( في الذكرى السنويَّةِ على وفاِتهِ )
( بقلم : حاتم جوعيه - المغار - الجليل )
مُقدَّمة ٌ : الشاعرُ والأديبُ المرحوم " نزيه خير " من أهمِّ شعراء الجيل الثاني وأبرزهم داخل الخط الأخضر (عرب ال 48 ) حسب تقييم ورأي جميعُ النقاد المحليِّن وفي العالمِ العربي ، وكما جاءَ في مُقدمةِ الديوان للهيئةِ المصريَّةِ العامَّة للكتاب - القاهرة - التي أصدرَتْ ديوانهُ هذا الذي نحنُ في صددهِ .
وأنا ، بدوري ، أعدُّهُ في طليعةِ الشُّعراءِ المحليِّين منذ ُ الجيلِ الأوَّل ِ إلى الآن من ناحيةِ المستوى والإبداع الشِّعري . ولكنهُ لم يحظ َ بالشُّهرةِ والإنتشارالكافي - عربيًّا وعالميًّا - ، فتوَحُّهُهُ وكتاباتهُ لخدمةِ شعبهِ وقضاياهُ المصيريَّة وللأمَّةِ العربيَّةِ وللمواضيع ِ الإنسانيَّةِ والأمميَّةِ شاملة ً وليستْ مُقتصِرةً فقط ومُرَكزةً لجهةٍ سياسيَّةٍ أو لإطارٍ مُعيَّنٍ .
يتميَّزُ شعرُ " نزيه خير " بالتجديد والأصالةِ الإبداعيَّةِ والقدرةِ على التوظيفِ الدَّلالي للموروثِ الفكري والتاريخي العربي... مع المحافظةِ والإلتزام ِ في خصوصيَّةِ اللغةِ وإيقاعِها وجَرسِها الموسيقي الداخلي مع الإبتعادِ عن الإستغراقِ في الغموض ِ والرُّموز ِالمُبهمةِ ، فيتوجَّهُ ويخاطبُ الأمَّة َ العربيَّة ككل ( الذهنيَّة الجماهيريَّة والمثقفة ) بالسهلِ الممتنع . وكما جاءَ في مقدمةِ الديوان : هو حالةٌ ثقافيَّةٌ طليعيَّة خاصَّة وشاهدٌ ثقافيٌّ مميَّز ٌ على مُواجهةٍ يوميَّة ٍ يقفُ إزاءَها دائمًا المُبدعُ العربي الفلسطيني المُلتزمُ داخل فلسطين 48 ( الخط الخضر ) وأمام ثقافة
أنجلو سكسونيَّة غازية تعملُ بشتى الوسائلِ على طمس ِ وتذويب ِالإبداع ِ الأدبي العربي المحلي بجميعِ الطرق ( المباشرة والمُلتوية ) .
فنزيه خير هو صوت ٌعروبيٌّ وقوميٌّ يُجَسِّدُ وَيُمثّلُ بحقٍّ وحقيقةٍ المَدَّ الثقافي والأدبي والفني المحلي المُلتزم ويُمثلُ الثقاففة العربيَّة التقدميَّة الرائدةَ وقدرتها على مُواجهةِ الآخرين في أوضاع وظروفٍ شاذَّةٍ وصعبةٍ واستثنائيَّة . – مَدْخلٌ : - إنَّ ديوان " وَرثتُ عنكِ مقامَ النهاوند " يقعُ في 132 صفحة من الحجم المتوسط - إصدار ( الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب ) يحوي مجموعة ً من القصائد المُختارة نُشِرَ بعضُها في دواوينهِ السَّابقةِ ، وهذه القصائدُ تتمحورُ في مواضيع مُتعدَّدة : السياسيِّة والوجدانيَّة والقوميَّة والغزليَّة والإجتماعيَّة ... إلخ .
