الى ليانه....
لَم تلزم الهدوء يَوما، كما الهدوء لم يلزمها، من عَلمّنا أن نلزم الصُراخ وان نَسْتصرخ الفرح؟
داهمتنا نبوءة...هي ذاتها... ليانه، كانت تبعثر الحبوب لعصافير الخريف.
ظلّها خانَ المكان مُبكرا..أحْيى النبوءة أو قتلها...
لا إجابة، فالواقع بضع هذيان، لا أكثر.
الفَرح والمَرح كانَ ثوب النهار. بَهجة العيد غابرة سُرقت من محيّى الورد..والورد من سَرق منّا نظراتنا المَخطوفة إلى جَماله.
قيل لنا: "عاد الدوري إلى المَكان".
فتشّتُ عن الكرسي الذي فرغ وعن الدوري وعن المكان، فأيقنت أن حبوب الحِنطة سوف تَبقى مَحفوظة في أكياسها من عام إلى عام.
الدوري لا يكتب شِعرا بل يَقول الشِعر، وليانه لا تقول كَلاما بل تُسطّر الفرح أنغاما.
البكاء عليها كان تلقائي الحركة، أحد لم يُعلمّنا البكاء وأحد لم يعلمّها الابْتسام.
هل من دوري يأكل الحنطة التي جمعناها بعد رَحيل ليانه؟
ظلّها سكن الحيطان ..ناداني لأبعثر الحبوب نحو كرسيها الفارِغ.
سنجرؤ..
ونبعثر الحِنطة التي جمعتها ليانه، لئلا نحقق الحلم الصغير قبل أن يولد ويموت مع رحيلها.
ناداني صوتها لأخطو الخطوة الأولى نَحو الفراغ، نحو ظلّ حاضر وعصافير الدوري للتوّ استراحت على ذات الكرسي دون أن تفقد صاحبة المكان.
ظلّ ليانه تزيّن ببسمة فرح غير مصطنعة تماما مثلنا كما لم نصطنع حبّها.
رؤيتها كانت حقيقة، ظلّها كان الوهم... بقيت الحقيقة ..بقي الوهم....أوجعتنا الرؤيا والرؤية.
كيف أحببنا ليانة؟
من أول صُدفة وأول حرف نَطقته في كَنف الدار وكنف الحيطان.. من أول لَمسة لخدّ الياسمين الأسمر والأصابع المُرتجفة شوقا للحرّية. من كرسيّ استثقل بحبل الياسمين هديّة عيد، وشمعة أسقطت آخر دمعة قبل نهاية ذلك العيد.
مررت من هناك، تذكرت القصّة، تذكرت الدوري والحنطة، حبل الياسمين والشمعة.
الكرسي مكانه تجرد من دفء جسدها الصغير، حمل مُرّ ما تكبده الأطفال من عناء الحلم بالحرية.
عناء الحلم...هو خيانة الواقع..دون جدوى
هو الحقيقة دون تجلّيها...هو ليانة صرخة حرّية..لّلعب فوق التراب لا تحت التراب.
عدت فمررت لئلا تتخدّر الذكريات العابثات في صفحة كتاب أو سطر دفتر أو مسودّة قصيدة حبلى بالفرح وحلم العيد.
الخريف الأول والعيد الأول على وشك المرور من هنا، انشغل الأطفال في هدايا المناسبة السعيدة، داهَمنا الوقت واليوم، داهَمنا الرحيل وما زالت أكياس الحنطة في المكان..فكم قتلني الدوري وكم أزعجني المكان.
لحبوب الحنطة قصّة مبعثرة الحروف، لم نكتبها ولم نرسمها، بل تنبئنا بأن تتحقق... فيلهو الدوري بقضمها بينما نحن نرقب منقاره وأجنحته وفرحته بخريف بلادنا.
فشلت النبوءة فضاعت حروف القصة، تلاشى رسمها- حزنها- فرحها.
الاقتراب من حفنة الحنطة كانت بمثابة اقتراب إلى برج مظلم لا نسمع فيه سوى صدى أصواتنا التي خفتت عندما عدنا مع بهجة العيد وبهجة الخريف إلى المكان.
****
طار الدوري.
مرّ العيد.
تلاه الخريف.
لم تعد ليانة لا روحا ولا ظلاً..تركتنا والحنطة والعيد، نعيد في قلوبنا ذكراها الحزينة..ونتحسس ما تبقّى من ظلّها الذي خان المكان.
داهمتنا نبوءة...هي ذاتها ليانه، كانت تبعثر الحبوب لعصافير الخريف.
ظلّها خانَ المكان مُبكرا..أحْيى النبوءة أو قتلها...
لا إجابة، فالواقع بضع هذيان، لا أكثر.
تلك هي النبوءة كُتبت بصمت وحبر وهذيان...