمرّ اللحظات وأنتَ تُفكِّرُ بشخصٍ ما فهي تُنهِكُكَ تمامًا، يصيرُ فِكرُكَ سجنًا أنتَ تسكُنهُ وتُصبحُ المسافاتُ المضطرِبة حاجِزًا بينَكَ وبينَ فضولِكَ. كانَ صوتها لامعًا في نَجمِ روحي، ربّما لأنَّ يدَها التي أبَت أن تحتضنها يدايَ ظلَّت مُنتظِرَةً بدفء رجوعَ ذاكِرتي إليَّ لتحتضنني وتُشعِلَ أجزائي.

المقهى الذي يَبعُدُ مسافةً طويلةً لَم يكُن عائقًا بيننا عِندَما قرّرتُ أن أزورَهُ وأسأل النادِل اللطيف عَن أخبارِها، دَخَلتُ المَقهى وسألتُه: يولا، هَل جاءَت إلى هُنا ؟ هل تَركَت شيئًا... هل قالَت شيئًا . النادِل أصابهُ نوعٌ مِن الذهول، ابتسَم وأجابَني : أي يولا، أتقصِد تِلكَ الفتاة التي كُنتَ بصحبتها في آخر لقاءٍ هُنا ؟ قلتُ له :أجل. اتّسعت المسافة بينَ شفتيهِ مبتسمًا وقال : إنَّها مِن هُنا، تَسكُنُ في الناصِرة بعدَ أن تبنّتها عائلة متوسطَة الحال. سألتُهُ عَن عُنوانها فأجاب أنّهُ لا يَعرِفُ عنها شيئًا غيرَ أن "سمعة" عائلتها ليسَت جيّدة. تَركتُ المكانَ صامتًا، أذِنتُ لنَفسي أن أفتحَ النافذة برغمِ المطر الغزير في الخارِج، تبللتُ وأنا أقود سيّارتي عائدًا مِن أوَّل المُلتقى إلى آخِرهِ رجوعًا إلى حِضنِ وحدَتي.

الأفكار التي تأتي بالأمل قد تكون "أحيانًا" هي ذاتها التي تمنحُك اليأس، لكُلٍّ تأويلهُ الخاص ولكلٍّ قدرتهُ على استيعابها، قَد تكونُ تلك الإخفاقاتُ مرجعيّتكَ ذاتَ يومٍ، أدخِلها سجّل ذكرياتِكَ، دعها تختبئ هُناكَ بُرهةً مِن الزمَنِ لتَخرُجَ مِن هُناكَ ريّانَةً بأملٍ يسجُنكَ مِن جديد.

ما تزالُ صورتها عالقةً في ذهني، أيّ أحمقٍ أنا. دخَلتُ إلى غُرفَتي وبدأتُ أكتُبُ شيئًا ما، لأن الكتابَةَ هي الملاذُ الوحيدُ الذي لا يُمكِنهُ أن يعبَثَ بِكَ أبدًا ... يرنُ جَرسُ الهاتِفِ مُنفَعِلًا ...

  • آلو، مَن المُتحدِّث ؟
  • يولا.

عُمَر سعدي ... سخنين

 

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2440
//echo 111; ?>