لنبدأ بالقصيدةِ الأولى من الديوان بعنوان : ( رسالة شوق - صفحة 5 ) فيها يُحَدِّدُ ويُوَضحُ " نزيهُ " انتماءَهُ القومي وهويَّتهُ العربيَّة فهو فلسطيني عربي ينتمي للأمَّةِ العربيَّة قاطبية ً - من المحيط ِ للخليج ِ ، حيثُ يقولُ :
( " مَسْكوُنٌ بالعشق ِ الشَّرقيِّ أنا
مُنذ ُ تناهَى بَصَري // وَأطلُّ على بحر ٍ ونخيلْ
وَيدي مرَّتْ في وطن ِ الليلكْ // وانتزعَتْ شوكة َ عبَّادَ الشَّمس // ومالتْ
وَسبيلي ظلَّ في غيرِ سبيلْ // مَنْ يشفي عشقكَ هذا
بَصَري - قلتُ لها -
يتكحَّلُ في صبح ِ الهرم ِ الأكبرْ
ويدي // أغسلها في ماء ِ النيلْ
ويقولُ أيضًا :" فصحتُ بأنَّ الصحراءَ تقاسمني جسَدَ النخل ِ // ولونَ القمح البني
ويقولُ أخيرًا : " يتكىءُ المَوَّالُ العربيُّ على صيحة ِ آه
ولماذا يتكىءُ التاريخُ العربيُّ على صيحةِ ... واه مُعتصماهْ ..؟؟ " .
إنَّ الصحراءَ هي رمز ٌ للقوميَّةِ العربيَّة ِ وللأمَّةِ العربيَّةِ العظيمةِ التي كانت في يوم ٍ من الأيام ِ تحكمُ معظمَ بقاعَ الأرض ِ وتنشرُ النورَ والعلمَ والحضارةَ على جميع ِ الأمم ِ والشعوب ِ الأخرى . وقد عاشت هذه الأمَّةُ ولاقت الكثيرَ وعانتت من جحافل الطغاةِ والمُستعمرين الأجانب ، فلهذا يتساءلُ نزيه : لماذا الموَّالُ العربيُّ حزينٌ يتكىءُ على كلمة ( نغمة ) آه ، والتاريخُ العربيُّ دائما تنعكسُ وتنبثقُ منهُ صيحة " وا مُعتصماه " - رمزا ً للمساعدةِ والنخوةِ والإنقاذ ِ . فالأمَّة ُ العربيَّة مرَّت بالكثير ِ من المآسي والضيقات ِ والنكساتِ منذ ُ كربلاء إلى الآن ، مثل : غزو التتار لبغداد وللبلاد العربيَّةِ والإسلاميَّة ، والحروب والغزوات الصَّليبيَّة ، والإستعمار التركي ، ثمَّ الغربي فيما بعد ، ونكبة فلسطين ، والهزائم المتلاحقة وحرب الخليج ومأساة الشعبِ العراقي وأطفالهِ .. إلخ . ونزيه هنا يستجلي الماضي ويقرأ الحاضرَ ويأتي ببعض ِ العباراتِ والجمل ِ الشعريَّةِ المستوحاة والمُستقاه من التاريخ العربي القديم .
ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان : ( الرَّعيل - صفحة 13 ) ، وهي عموديَّة على وزن ِ البسيط كتِبَتْ وأدرجَتْ جُملها على سكل ِ شعرِ التفعيلة ) ، مهداة ٌ إلى الخرِّيجين والخرِّيجات في نهايةِ السنةِ الدراسيَّةِ ، يقولُ فيها :
( " لا تُوْصِدِ البابَ إني عابرٌ تَعِبُ تنأى المسافاتُ في وجهي وتغتربُ
أكادُ من شجَني أبكي على َشجَني فهلْ يعودُ زمانٌ طيِّبٌ عذِبُ
فهلْ أنامُ قليلا فوقَ مقعدِنا يا حاديَ العيسِ لا سارتْ بكِ الرُّكبُ ...ويقولُ: أمضي ونافذةُ المجهولِ ترقبني وفسحة ُ العمرِ تنأى ثمَّ تقتربُ
