من ضروريات الحضارة لكل أمة وعي المجتمعات لأهمية التأليف والقراءة " إقرا باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم " .
هذه الآية الكريمة كانت أول ما نزل من القرآن الكريم ، تحض على القراءة والكتابة . ومع ذلك تجد أن الأمة العربية والإسلامية اقل الأمم حظا في القراءة ، بحيث لا يزيد معدل قراءة المواطن العربي عن ربع صفحة في العام !. وبخصوص التأليف قد نفاجأ أن في بلجيكا وحدها يصل انتاج الكتب الى 12,000 كتاب سنويا ، مقابل 3000 كتاب للعرب أجمعين .
لقد اصبح الأدب العربي هامشيا في سوق الآداب السائدة . المكتبات اليوم تكاد تكون مهجورة ، والمؤسسات الثقافية تتعامل مع الأدب من منظور نفعي ، لم يعد قيمة للكتاب بين الجمهور . مما يدفع الأديب ان يأسف على جهده الضائع .على سبيل المثال ، القاص والروائي المغربي المتميز احمد بوزفور رفض جائزة المغرب للكتاب ، لأن كتابه الإبداعي الذي فاز بالجائزة لم يتجاوز رقم مبيعاته الخمسمائة نسخة في بلد يتجاوز عدد سكانه ثلاثين مليون نسمة .
أين نحن من المجتمعات الأوروبية والأمريكية ، يقرؤون شعرا علما وروايات في القطارات والطائرات والحدائق العامة ، يأمون المكتبات ويصطفون بالدور للحصول على نسخة من كتاب جديد .
بديهي أن هناك مسببات أدت الى إهمال الإنسان العربي للقراءة ، مثل التجهيل المتعمد الذي مورس علينا في القرون الماضية ، ثم ثورة التكنولوجيا والتقنيات الحديثة ، فانتشار الانترنت وسهولة البحث في الكم الهائل من المعلومات على الانترنت أدت بالكثيرين الى هجر الكتاب والصحف والمجلات ، فضلا عن أن العديد من المؤسسات الثقافية أصبحت تتعامل بالنشر الإلكتروني ، ولكن حتى هذه المواقع الثقافية لا تحظى إلا بالنزر اليسير من القراء العرب .
وقد يكون من باب الموضوعية الإشارة الى مسببات اخرى إنعكست سلبا على القراءة ، هم الأدباء انفسهم ، فالمشهد الأدبي المعاصر يطفح بأدب الضجيج وأدب الإشاعة ، ثم ابتعاد الأدب لا سيما الشعر عن هموم وقضايا الناس الى مناخات ومتاهات مغرقة بالخيال والغموض ، ناهيك عن التنافس والتزاحم بين الأدباء ، من سيتفوق ومن سيلغي الآخر ومن سيرث الآخر ! .
الحقيقة المزعجة ان الأدباء العرب اصبحوا شريحة معزولة اهتماما وتأثيرا ، نحن نغرد في واد ، والجمهور عنا في واد آخر . الأديب العربي اليوم هو منتج بدون مستهلك ، مبعثر للوقت في دنيا لا يهمها ما يقول ! . نجود بعصارة قلوبنا ورحيق افكارنا فلا نجد سوى الجحود والإهمال !
ولولا هذا الذي يسمّى حافز الكتابة لكنت عفوت عن أوراقي البيْض ، او عملت بقول الإمام الغزالي " غزلت لهم غزلا دقيقا ، فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي " .
ومما يزيد الأمر سوءا في وضع ثقافي كهذا ، هو إغماط الأديب حقه في الإنتشار ، لا أقصد الإنتشار في الصحف والمواقع الإلكترونية ، فهذا أصبح متاحا للجميع ، إنما أقصد الإهتمام بالإبداع الحقيقي بأن يبقى في أذهان الناس ، وأن تهتم به المؤسسات الثقافية كأحد اساليب التغذية الثقافية للأجيال الصاعدة .
نعرف الكثير من المبدعين في الوطن العربي لا يحظون بأكثر من قراءة عابرة ، وإن حظي أحدهم بإضاءة هنا أو نقد هناك ، سرعان ما يعود الى الظل بانتظار فرصة اخرى ! .
وهذا ينسحب على بلادنا عرب 48 من جيل الشباب وأجيال سابقة هم أدباء مبدعون حقا ، إن لم يكن في كل ما يكتبون ففي الأجواء المشرقة من طفراتهم الملموسة ، كان من المفترض أن ينتشروا إقليميا ــ أو على الأقل بعضهم ــ بما يتناسب وقدراتهم الكتابية شعرا قصة ورواية ، لكن لسوء حظهم أننا في زمن اصبح فيه الأديب كمن يزرع في انثناءات الصخور ! .
أمام التراجع الملموس في نسبة القراء ، ظل أن نتصوّر ماذا سيحدث للأدب مستقبلا ، ربما سيصل معدل قراءة المواطن العربي كلمة واحدة في العام ، أو لا كلمة على الإطلاق .
أتنبأ أن أدبنا العربي لن يعيش أكثر من عقدين قادمين ، سيصاب الأدباء بالإحباط التام ، ولن تجد من هو على استعداد أن يكتب ما دام لا أحد يقرأ نتاجه . سيدخل الأدب مرحلة الصمت المطبق ، سيغدو فراشات محنطة تعلق على الجدران كالأيقونات . وبمرور الزمن سيتحول الى اسطورة للأجيال القادمة . سيقولون ، هنا في أرض العرب ، كانت بوتقة تنصهر فيها الأفكار الجميلة والمشاعر الانسانية ، كانت سحابة قامتها اللازورد والثرى ، من حدود البرتقال الى أقصى النخيل ، فجاءت أمة غير مكترثة وأدت رحم السحابة ، وجعلت بروقها الخضر حطبا يابسا وهشيما تلتهمه الايام .
هذا إذا لم تحدث معجزة تنقذ الأدب من مأزقه ، وتعيد عنفوانه ، وما أهدر من نسغه ظلما وجهلا ، بل جريمة نكراء !.