الشعراء هم أفضل رمز للمثقف في كل زمان، وخاصة في ثقافتنا العربية.
دأب سلاطين العرب دائمًا على استئجار قرائح الشعراء، وكيف لا، والشعر هو الوسيلة الاعلامية الأكثر انتشارًا في عالم العرب في وقت قلَّ من يعرف القراءة والكتابة، ولم تتغير الحال في وقتنا، انما تعمق تحكم السلاطين برقاب الناس وانفاسها.
ازداد عدد من يعرفون القراءة والكتابة، ولكن القراءة صارت من الكماليات في حياة العرب، اي لم يتغير الحال وظل الرواة والمحدثين من مروجي الحكايات الشعرية والغيبيات والخرافات والخوارق هم وسائل اعلام المجتمع.
حمل الشعر في وقته، الحكايات والأحداث، حسب مفاهيم ذلك العصر، وكان اما شعرًا هجائيًا أو مديحًا اما إذلالاً او تكريمًا، اما حبًا أو كراهية…أو بطولات اسطورية، وما زلنا في نفس الساحة لم يتغير فينا الا وسائل تنقلنا ونوع مساكننا، وأنواع أكلنا.
قال الشاعر السوداني المبدع محمد الفيتوري:"نحن كشعراء في هذا العصر، فقدنا أنفسنا وفقدنا علاقتنا بالواقع الاجتماعي، وفقدنا قيمنا الانسانية، ولم نعد نمثل شيئاً على الأطلاق، لذلك يزعم بعض المدعين انهم شعراء، أنهم مجرد ضباب ومجرد فراغ، يسيرون في الهواء الطلق بدون ماض وبدون مستقبل".
لو قرأت هذا التقييم بدون اسم الفيتوري، لظننت ان كاتبه اديب محلي يقلقه ما يدور في ثقافتنا العربية داخل اسرائيل وخاصة في شعرنا.
بالطبع السلاطين العرب ازدادوا عددا وأشكالا وتعددت مناصبهم طولا وعرضا، وارتفاعا وانخفاضا، وكثر الطلب على الدلالين والمداحين ومنظمي الكلام. وبما ان الشعر والشعراء هي أشهر ما تبقى في الذاكرة من موروثات تاريخ “الأمجاد العربية”، لذا طمع السلاطين بحشد الشعراء في صفوف “السحيجة”، ارادوا اخضاعهم لسلطانهم بصفتهم حافظوا على مكانتهم كأهم وسيلة اعلامية الى جانب الدعاة والشيوخ الأجلاء، في مجتمع سماعي يرفض استعمال كماليات القراءة، فاستأجروا قرائح الشعراء وذممهم، بصفتهم ممثلي الاعلام الشعبي، بعد ضمان الاعلام الإلهي بإعلانهم الرسمي المتكرر اسبوعيا بالورع وطاعة الله وتقديم قرابين الدولارات، وبصفتهم أولي أمره في دولهم وأحزابهم وقبائلهم.
ربما تكون بعض الحكايات التي نقلها التاريخ على ألسن الشعراء، مجرد تشويه للحقيقة التاريخية وتحريفها بما يتلاءم وحجم العطاء (القربان) الذي يهبه السلطان. حجم العطاء يقرر نوع المديح واعلاء شأن السلطان، وتمجيد كل ترهاته الكلامية وبطشه واستبداده وجعل غبائه وضيق أفقه استجابة لأوامر ربانية، وبالطبع تعداد بطولاته الحربية (مثل انتصارات العرب على الصهاينة والأمريكان) وفحولته الأسطورية، وتعداد صاحبات النعمة اللواتي فض سلطان زمانه بكارتهن.
إن الابتذال في الفهم الأدبي، هو من أخطر الاجتهادات الثقافية ويقود الى التستر بالأقوال الطنانة المنمقة على الغالب، أو التستر بالحكمة الكاذبة، ويجيئني قول لكارل ماركس عن الاجتهادات الثقافية المماثلة التي عملياً لم تتوقف منذ بدأ العقل البشري مسيرته الفكرية، إذ وصف ماركس الابتذال في التفكير بـ "تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام" وهذا ما يفسر الكثير من مجريات حياتنا الثقافية اليوم ابداعاً ونقداً.
في مراجعة نقدية لناقد حول ديوان شعر، ولا اريد التطرق للأسماء، لأن الموضع ليس شخصي، كتب بتمهيده النقدي عن صاحب الديوان: " هو في جميع ما يكتب تتجلى شاعريته بخصوبة الفكر والكلمة التي باتت تميز ما يكتب. وهو انسان واسع الاطلاع مثقف وقارئ كثير القراءة والمطالعات. ونحن نلمس ذلك من خلال قصائده والتلميحات الكثيرة لمصطلحات ادبية عالمية ولأسماء لامعة في الابداع في أدب الغرب والشرق على حد سواء، وهو الى جانب ذلك متبحر في قواعد اللغة العربية وبحور الشعر على مختلف تفعيلاتها."
لم نقرأ نقدا، لأنه عندما تتحول هذه " الفتوى" الأدبية الى مقال نقدي ينشر كنقد ادبي، يصبح من حق القارئ ان يفهم القاعدة التي ينطلق منها هذا التأليه للشاعر وشعره موضوع " النقد ".
لست في مجال تقييم شعر ذلك الشاعر، وقد يكون حقا يستحق المديح، لكن تلك المقدمة انهت النقد وافقدت مقال الناقد من قيمته النقدية والفكرية.
ولا بد ان أسجل حتى لا افهم خطأ، ان الموضوع ثقافي عام ويخصنا جميعا بغض النظر عن ابداع الشاعر واستحقاقه للمدح!!.
ولا بد من إضافة انهي بها مقالتي: يؤلمني حتى النخاع التضليل الأدبي الذي يقوم به بعض مثقفينا، تحت نصوص تسمى بالنقد، يغيب عنها النقد، وتغيب عنها الذائقة الأدبية البديهية، وأكثر ما يغيب عنها المصداقية والاستقامة الادبية، وهذه الظاهرة تتسع باضطراد في الثقافة العربية داخل إسرائيل، ويبدو اننا ننسخها من حركة النقد العربي عامة.