والقصيدة ُ جميلة ٌ وعذبة ٌ وفيها بعض ُ التجديدِ بالرغم ِ من كون ِ شكلها الخارجي كلاسيكي ( تقليدي ) ، وفيها يظهر ُ شوقُ الطالبِ وحنينه إلى أيام ِ التعليم ِ ومقعدِ الدراسةِ الذي قضى سنينا من حياتهِ وعمرهِ عليهِ ( قبل التخرُّج ِ ) ويتحدَّثُ في القصيدةِ على لسان الكثيرين من الطلاب الذين تخرَّجوا ومجهولٌ غدُهُم ومستقبلهم العملي والمهني بالرغم ِ من كونهم تخرَّجُوا ويحملونَ الشهادات ، فمصيرُهم مجهولٌ وفسحةُ الأمل والنجاح تذهبُ وتجيىءُ ، وكما أنَّ نزيه يقتبسُ بعضَ المصطلحات أحيانا وبعضَ العبارات الشعريَّة ويُوظفها في قصيدتهِ ليدعمَ ويوضحَ فكرة ً يُريدُها فيأتينا بما هو جديد ومُبتكر وحسن . فقد أخذ َ مقطعا ً من موشَّح ( قصيدة لإبراهيم طوقان ) وكتبَ على نمطهِ شطرةً جميلة ً ً وضعَها على شكل ِ تضمين ، والمقطع من قصيدة إبراهيم هو :
" يا تينُ يا توتُ يا رمَّانُ يا عنَبُ " ، ونزيهٌ جاءنا بكلماتٍ جديدةٍ ومعنى جديد ليدعمَ فكرتهُ حيثُ يقولُ :
" هنا تركتُ كنوزَ الأرضِ بائسة ً يا دُرُّ يا آسُ يا ياقوتُ يا ذهبُ"
.. أي أنَّ الطالبَ تركَ أعز َّ ما لديهِ بعدَ تخرُّجهِ ... تركَ احلى سنين عمرهِ وذكرياته وصباباته ومغامراتهُ العاطفيَّة وغيرها.. وزملاءهُ ورفاق َ دربهِ وأترابه فهم أغلى من الآس ِ والياقوت ِ والذهبِ .
وفي قصيدة ( توشيحة عراقيَّة من ألف ليلة وليلة صفحة 31 ) يتحدَّثُ فيها عن هموم ِ الإنسان ِ العربي والوضع الرَّديىءِ والمُزري الذي وصلت إليهِ الأمَّة ُ العربيَّة من ناحيةِ الذلِّ والخنوع ِ وربط ِ مصيرها بالأجانب والغرباء ِ وفقدانها كرامتها ودورها القيادي والتاريخي الهام عالميًّا ، ويتطرَّق ُ إلى مأساةِ الشَّعبِ العراقي ويُوظفُ نزيهُ هنا بعض َ الرموز ِ والإيحاءات التاريخيَّة ، ولكنهُ في توظيفهِ هذا تبقى معانيهِ واضحة ً جدًّا ومفهومة ً ، مفادُها للهدفِ والموضوع والفكرة ِ التي يُريدُها فهو يستعملُ السهلَ المُمتنع بالمعنى الدَّقيق ، فيقولُ في قصيدتهِ مثلا ً :
( " أنا لستُ مُتكئا ً على جرحي // ولا غردًا ينوحُ ببابِ الطاق ْ
أنا عاتبٌ يشكو إلى زمن ٍ يهونُ بهِ الوفاقْ //
هل عادَ أحفادُ البرامكةِ الذينَ تفرَّقوا // في عصر ِهارون ِ الرشيدِ إلى العراقْ
فأينَ نبيتُ يا بغدادُ ليلتنا // وأينَ لنا لقاءْ
ويقولُ : أم أسْرَجَ الفضل بنُ الربيع حصانهُ ... ؟ // أنا لستُ مُتكئا ًعلى جرحي //
// ولكن كربلاءْ //
يا ألفَ ليلةٍ إرجعي // ليلات عطرٍ في مجالس ِ شهرزادْ
هل في المدينةِ من يردُّ لها الصَّباحْ // هل في المدينةِ َمن يَرُدُّ لها المساءْ ")
هو يتساءلُ هل عادَ أحفادُ البرامكةِ إلى العراقِ ... أي أنَّ الغرباءَ من الأقوامم والشُّعوبِ الأخرى قد دخلوا شرقنا وسيطروا واستولوا على كلِّ شيىء ٍ فيه من ناحيةِ الخيرات والموارد الطبيعيَّة وعقول ونفوس المواطنين ورقابهم ، وما الحكام العرب سوى دميةٍ في أيدي الغرباء والمستعمرين وأصبحتْ مجالسُ شهرزاد قفراءَ فمن الذي سيردُّ لها المساءَ والصباحَ ويُعيدُ لها حرِّيَّتها وكرامتها . ونحنُ كعربٍ تكثرُ في تاريخنا المآسي والنكباتُ ، حيتدثُ يقولُ شاعرُنا : " ولكن كربلاء ". فكربلاءُ هنا هي رمزٌ لكلِّ مأساة ٍ يكونُ فيها الجاني والمجني عليهِ من العربِ أنفسِهم .
ويقولُ في القصيدةِ أيضًا :
( " يا أيُّها العربُ الذينَ تسمَّروأ // من أينَ أعطيكم بقيَّة َ نخوةٍ
وبقاءَ عاطفة ٍ ومسحةَ كبرياءْ //
لم يبقَ إلا أن تعرينَ العراقيَّاتُ // في وجهِ البرابرةِ الغزاةِ صدورهنَّ
وبعضكمُ ْ يلغُو // وبعض ٌ في ُسبَاتْ
يا لأيُّها العربُ الذينَ تسمَّرُوا
كانَ الفراتُ لكم مداخلَ جنَّةٍ // وسياجَ نخل ٍ يميلُ على الفراتْ " )... إلخ .
إنَّ الوضعَ العربي اليوم ( الإجتماعي والسياسي والإنساني ) لا يُحسدُ عليهِ ، فالأمَّة ُ العربيَّةُ في تفككٍ وتشرذمٍ وتراجع ٍ وتخاذل ٍ وغير مُباليةٍ لما يجري حولها من أحداثٍ جسام ٍ ، وشاعرُنا يتساءلُ : من أينِ سأعطيكم النخوةَ والعاطفة النقيَّة ومسحَة الكبرياء والكرامة لتثوروا على الوضع ِ المُزري الذي أنتم فيهِ ، لأنَّ معظمَ ( القيادة العربيَّة والأمة ككل ) في سباتِ ونوم ٍعميق ، والبعض يلغو ، ولكنَّ لغوَهم وخطبَهمْ مجرَّدُ كلام ٍ عقيم ٍ ليسَ لهُ أيُّ رصيدٍ عمليٍّ على أرضِ الواقع ِ ( بعض القادة والمسؤولين العرب ) . فالغربُ بذ َكائهِ ودهائهِ يجتاحُ كلَّ شيىءٍ ويغزُو الإنسانَ العربي والشرقَ من ناحيةٍ فكريَّةٍ واقتصاديَّةٍ وتيكنيلوجيَّةٍ وإنسانيَّةٍ ويستغلُّ خيرات الشرق ويضعُ العراقيلَ والحواجزَ أمامَ الإنسان العربي حتى لا يصل ويتطوَّر علميًّ وتيكنيلوجيًّا وحضاريًّا والقيادةُ العربيَّةُ مجرَّدُ دُمىً في أيدي السياسةِ الغربيَّةِ الإستعماريَّة الأمبرياليَّة توجِّهها كما تشاءُ . ومع كلِّ ما يجري من مآسي وكوارث وعدوان لبعض البقاع والمناطق في الشرقِ العربي فالأمَّةُ العربيَّة ُ والحكام العرب لا يحرِّكونَ ساكنا لأنَّ الغربَ يطلبُ منهم ذلكَ ( من الحكام ِ العرب ) . فلم يبق َ - حسب قول ِ شاعرنا نزيه - سوى أن ُتعَرِّي العراقيَّاتُ صدورَهنَّ وتكشفُ عن نهودَهنَّ وعوراتهنَّ ومفاتِنهنَّ الجسديَّة في وجهِ البرابرةِ الغزاةِ وفي وجهِ الإجتياح والغزو الأجنبي على جميع ِ أنواعهِ . والعراقيَّاتُ (( منذ ُ غزو هولاكو لبغداد )) أصبحنَ كرمز ٍ لكلِّ بلدٍ وقطر ٍعربيٍّ يتعرَّضُ لاجتياحِ ولغزوٍ واعتداءٍ أجنبي . وفي هذه القصيدةِ نجدُ عند نزيه الصورَ الشعريَّة َ الجميلة َ الخلابة َ حيثُ يقولُ :
( " كانَ العراق ُ إليكم مداخلَ جَنَّةٍ وسياجُهُ نخلٌ يميلُ على الفراتْ " )
أي كانَ الفراتُ وما زالَ جنة ً للقلوبِ والنخيلُ يحيطهُ كسياج ٍ من كلِّ جانب ٍ قد تعرَّضَ للقصفِ والعدوان ِ . وفي نهاية ِ القصيدةِ يقولُ :
( " ورأيتُ بيض َ الهندِ ُترفعُ تارة ً
وتردُّ في أخرى إلى العربِ الجوارْ
كانتْ منازلهُمْ تصيحُ ... وخيلهُم ترغُو ...
كأنَّ مَخاضَهُمْ آتٍ... وأَنَّ محمَّدَ العربيَّ عادْ //
كانت فوارسُهُمْ تقاتلُ بعضَهَا // وملوكهُم ْ// كانت ُتحَاكِمُ شهرزادْ // " )
ففي نهايةِ القصيدةِ نرى صبغة التفاؤل والأمل وأنَّ المخاضَ سيأتي وترجعُ للعروبةِ الكرامة والعزَّة والحقوق الكاملة ، وكانَّ النبيَّ " محمد " رجعَ وعادَ ( بُعِثَ من جديد ) ليعيدَ للأمَّةِ العربيَّةِ الوحدةَ واللحمة القوميَّة والسُّؤدُدَ والمجدَ والقوَّةَ والقيمَ والأخلاقَ والإلتزامَ والإيمانَ .
ولننتقل إلى قصيدة ٍ أخرى وهي بعنوان : ( تصويغٌ جديد ٌ لنشيدِ الإنشاد - صفحة 60 - على بحر المتدارك " الخبب " ) ، نظمَ نزيهُ هذه القصيدة على نمط نشيدِ الإنشاد الذي لسليمان الحكيم ، ولكن بصيغة ٍ وبأسلوب ٍ جديدٍ وبتوجُّهٍ وبرُؤيا جديدة . ويُدخلُ إلى هذهِ القصيدةِ بعضَ التعابير ِ والمُرادفات والمواضع الجديدة غير الموجودة في نشيدِ سليمان . وهو يتحدَّثُ عن القضايا العربيَّةٍ والقضيَّةِ الفلسطينيَّة ، ويظهرُ تأثُّرُ نزيهٍ هنا بوضوح ٍ بالكتابِ المقدَّس . وهذه القصيدة ُ رائعة ٌ من ناحيةِ البُعدِ الفني والمعاني العميقة والأسلوب الرَّشيق الجميل والكلمات العذبة الحلوة ، وتحملُ الكثيرَ من الأبعادِ والأهدافِ الإنسانيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة والقوميَّة .
يقولُ فيها : ( " أكرمني بنشيدِ العشق // وسَامِرْني في ليلِ العِطرْ //
قالتْ واحملني فوقَ ذراعِكَ الرَّاحمتين // فأنا عذراءٌ يأخُذها السِّحرْ // ويقولُ فيها : ( " فأنا سلطانةُ أرضِ العشقِ وسوسنةُ الوديانْ //
َمنْ يأكل شهدي مع عسلي // لا يضرب في سيفِ السُّلطانْ //
بلْ يضرب لي عُنق َ السُّلطانْ // " )
نحنُ نلمسُ هنا ونستشفُّ روحَ المُقاومةِ والتصَدِّي للظلم ِ والطغيان والثورة على كلَّ شرٍّ وإثم ٍ وعدوان . ويُنهي القصيدة َ بهذه الكلمات :
( " هنا الحرسُ الطائفُ في ساحاتِ مدينتنا
لا يعشقُ وردَ عصا الرَّاعي // لا يعرفُ إلا َّ ضربَ عصا الرَّاعي
فتعَلّمْ من قلبِ الإنشادِ ومن فرح ِ الأحزانْ //
ما يجهلُ هذا الملكُ الجالسُ في عرش ِالسلطانْ
مِنْ أنَّ جنوبَ الكرةِ الأرضيَّةِ // لن يرمز بعدَ اليوم إلى الفقرِ القاتل والحرمانْ //
وبأنَّ كراسي المدرسة الشرقيَّة // تبدأ من ألفِ جنوبٍ في لبنانْ // " )
نجدُ هنا بوضوح ٍ البعدَ الفكري والقومي والإنساني ، وأنَّ العربَ والشرقَ هم أوَّلُ من وضعوُا الأبجديَّة وعلموا الناسَ والأممَ وأعطوا النورَ والحضارةَ والعلمَ والرّقيَّ للبشر أجمعين وأنَّ لبنانَ يُعتبرُ أوّلَ مدرسةٍ للأبجديَّةِ في الشَّرق .
وفي قصيدة ِ ( مراثي مدن الشَّرق - صفحة 47 - ) يتحدَّثُ فيها عن مآسي معظم ِ الكتابِ والشعراءِ العربِ وقضيَّة هروبهم من وطنهم وبلادِهم إلى الدول الغربيَّةِ خوفا ً من سوطِ الحاكم وعقابِهِ ، مثل الشعراء الكبار العمالقة : كالجواهري والبياتي وبلند الحيدري ومُضفر النوَّاب ونزار قباني طالبين حقّ اللجوء السياسي ... وبعض هؤلاء الشعراء كانت تربطهُم صداقة ٌ وعلاقة ٌ وطيدة ٌ مع الشاعر المرحوم " نزيه خير " ويقول نزيه في قصيدتهِ :
( " أنا الشاعرُ الهاربُ بلندُ الحيدري // المولودُ في العراق والمُقيمُ في لندن //
أتلفتُ حولي ألفَ مرَّةٍ وأنا أسيرُ بينَ بيتي وبينَ محطَّة ِ القطارْ " )
ويقولُ أيضًا : ( " وأنا الشاعرُ المنفيُّ مجازا نزار قبَّاني
المولودُ في سوريَّا والمُتنقلُ بينَ جينيف ولندن
تركتُ لكمْ دمَ بلقيس على حائطِ بيروت !
ويقولُ : ( " وأنا الشاعرُ المنفيُّ إراديًّا صديقكم أبوعلي عبد الوهاب البياتي
أتمنى ليلة ً أجلسُ فيها على الفراتِ ولا يأتي أحدٌ ببيان ٍ جاهز ٍ
لكي أوقع عليهِ " ) ... إلخ ... . وهذه القصيدة ُ كتبتْ بأسلوبٍ تهكميٍّ وحزين ٍ للوضع ِ العربي قاطبة ً وما يعانيهِ خيرة ُ الكتاب والشعراء من ظلم وإجحاف ٍ لمعارضتهم وعدم رضائهم للوضع القائم ِ هناك في ظلِّ الأنظمةِ الرجعيَّة القمعيَّةِ ، ولهذا اضطرَّ العديدُ من خيرة ِ الشعراء والكتاب والمفكرين والعباقرة العرب المذكورين أعلاه للهجرةِ تاركين وطنهم ومسقط رأسهم طلبا ً للتنفس ِ وللحريَّة ِ وللتعبير ِ عمَّا يجيشُ في وجدانِهِم وأحاسيسِهِم من هموم ٍ وآمال ٍ وأحلام ٍ وطموحات ولواعج إنسانيَّة . لقد تأثَّرَ " نزيه خير " شعريًّا بالكثير ِ من الأفكار ِ التقدميَّة ِ وبالكتبِ المقدسةِ ، وتأثَّرَ بشكل ٍ خاص بالديانة التوحيديَّةِ الدرزيَّةِ وبالفلسفةِ اليونانيَّةِ والأفلاطونيَّةِ الحديثةِ التي استمدَّت الديانةُ الدرزيَّةُ منها الكثيرَ من الآراءِ والنظريَّات أسوةً بالعديدِ منَ المذاهب والفرق التي خرجت من الشيعة ِالإسلاميَّة . وكما أنَّ " نزيه " يأخذُ بعضَ المفردات والتعابير والأمثلة القديمة ويوظفها بشكل ٍ جيِّدٍ في قصائدهِ ، مثلا ً : هنالك البيت الشعري القديم لطرفةِ ابن العبد البكري من معلقتهِ وهو : ( وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضَاضةً على المرءِ من وقع الحسامِ المهنَّدِ )
وأما نزيه فيقولُ في قصيدةٍ لهُ مُخاطِبًا وطنهُ :
( " فالسيفُ المرفوعُ إلى ظهرك // في كهفِ الأهلِ وفي كفِّ الأحبابْ
أقسى من طعنةِ سيفٍ في صدرك من كفِّ الأعداءْ " ) .
وهنا ، بالطبع ، فنزيه جاءنا بشكلٍ وبشيىءٍ جديد وبرؤيا جديدة مبتكرة ، وهو يعرف كيفَ يستفيدُ من الأمثلةِ والمرادفاتِ أو المعاني والصور القديمةِ والمألوفةِ والقوالبِ الشعريَّةِ الجاهزةِ وكيف يعملُ على تطويرها ويصوغها ويصقلها من جديد ويضيفُ عليها من عنده ، من خيالهِ ، وعبقريَّتِهِ بما يتلاءمُ مع الموضوع ِ والهدفِ الذي يريدُهُ ومقتضيات وأصول التجديد والابتكار الفني والأدبي في العصر ِ الحديث . ومثالٌ على ذلك قصيدته " تصويغ جديد لنشيد ِ الإنشاد " . وقد لفتَ انتباهي قصيدتهُ " مديح الشِّعر العالي " التي فيها يكيلُ ويلقي اللومَ والإنتقادَ الشديدَ على الذين يكتبونَ شعرًا عقيمًا سخيفا دونما معنى وطعم ٍ ولون ٍ فيصفّونَ ويرصُّونَ الكلمات والجملَ والتعابيرَ المُبهمة ادِّعاءً ( منهم ) في التجديدِ والحداثةِ ويغرقونَ ويتوغَّلونَ في السَّخافةِ والتخبيصِ والدَّجل ِ والخزعبلاتِ فتكونُ كتاباتهُم مُجَرَّدَ هذيان ولإضاعةِ الوقتِ ... وتعقيدا وتخريبًا للأجيالِ الجديدة الواعدةِ ، لأنها لا تحملُ ( كتاباتهم وتخبيصاتهم ) أيَّةَ رسالةٍ إنسانيَّة ٍ أو أدبيَّةٍ أو فكريَّة ٍ للناسِ ، فيقولُ نزيهُ في هذهِ القصيدةٍ :
(" واسعة ٌ جدًّا يا خيمتنا الفضفاضة // يا خيمتنا الممتدَّةُ في ليل ِ العباسيَّين
إلى مطلع ِهذا العصر// يدخلكِ الخِسَّة ُ والدجالون // واصحابُ اللحن // وأتباعُ العُهْرْ // لم يبقَ لدينا جمهورٌ يهتفُ للشعراء // فأينَ جماهيرُ الشِّعرْ //
لم يبقَ لدينا دجَّالٌ موتورٌ // إلاَّ واغتصبَ الشِّعرْ
ويقولُ أيضًا :(" لكنكَ لا تفتحُ في هذا الزمن السَّيِّىءِ بابا ً// إلاَّ وترَى مُتَّهَمًا بالشِّعر//
// لا يعرفُ كيفَ الفعلُ الماضي // ويكونُ الأمرْ //
ويُعلّمُ جيلا ً منَ رُوَّادِ الأمَّةِ كيفَ يكونُ الشِّعرْ // " )... إلخ ...
هو يتحدَّ ثُ عن الشعر ِ العربي عامَّة ً ومراحل تطورهِ منذ العصر ِ العباسي إلى الآن ، وكيفَ في عصرنا أصبحَ الكثيرونَ من الدَّجالين والدخلاءِ على الشِّعر ِ والأدبِ ولا يعرفونَ الفعلَ الماضي من المُضارع ِ والأمر يدَّعونَ أنهم شعراء كبار ويشوشون ويعرقلون المسيرة الأدبيَّة والشعريَّة َ العربيَّة َ في ادَّعاءاتِهم وتعاليمِهم العقيمةِ ومفاهيمهم الخاطئة المُسِيئة